د. محمد عبدالكريم الزيود / كاتب وأكاديمي أردني
هكذا يولد الشعراءُ، من لمعةِ نجمٍ أو من دمعةِ غيمة، ويرحلون مثل ومضة برق، ثم يمتدُّ الظلام من جديد، هكذا ولد الشاعر حبيب الزيودي، وهكذا رحل من دون نذيرٍ لأحد، خرج للحياة عام ١٩٦٣ في بيت أبيه في إحدى بيوت قرية العالوك الوادعة، جاء متصوفًا في الحب، والحبُّ هنا يصل حدَّ العشق؛ لذا ذاب في ذكر التفاصيل، فالمحبُّ يغرق في تفاصيل من يحب، كيف إن كان وطنًا:
" أردنّ يا بلدي ويا ضوعَ الحروفِ على فمي
يا دارَ فاطمة التي تبكي لدمعةِ مريمِ
ستظل صبحَ الطيبين، فأنت قمحُ الموسمِ
وأنا المتيّم في هواك وفقت كلّ متيّمِ
أسعى وأخشعُ في فجاجِك كالمحلِّ المحرمِ "
( من قصيدة أردن يا بلدي / ديوان غيم على العالوك، ص ٤٦٠)
ربما جذور عائلته "الفقرا" العائلة المتصوفة التي تنتسب لإحدى الطرق القادرية جعلت له مسلكًا في الحبِّ والتعلق، فمنذ أن تفتّحت عيناه في قريته العالوك، على شجر البلوط والسنديان وصفاء السماء، ظلَّ الحنين يؤثث مخيلته ويجذبه لطفولته البعيدة، القاسية، فكان التمرد بالشعر بابًا يطرقه لمناجاة هذه الحياة:
"إنَّ الحياةَ جميلةٌ أدري وأدري
ما دام هذا الومضُ في عينيك يغويني ويغري
لا بأس يا شيبي فما زال الحصانُ بداخلي، يطوي بساط الأرض طيًّا كي يرى كحل الحبيبة
ثم يسبح في الفلاة، يموج مثل النهر، لم يهرم، ولا عرف الحَرَدْ.
لا بأس يا شيبي
وما زلت الوَلَدْ
كفّاي ينبوع الغزال
وقلبي الظمآن واحته الظليلة إن شردْ "
( من قصيدة إنَّ الحياة جميلة - ديوان غيم على العالوك ، ص ٤٨٥).
صعد حبيب الزيودي في موهبته الشعرية يناغي الرعاة في سفوح قريته، يطارد أغنياتهم، ويلّم الفراشات وهي تلامس الدحنون في الربيع مثل الواردات من صبايا القرية نحو عين الماء، ظامئًا متمردًا على طقوس صنعت قيدًا لروحه التي لا يروّضها أحد:
"أراك في سهل حوران إذا انعقدت
براجم القمح مع آذار في السبلِ
وحنّ في سهلها الدحنون واستندت
في السنديان أغانينا على الجبلِ
والواردات على العالوك رهوجة
يمزجن غيّ القطا مع خفّة الحجلِ "
(من قصيدة حمدان - ديوان غيم على العالوك، ص ٤١٨)
كان حبيب الزيودي مسكونًا بحب بلاده، يرى أنَّ هذا الحبَّ قائمٌ على قناعة تاريخية وجغرافية بأنَّ محور العالم قريته / وطنه.. ترجم ذاك الحب المتصوّف في نسج قصائد تنوّعت بين الفصحى والمحكية، وبين القصيدة العمودية والشعر الحر، وقد ساعده أنَّه امتلك أذنًا موسيقية جعلته يدندن كلَّ قصيدة كأنّها أغنية تسكنه، وعندما يكتبها يهاتف أصدقاءه ليقرأها لهم وكأنّه يزف البشرى بولادة إبداع جديد، حتى خربشاته كان يعود إليها ويرى فيها بعد حين قصيدة لم تكتمل؛ فيظل يخربش ويكتب ويمحي حتى يقول: "وجدت البيت الشارد"، وكأنَّ شيطان الشعر قد أكمل رسالته فيأخذها ويطير بها إلى محبيه.
هل كان حبيب نجمًا ثقافيًّا أردنيًّا؟
من الظلم أن نقارن بين النجم "الفني" الذي يكسر شبابيك بيع التذاكر على أبواب السينما، أو التزاحم في مسارح الغناء، أو حديثًا نجوم "السوشيل ميديا" في عصر تفاهة الشهرة، وبين النجم "الثقافي"، فمجال المقارنة ظالمٌ من حيث الشكل والمضمون، لأنَّ الفنَّ يخضع لذائقة الناس دون ضابط لحدودها، ويتم صناعته لحصد الشهرة حتى لو كسر قيم المجتمع أو تخطّى محرماتها، وكان الهدف المتاجرة بالرغبة والغرائز "فالجمهور عاوز كده".. وشتّان بينه وبين النجم الثقافي الذي يفرزه جمهور النخب التي تتقدم المجتمعات بتفكيرها وقيمها، إنَّهم المبدعون صفوة المتعلمين والمثقفين والحالمين بمجتمع فاضل، الصاعدون فوق حدود الكلام، يرسمون الكلمات ويتذوّقون معاني الكتب، الباحثون عن الضوء في عتمة النفق.
