د. خَيرات حمد الرشود
أكاديمية وباحثة
إنَّ اللفظة الشعريّة في شعر حبيب الزّيُودي ترتبطُ ارتباطًا وثيقًا بمعاناته أثناء عملية الخلق الفنيّ، وتحيل إلى ظلالٍ مضمرةٍ في حنايا نصوصه، إذ إنّها تخرج في لحظات الإبداع متوهجةً بالإيحاء البعيد الرامز الذي يعكس الحياة المتصارعة في أعماقه، وبها يتبدى ألقُ اللغة، وتلفها هالاتٌ إيحائيّةٌ مضيئةٌ في صورٍ شعريّة مدهشة تحتضن أوجاعه وملامح روحه ووجدانه الداخلي المتمثل بالنبع الذي تركَهُ، وما زالت صورهُ راسخةً في ذهنه، إذ يسترجع ذكرياته مع عائلته كلما سمع صوت العود الرَّنان، ويعود بمخيلته إلى بيته والسياج ورائحة الخبز، والنافذة التي تُعدُّ من ذكريات الطفولة، فقد أثارت الشوقَ والحنينَ إلى تلك اللحظات الخالية من تعقيدات الحاضر والرغبة الخفية بالعودة إلى المكان الذي يهبه الدفء والأمان والطمأنينة، يقول:
"والقهوةُ البِكرُ مع طلعة الفجر عابقةٌ
كلما دندن العود رجّعني إلى منازل أهلي
ورائحة الخبز فوَّاحة وحليب النعاج
ونافذة هي كل الطفولة
وعاد أبي وهو يفرشُ قريتنا هيبةً
وإخوتُه من حواليه سِرب صقور
وجوه إذا عتم العمر طلّوا
على عتمة العمر مثل البدور"
ولعلّ القراءات السابقة لشعر حبيب الزّيُودي أظهرت موهبته الشعرية وأضاءت عتمات النفس لديه، وأبرزت مكنوناته وانفعالاته الداخلية؛ إذ إنَّ حبيب الزيودي يعمد في جُلّ نصوصه إلى الربط بين المكان والعلاقات الإنسانيّة؛ فقد ذكر في قصائده أشخاصًا عاشوا معه وعاشروه في فضائه المكانيّ والزمانيّ؛ فكانت بصماتهم واضحةً في سياقاته الشعريّة؛ ليقدم صورةً قريبة من نفسه وقلبه ضمن بنية توليديّة تظهر فيها حالات نفسية متشظيّة تعاني من التمزق العاطفي نتيجة الانفصال عن الواقع القديم، ممّا أدّى به الواقع الجديد إلى تخبط الصور داخل ذاكرته، يقول:
"الذكريات كنائس مهجورة
تبكي على حيطانها الأجراس
ونوافذ
إلى أين أرحلُ
تضيق الدروب عليّ، وتجحدني
لا النوافذُ تفهمني
ولا الدروب دروبي."
ويظهر ذلك جليًّا في السياقات الشّعريّة التي أفصحت عن رؤية ذاتيّة عميقة يمكن تحديدها من خلال التلفظات (مهجورة، الرحيل، دورب الضياع) الرمزية الدَّالة على السّوداويّة الطاغية على نفسية الشاعر؛ إذ يؤكد على جدليّة الحياة والموت، فلا يمكن تصوّر وجود الحياة دون وجود الموت، لذا عقد الشاعر المقارنة الوصفيّة بين أجواء القرية المفرحة التي تفيض بالبراءة والصدق والنقاء والبساطة والطيبة والكرم وحب الحياة القروية المتجسدة بالقيم الاجتماعية والأخلاقية، وضوضاء المدينة وعتمة دوربها؛ ممّا عمّقت في نفسه الإحساس بالتغرّب عن المحيط والحنين الدائم إلى النبع الأول الذي يستقي منه تجربته الشعريّة في استعادة الفردوس المفقود في حياة المدينة بكل تفاصيله الواقعية، يقول:
"بيت سلمان -عم أبي -
ما يزال وأن غاب صاحبه،
مشرعًا وكثير العمد."
