"يرى الناسُ ما يريدون رؤيته، وما يريدون رؤيته لا علاقةَ له أبدًا بالحقيقة".
"روبرتو بولانيو أفالوس"/ كاتب تشيلي
ليس أحبّ على الكاتب من وصول عمله إلى أكبر عددٍ ممكنٍ من القرّاء. إذ لا شيء يمنحه لحظات سعادة كما حين يشعر بإقبال الناس عليه، فالنجاحُ يشكّلُ مصدرَ إلهامٍ للكاتب يدفعه للعمل كي يتفوقَ أكثر، والكتّاب ليسوا مختلفين في هذا، وجلّهم يظهر سعادته بقارئٍ أحبّه وتفاعل معه بما يليق والجهد الكبير الذي بذله. قبالة هذه الحالة الصحيّة من تقديرٍ يوازي الموهبة والإمكانات، تشيعُ في المشهد الكتابيّ أنماط تبالغ في تقدير قدراتها، يغلب عليها شعورٌ بالتفوّق اليقينيّ الذي يتجاوز حدود الموهبة، فتضخّم إنجازاتها، مع توقعات واستحقاقات غير واقعية، وأحاسيس قويّة بأنَّهم يستحقونها، فبمجرد أنّهم كتبوا كتابًا فهو يستحقُّ النشرَ بغض النظر عن نوعية الكتابة. كلّ ما يهمُّ أنّهم فعلوها وكتبوا، لينشغلوا من بعدها بأوهام النجاح اللامحدود.
وأيّما شخص يرفض منحهم ما يعتقدون أنّهم يستحقونه سيتعرض للهجوم. تحركهم أناهم، ذلك الصوت الذي يخبرهم أنّهم الأفضل، فيتحكّم في مفرداتهم، وفي لغة الجسد والكتابة التي يتوسّلونها، فتحول بينهم وبين الاتصال المباشر والصادق بالعالم من حولهم. وتراهم في كلِّ مجلسٍ منشغلين في أن يثيروا الإعجاب، ويلفتوا الانتباه إلى جماهيريتهم، غافلين عن مسألة عظيمة الأهمية وهي أنَّ الناس لا يحبّون المتفاخرين الواقعين في فخ التباهي المقيت، والِإشارات المستمرة إلى الذات، ومقارنتها بالآخرين لتظهرها في المقدمة.
بعضهم يعمدُ إلى الاعتداءات اللفظيّة لنزع سلاح الآخرين، والتقليل من شأنهم، والإصرار على أنّهم وحدهم من يستحق الإعجاب. وهم إذ يفضّلون التحدّث عن أنفسهم أكثر من الموضوع، فإنّهم بحاجة إلى الارتباط بأشخاص مميزين مشهورين يردّدون أسماءهم كما لو كان لديهم علاقةٌ شخصيّةٌ معهم. وهم في محاولاتهم كسب المزيد من الاعتراف يحتاجون إلى كلمات الإعجاب الدائمة. أضف إلى هذا أنّهم يستغلون الآخرين ويسعون إلى الإفادة منهم، لكنّهم ما أسرع أن يلقوا اللوم عليهم لأنّهم لا يتحملون مسؤولية أفعالهم. الجانب الآخر من هذا هو أنَّ الأحكام المتضخّمة للذات عادةً ما تنطوي على التقليل من شأن الآخرين، ما يجعلهم متعجرفين ومتسلّطين، ويضمرون أنَّه لا يفهمهم إلا المتميزون من أصحاب المكانة العالية مثلهم، لذلك فإنَّهم يكرهون النقد الذي يُشعرهم بالإهانة.
وهم إذ يتعاطفون مع أنفسهم فإنَّهم يرفضون توسيع هذا التعاطف ليشمل آخرين يعتقدون أنَّهم يحسدونهم ويشعرون بالغيرة منهم. يبقى أنَّك بمجرد أن تعرف علامات النرجسيّ، فإنَّه يسهل عليك اكتشافه في عصرٍ رقميٍّ تنتشر فيه المواقفُ كما الفيروسات، وتصل إلى جماهير واسعة باتت أكثر عرضة لآفة الاستعراض الاجتماعيّة. وأحسب أنَّ "نرسيس" المتخم بنفسه المتعلق بها يحضر مع هذا النمط من المتباهين معلنًا مصداقية "لاكان" حين ربط بين النرجسيّة وغرائز التدمير، بما في ذلك غرائز الموت.
د. رزان إبراهيم
عضو هيئة تحرير مجلة أفكار