• د. زياد أبولبن
ينشغلُ الدكتور محمد عمارة في الدفاع عن طه حسين في كتابه "طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام"، صدر سنة 2015، كما يظهر في عنوان الكتاب نفسه، ويرى عمارة أنَّ كتابه ينصف طه حسين من أنصاره ومن خصومه، فهناك من تعصّبوا لآرائه بوصفهم تلاميذه الأوفياء، ووقفوا عند أفكاره – كما يقول – التي مثّلت مرحلةَ انبهاره بالنموذج الحضاريّ الغربيّ، وتبشيره بهذا النموذج الحضاريّ، وسعيه لإلحاق العقل الشرقيّ بالعقل الغربيّ، كما صنع طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي" سنة 1926، وكتابه الآخر "مستقبل الثقافة في مصر" سنة 1938، فالكتابُ الأوّل برأي عمارة يمثّل قمّةَ المجازفة الفكريّة والعدوانيّة على عددٍ من عقائد الإسلام ومقدساته، أمَّا الكتابُ الثاني يمثّل قمَّة محاولاته إلحاقَ الشرق الإسلاميّ بالنموذج الحضاريّ الغربيّ العلمانيّ، وقسّم عمارة مراحل فكر طه حسين إلى أربع مراحل، وهي:
المرحلةُ الأولى: بداياته الفكريّة، قبل السفر إلى فرنسا سنة 1914م.. وهي التي يمكن أن تأخذ عنوان: [مرحلة الشيخ طه حسين].
تلك المرحلةُ التي بدأت بالتحاقه بالجامعة المصريّة الأهليّة بعد حرمانه من شهادة العالميّة الأزهريّة بسبب تمرّده على الدراسة بالأزهر، فحرمه شيوخه من نيل شهادة العالميّة، فكتب في هذه المرحلة في عددٍ من الصحف المصريّة عن الوطنيّة المصريّة والدستور والحكم النيابي وتحرير المرأة والتدين وتحكيم القرآن والشريعة والفضيلة، وهاجم أعلامَ العصر بضراوة أمثال المنفلوطي والرافعي وحافظ إبراهيم، كما نقد التزيي بالأزياء الإفرنجيّة وتحريمه زواج المسلم من الكتابيّة الأوروبيّة لما يمثله ذلك من مخاطر على دين الأسرة والتربيّة الإسلاميّة للأبناء، ويرفض العلمانيّة، ويذهب إلى ضرورة التزام المسلمين بنشر الإسلام والتوحيد، ومحو الشرك، وإصلاح أحوال المرأة، وجُمعت مقالاتُه في ستِّ مجلدات، جمعتها وطبعتها دارُ الكتب والوثائق القوميّة.
المرحلةُ الثانية: المرحلةُ التي عاد فيها من فرنسا بعد حصوله على الدكتوراه سنة 1917، "مبهوراً" بالغرب الإغريقيّ والرومانيّ والفرنسيّ.. والتي كان فيها "درويشًا" في عالم التغريب، تجاوزت فيها مجازفاته الفكرَ والحضارة إلى حيث اقترف العدوانَ على عددٍ من عقائد الإسلام ومقدساته.. ولقد امتدّت هذه المرحلة لتشمل حقبة العشرينيات من القرن العشرين.
يشارك طه حسين في هذه المرحلة ويدافع عن علمنة الإسلام، كما جاءت في كتاب علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم"، فلم يعد مشروع الإحياء الإسلامي بنظره صالحًا، بل لقد أخذ يتّهم الإسلام بالتناقض مع العلم الحديث، ويطبّق غلو الشك في كتابه "في الشعر الجاهلي"، وأخذ يفصّل في مبالغات عشقه لليونان كما جاء في كتابه "قادة الفكر".
المرحلةُ الثالثة: تلك المرحلةُ التي امتدّت من بدايات الثلاثينيات وحتى قيام ثورة يوليو سنة 1952م.. وفيها كان التطوّرُ الفكريُّ المتدرج والبطيء لطه حسين، عبر العديد من المنعطفات والمتناقضات.. وقد وقف "عمارة" على أهم المعالم البارزة في تلك المرحلة، والتي شكّلت امتدادًا فكريًّا في حياة طه حسين:
1- خلوّ كتاباته من أية إساءةٍ إلى الإسلام الدين، ومقدساته ورموزه.