لمع نجمُ حبيب الزيودي في الجامعة الأردنية في ثمانينيات القرن الماضي، وكان شاعرَ الجامعة عندما كانت مهوى أبناء القرى والبوادي الباحثين عن حياة جديدة يستكشفون بها عوالم لا يعرفونها في حدود قريتهم وخارج أسوار البيوت، هذه النجوميّة التي اعترف بها أساتذته في قسم اللغة العربية في كلية الآداب؛ د.خالد الكركي، د.سمير قطامي، د.عبدالرحمن ياغي، ود. إبراهيم السعافين، وغيرهم. واشتدّت شاعريته في ظلِّ العمل السياسيّ الذي كان جميع أقرانه من الطلاب يتوقون إليه ويجذبهم في تلك الحقبة الزمنية إبّان الأحكام العرفية السائدة في البلاد، واشتبك مع القضايا القومية العربية، وعلى رأسها قضية فلسطين:
"يا حادي العيس أفنيت الفتى شجنا
أيقظت في قلبه الموجوع ما سكنا
ما مرّت الريحُ من صحراء قاحلة
إلا تحرك في أعطافها فننا
يا حادي العيس ذا شعبي وذا وطني
ما ذاقت العينُ من أوجاعه الوسنا
إنّا فرشناه طيبًا غامرًا وندى
وقد ملأناه زهرًا عابقًا وسنى
وقد رفضناه سجنًا نستريح به
وقد رضيناه كي نحيا به كفنا
وإن تلا الناسُ أشعارًا على وطنٍ
فقد تلونا على أوطاننا دمنا
كانت فلسطينُ يومًا طينةً وغدت
لما نفخنا بها أرواحنا وطنا "
( من قصيدة يا حادي العيس - ديوان طواف المغني، ص ٢١١)
في مطلع التسعينيات لمع نجم حبيب الزيودي، عندما نضج شعره والتحق في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الأردنية، وعمل في الصحافة كاتبًا في جريدة الرأي؛ مما جعله يتّخذ مكانًا داخل النخب الثقافيّة والإعلاميّة ويتلمس الرأي العام، من خلال زاوية تعبر عنه، ثم تأسيسه لبيت الشعر الأردني الذي لمع كدارة ثقافيّة جمع بها الشعراء العرب.
وظلَّ وفيًّا لشعره؛ فأصدر ديوانه الثاني (طواف المغني) الذي فاز بجائزة الدولة التشجيعيّة، وربما كان يقترب من مكانته العالية في الشعر الأردني بصوتٍ مختلفٍ وقصيدة قريبة من الناس:
"ولا يعرف القلبُ شيئًا
متى ينطفي ومتى يستريح؟
ويمشي على الرمل
والرمل يحرقه
والحبيبة أبعد من نجمة، والزمان شحيح
ويعرف أنَّ الزمان صليبٌ..
وأنّي المسيح
ويعرف أنَّ أمامي ضريحاً وخلفي ضريح "
(من قصيدة طواف المغني - ديوان طواف المغني، ص ١٠٩)
وعندما سافر إلى المغرب ليكمل دراسة الماجستير في الأدب في فاس، غلبه الحنين، فقد كان مسكونًا بحب البلاد وللذكريات ولشغب الأصدقاء، سكب كلَّ ذلك حينما عاد، وكتب ديوانه (منازل أهلي):
"كلَّما دندن العود رجّعني لمنازل أهلي
ورجّع سربًا من الذكريات
تحوّمُ مثل الحساسين حولي
أبي في المضافةِ..
والقهوةُ البكر مع طلعة الفجر عابقةٌ بالمحبةِ
وصوت أبي الرحب يملأ قلبي طمأنينةً
وهو يضرع لله حين يصلّي"
( من قصيدة منازل أهلي - ديوان منازل أهلي، ص ٢٨٧).