فاللغةُ هي الوعاء الذي يصبُّ فيه الشاعر _ حبيب الزّيُودي _ أفكاره الكامنة التي تتجاوب مع الأصداء العميقة لروحه ضمن مسارات سياقيّة ذات إيحاءات دلاليّة تحمل في طياتها خفايا رمزيّة دالة على الموت تلوح في معظم نتاجه الشعري، حين يقول:
"أنا يا شتائيّة الدمع كهفٌ من الذكريات
ظلام المدينة يغتال كلَّ عصافير روحي
والظلام يفِحُّ
كلُّ النوافذ مغلقة
كانت مصابيحها خافتة.."
ينسج الزّيُودي معنى العتمة والظلام الذي يحجب عنه النور وحقيقة الحياة التي يعيشها في المدينة بألفاظ سياقيّة ( الظلام والكهف، والدمع، والاغتيال، والنوافذ المغلقة، والمصابيح الخافتة) وهي تشيرُ إلى أبعادٍ دلاليّةٍ سلبيّةٍ مرتبطةٍ بالرهبة والخوف من المجهول والخطر والضياع والكبت والقهر وعدم وضوح الرؤية وغيرها من الدلالات التي زادت من جمالية الصورة وقوّتها، ورمزيّة الانغلاق وخفوت الضّوء أكّدت على قتل جمالية الحياة القروية التي كان يعيشها الشاعر، والانغلاق على النفس والابتعاد عن المكان وأهله، عندما قال:
"تغتال كلّ عصافير روحي
لملمت أحزاني عن الدّرب القديم."
وتتجلّى ثنائية الاتصال والانفصال بحيث تشكّل تحوّلًا عاطفيًّا عميقًا ناتجًا عن توتر الشاعر باستبدال المكان؛ لذلك كانت الذكرياتُ هي الملاذُ الوحيد الذي لجأ إليه الزّيُودي، لكي يبثَّ لواعج قلبه وحزنه على مغادرة قريته في قوله:
"كلَّما دندن العودُ رجعني لمنازل أهلي
ورجّع سربًا من الذكريات
والذكريات مروج أيامي الخوالي"
ولا شكَّ أنَّ دلالات السّوداويّة تظهر في قوله:
"ألقى عليَّ الليل من همومه وشاحًا
وكانت الغربان في زوايا غرفتي تحوم
وكل شيء داخل السرداب أسود
لا أرى إلا سوادًا في سوادِ"
فالسوادُ لونُ التشاؤم وارتباطه بالظلام والليل يدلُّ على حجب الحقيقة وانعدام الرؤية التي تتجلّى في صورة اختزاليّة تتشاكل مع المتن النصّي، والغربان تدلُّ على الغربة، ولعلَّ هذا الأمرَ يفسّر عدم اندماج الشاعر مع أجواء المكان الجديد، لذا فإنَّ ارتباطَ الشاعر القويّ بقريته _ العالوك_ التي ولد فيها كانت مبعثه الأول للحياة؛ فقد منحته الهاجس الداخلي الذي يفضي به إلى الاقتراب منها عن طريق اللغة الشعرية التي تتم في تشكيلاتٍ لُغويةٍ ذاتِ ارتباطاتٍ داخليّة، تجعل المبدع يتميّز بمقدرته على استغلال الإيحاءات الكامنة وراء اللفظ، وذلك بتجاوزه سطح اللغة الممثلة بمجموع الألفاظ، ومحاولة استكناه طاقاتها الدلاليّة الكامنة، وبعثها من جديد في صورة تأويلات مغايرة للمعنى، تفتح فضاء النصّ، وتتوالد الإيحاءات في نسقٍ متكاثف يمتع المتلقي ويدهشه في مساراتٍ متنوّعةٍ من شعر حبيب الزيودي.