2- أغلبُ إسلامياتِه بهذه الحقبة على "الهامش"، مُركِّزًا على الأساطير" التي أحاطت بتاريخ صدر الإسلام، كما عادت –بالتدريج- إلى كتاباته الخاصية الإسلامية في الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم [في الوقت الذي خلت فيه المرحلةُ الثانيةُ في كتابات طه حسين من الصلاة والسلام على الرسول]، كما أسهم إسهامًا ملحوظًا في الدفاع عن الإسلام ضد التنصير والمنصّرين، وضد البهائية والبهائيين، وفي لفت الأنظار إلى نماذج دعوات التجديد الإسلاميّ.
واكب هذا التوجّه عند طه حسين كبارُ الكتّاب الذين انشغلوا في الكتابات الإسلاميّة، أمثال: الدكتور محمد حسين هيكل، عباس محمود العقاد.
3- وفي السياسة الإسلاميّة وعلاقة الدين بالدولة توالت تأكيداته على شمول الإسلام للدين والدولة كمنهاجٍ شاملٍ للحياة، وبرزت كتاباته التي تقدّم العدالة الاجتماعية الإسلاميّة حلًا ينقذُ جماهيرَ الفقراء والبؤساء.
4- وفي الموقفِ السياسيّ من الغرب تصاعدت نبرةُ نقدِه للسياسة الاستعماريّة الغربية، بالتزامن مع صعود حركات التحرر الوطنيّ في البلاد الإسلاميّة، وتزايد القمع الاستعماريّ لهذه الحركات.
5- وفي السياسة الداخليّة المصريّة، انتقل طه حسين من معسكر أحزاب الأقليّة التي زاد عجزُها عن النهوض بمهام الاستقلال الوطنيّ، والتي عجزت عن الدفاع عن مواقفه الفكريّة.
6- وظلَّ التغريبُ الحضاريُّ ملحوظًا في العطاء الفكريّ لطه حسين –خلال هذه الحقبة، وخاصة في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر) سنة 1938م- الذي مثّل ذروّةَ التغريب الحضاريّ في مشروعه الفكريّ.
المرحلةُ الرابعة: مرحلةُ الإياب الفكريّ لطه حسين.. الإياب الصريح والحاسم إلى أحضان العروبة والإسلام.. وهي المرحلة التي بدأت بارتباطه الوثيق بثورة "يوليو" ومعاركها الوطنيّة ضد الاستعمار الغربيّ.. وفي سبيل الهُوية العربيّة والقوميّة العربيّة..
يرى عمارة أن طه حسين قد آب في هذه المرحلة الختامية ليمثّل "عقلًا إسلاميًّا" متألقًا.. وهو منطلق دفاع عمارة عن طه حسين في كتابه الذي نقف على فصوله، ليتعرّف القارئ الحصيف على طه حسين المنتصر للإسلام والمدافع عنه، وقد بدأت مرحلة الإياب والانتصار الحاسم للعروبة والإسلام (1952-1960)، أي بدءاً من ثورة الضباط الأحرار عام 1952 على الملكيّة، وقيام نظام جمهوري بدلًا من النظام الملكيّ، وأعلن بضرورة حاكميّة القرآن الكريم والنصوص الدينية على الدستور والقوانين، وانحاز إلى عروبة مصر وإلى القوميّة العربيّة، التي صاغها الإسلام منذ ظهوره.. معتبرًا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأبَ الحقيقيّ للقوميّة العربيّة، واعتبر اللغة العربية والدين الإسلامي ورسول هذا الدين صلى الله عليه وسلم أهمَّ أركان العروبة والقومية العربية.
قام طه حسين برحلته الحجازيّة عام 1955 وزار مكة والمدينة، فكانت زيارته هذه بمثابة الإياب الروحيّ إلى أخضان الإسلام كما وصفها، وقد سُئل فيها عن أحبِّ مؤلفاته إليه؟ فقال: لا أحبُّ منها شيئًا؟! وسُئل ما بيتُ الشِّعر الذي راقكم ورددتموه وحفظتموه لأول وهلة؟ فأجاب: لا أذكر.. إنَّما الشيء الذي لا شكَّ فيه هو أنّني أكثر ما أتلو بيني وبين نفسي آيات من القرآن الكريم، وأنا أكثر ترديدًا للقرآن من الشعر.. وعندما انهالت عليه الأسئلة حول انطباعاته الروحيّة عن هذه الرحلة الحجازيّة؟ كان جوابه الدائم: "إنَّ أوّل ما شعرت به وما زلت أشعرُ به إلى الآن، هو هذا الذي يجده الغريبُ حين يؤوب بعد غيبةٍ طويلةٍ جدًّا إلى موطن عقله وقلبه وروحه بمعنى عام".