نجوميةُ حبيب الزيودي تقاطعت في بداياته مع شاعر الأردن مصطفى وهبي التل الملقب ب(عرار)، وربما مثله مثل أغلب الشعراء يتّخذون شاعرًا أبًا في محاولاتهم الأولى، وقد كان ذلك جليًّا في بدايات حبيب الشعرية كما قال د. خالد الكركي في تقديمه لديوان حبيب الأول عام ١٩٨٦ ( الشيخ يحلم بالمطر)، لكنَّ "حبيب" رسم خطًّا مختلفًا فيما بعد، وحاول التخلص من ظلِّ عرار في شعره، وربما أطلق قصيدته في "مئوية عرار" لتعبرَ عن نهجه المختلف، وأنَّه تمرّد على أبيه:
" أبعد ظلالك عن كلامي إنَّي عبدتك ألف عام
ما مسّ برقك حين فجفج في السماء سوى عظامي
أبعد غمامك عن حقولي فهي تستسقي غمامي
اليوم لي لغتي وترعى في مفاليها رئامي
واليوم لي باعي وإيقاعي يفيض على كلامي
واليوم لي قمحي وحوراني وعماني وشامي
واليوم لي شمسي وباديتي وقطعاني أمامي
قد أنكروا زهوي عليّ وحاربوني في طعامي
ولذا قتلتك في نهاري واحتضنتك في منامي
وشممت جرحك في ثيابي واتقادك في ضرامي
ندان نحن اليوم يا أبتي على سفح الكلام "
(من قصيدة مئوية عرار - ديوان منازل أهلي، ص ٣٥٩ )
عندما تحوّل حبيب إلى القصيدة المغنّاة، كان يترجم إحساسًا عاليًا بالحياة، ولأنَّ سيناريو حياته قائمٌ على الشغب والتمرد، اتّخذ نفسه متمردًا على كينونة الشعر العمودي والحر، لذا بدأ يكتب الأغنيات لأنَّها الأقرب لوجدان الناس فرحًا وحزنًا، وكان يؤمن أنَّ الأغنية في الموروث ماهي إلا تاريخٌ مكتوبٌ لفصول حياة الناس، واستطاع خلال الفترة من عام ١٩٩٩ وحتى وفاته عام ٢٠١٢ أن يكتب مئات القصائد المغناة باللغة المحكية والفصحى أحيانًا، ومن خلال أوبريتات وطنية أن يعيد الألق للأغنية المحليّة بإعادة استخدام الموروث الشعبي لمفردات أردنية يسمعها الجيل الحالي ويطرب لها:
"هيلي يا هيلي مهبشين الهيل..
بعيون ذياب مطوقين الليل
حمر النواظر وافيات عهودكم..
مثل الصقور مبرشمين الخيل"
( من أغنية هيلي يا هيلي، غناء الفنان رامي الخالد)
توقف حبيب الزيودي عند استحضار الرموز الأردنيّة في شعره، وكان ذلك تأكيدًا على الهُوية الوطنية الأردنيّة بكل تفاصيلها، ولا سيّما في الثقافة الأردنيّة التي تتفرد بهُويةٍ جامعة منفتحة لها جذور عميقة في التاريخ، فكتب للشهيد وصفي التل ولحابس المجالي وصايل الشهوان ونمر بن عدوان ولعرار ولفراس العجلوني... منطلقًا أنَّ تلك الرموز تحمل جينات الأردنيين من فروسية ومروءة وشجاعة، وكانت لهم بصماتٌ في تاريخ بلادنا:
"أنا قبيلة كل من خرجوا وما
وقفوا على رسم الديار
قبضاتهم في الريح عالية
يزفون الشموس إلى كلامي:
يا صايل الشهوان، يا هزاع، يا ابن
غدير، يا اللوزي ترنم، يا ابن
بتلا، يا فراس انهض، ويا وصفي
استند، يا حابس ارفيفان يا صوتاً
يلجلج في دمي
ي محمد العيطان يا وشم الجدود، أنا
لوشمك أنتمي، وأنا لرمحك أنتمي، وأنا لروحك
يا ابن عمي أنتمي
وأشمُّ ما ترك الوفاء عليّ
منك، وشعَّ في روحي حروفاً ثم شعَّ بأعظمي
وأشمُّ ما ترك ابن قلاب
على روح التراب وشعَّ في
الأردن، يا أردن يا أحلى
الحروف على فمي "
( من قصيدة ناي البراري - ديوان غيم على العالوك، ص ٤٥١).
خلال التسعة والأربعين عامًا التي عاشها حبيب الزيودي وغادر الحياة مبكرًا في أواخر تشرين أول من عام ٢٠١٢، متماهيًا مع قصيدته لحابس المجالي: "علامك غبت والدنيا تشارين"، رحل حبيب في التشارين، وشكّل في حياته القصيرة ظاهرة شعرية مختلفة، من خلال إصداره خمسة دواوين شعرية: (الشيخ يحلم بالمطر، طواف المغني، منازل أهلي، ناي الراعي، غيم على العالوك)، واستطاع أن يحفر اسمه نجمًا أردنيًّا ثقافيًّا مع شعراء الأردن الأوفياء للأرض والإنسان؛ أمثال: عرار ونمر بن عدوان وحيدر محمود وتيسير سبول... ظهر ذلك جليًّا عندما غاب فترك مساحةً فارغةً لم يستطع أحد أن يملأها في الكتابة والإحساس والحب والوفاء.
————
المرجع: الأعمال الشعرية الكاملة/ راهب العالوك، حبيب الزيودي، الطبعة الأولى، ٢٠١٥، عمان.