ولقد أحرم طه حسين –في جدّة- وركب السيارة قاصدًا مكّة لأداء العمرة.. وأوعز إلى الشيخ أمين الخولي [1313-1385هـ/1896-1966م]- رفيقه في هذه الرحلة الحجازيّة، ورئيس الوفد المصريّ بالمؤتمر – أوعز إليه بإيقاف السيارة لحظةَ وصولها إلى الحديبية. وما إن بلغت السيارة ذلك المكان وتوقفت، حتى ترجّل طه حسين، وقبض من تراب الحديبية قبضة فشمّها، ثم تمتم ودموعه تنساب على التراب قائلًا: والله إنَّي لأشمّ رائحة محمد صلى الله عليه وسلم في هذا التراب الطاهر. وهدّأ مرافقه من روعه على مدى نصف ساعة من الرحلة. ثم استمر الركب حتى دخل الحرم من باب السلام، والدكتور لا يكاد يخفي زلزلة إيمانه عن رفيقه. وتوجّها إلى الكعبة، فتسلم الحجر وقبّله باكيًا، واستمر يطوف في خشوعٍ ضارعٍ وبكاء خفيّ حتى أتمَّ عمرته، وقد أخذ منه الإرهاقُ النفسيُّ أكثر من البدنيّ كل مأخذ.
وذكر أمين الخولي أنَّ "طه حسين حين استلم الحجر الأسود ظل يتنهّد ويبكي، وقبّل الحجر حتى وقفت مواكب المعتمرين انتظارًا لأن يغادر هذا الأديبُ الكبيرُ الكفيفُ مكانَه، ولكنّه أطال البكاء والتنهّد والتقبيل، ونسي نفسه فتركوه في مكانه، وأجهشوا معه في البكاء والتنهيد"!
وبعد أداء العمرة طلب طه حسين ترتيب السفر إلى المدينة المنوّرة.. لكن الطريق البريّ كان مغلقًا بسبب السيول التي حدثت ذلك العام -وطه حسين لا يركب الطائرات أبدًا!.. لكنّه صمّم على السفر إلى المدينة- وإن بالطائرة، وبطائرة أبعد ما تكون عن الراحة والأمان!..
ولقد وصل إلى المدينة –على طائرة خاصّة- مع الوفد المرافق له يوم الأربعاء 2 جمادي الآخرة 1374هــ 26 يناير 1955م.. واتّجه من المطار إلى المسجد النبويّ الشريف، وبعد صلاة في الروضة المطهرة، وزيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم تفقّد عمارة المسجد والتوسعة الجديدة له، وزار المآثر الخالدة..
ولقد وصف هذا المشهد وصفًا أضفى عليه شعورًا بجلال الموقف، وطغى عليه الشعورُ بعظمة هذا المسجد الذي كان مهبطَ الرسالة، ومصدراً لانتشار الإسلام الحنيف..
كان طه حسين يردّد دعاءً حفظه عن ظهر قلب بقوله: "الَّلهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض، لك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن. أنت الحقُّ ووعدك الحقُّ، والجنة حقُّ، والنار حقُّ، والنبيّون حقُّ، والساعة حقُّ، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكّلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وأخرت، وما أسررت، وما أعلنت، أنت إلهي، لا إله إلا أنت!".
توّج طه حسين رحلته الروحيّة بمراجعاته الفكريّة في كتابه "مرآة الإسلام" سنة 1959، والذي نقض فيه لكل ما سبق وذكره طه حسين "في الشعر الجاهليّ"، وكتابه "الشيخان" سنة 1960.
يتضمن كتابُ "طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام" شواهدَ عديدةً بما ذهب إليه الدكتور محمد عمارة من مؤلفات طه حسين ومقالاته وسيرته ومراسلاته، وما كُتب عنه من مؤلفات ومقالات منشورة، ولم يأت عماره بكلام مناصري طه حسين أو خصومه، وإنَّما جاء بكلام طه حسين نفسه.