د. غسَّان إسماعيل عبد الخالق
رئيس تحرير مجلة أفكار.
ما أجملَ أن تكتبَ عن أرض الكنانة، وما أصعبَ أن تحيط بها! فمصرُ هي أمُّ الدنيا وموئلُ الحضاراتِ والثقافاتِ والفنونِ والعلومِ دون ريب. وعلى الرغم من أنَّنا لم ندَّخر وسعًا في هذا العدد الخاصِّ الذي نفرده لها، لتسليط الضوء على ملامح بارزة في شخصيَّتها الراسخة والممتدَّة، فإنَّها ستظلُّ أدقَّ من أن تُعيَّن، وأوسع من أن تُحدَّ.
وعلى كثرة الفرص التي حظيتُ بها لزيارة مصر، وعلى كثرة الغنائم الروحيَّة والفكريَّة والجماليَّة التي أحرزتها في كلِّ هذه الزيارات، فإنَّ الزيارة التي سُعدت خلالها بمقابلة نجيب محفوظ ومحاورته، ستظلُّ هي الأرسخ والأغنى. وكنت قد وصلتُ مطارَ القاهرةِ بتاريخ 24/ آب/ 1998، وتوجَّهت من فوري إلى الفندق "المالكيِّ" الذي يطلُّ على المشهد الحسينيّ، ثمَّ بادرتُ لمهاتفة الصديق القاصِّ والناقد شمس الدين موسى، بخصوص رغبتي في الالتقاء بالأستاذ نجيب محفوظ، استكمالًا لكتابي (جهة خامسة؛ دراسات تطبيقيَّة في أدب نجيب محفوظ)، فأكَّد لي إمكانيَّة اللقاء رغم الإجراءات الأمنيَّة المشدَّدة لحمايته بعد الاعتداء الذي تعرَّض له عام 1994، واتَّفقنا على أن نلتقي في تمام الساعة الخامسة والنصف من مساء يوم الجمعة الموافق 28/ آب/ 1998، في محطَّة القطارات ب"ميدان رمسيس".
في الموعد المُحدَّد حضر الصديق شمس الدين موسى فتعانقنا، ثمَّ انطلقنا سيرًا على الأقدام باتِّجاه سيَّارة خاصَّة أعلمني بأنَّها تقف بانتظارنا على بعد عشر دقائق، وقبل أن نصلها لمحنا الأستاذ هارفي أسعد –وهو أقدم أصدقاء نجيب محفوظ- فتصافحنا وتعانقنا، وما أن بلغنا السيَّارة حتَّى قدَّمني شمس الدين إلى القاصِّ والناقد أسامة عرابي، ثمَّ راحت السيَّارة تصعد بنا إلى (المقطّم)، حتَّى توقَّفت أمام فيلا أنيقة تحيط بها حراسة أمنيَّة مُشدَّدة يقودها ضابط برتبة مقدّم، وقد بادر إلى مصافحتنا بأدب جَمٍّ ودعانا إلى الدخول؛ فدخلنا مباشرة إلى حجرة استقبال صغيرة ذات إضاءة خافتة. وقد أعلمني شمس الدين بأنَّ الفيلا تعود إلى الدكتور يحيى الرّخاوي أستاذ علم النفس في جامعة القاهرة.
وعلى الفور؛ لمحتُ الروائيَّ العملاق يجلس بين بعض مريديه الذين سبقونا، وقد أدهشني أنَّه نهض بنشاط جَمٍّ وصافحنا بحرارة. ثمَّ استقرَّ بنا المقام فجلس الأستاذ نجيب محفوظ في ركن الحجرة على أريكة طويلة، شاركه فيها الشاعر عادل عزَّت ثمَّ الأستاذ هارفي أسعد؛ فالقاصُّ زكي سالم؛ فالفنَّان التشكيليُّ محمَّد الشربينيّ. وأمَّا نحن (شمس الدين وأسامة وأنا) فقد جلسنا قبالته، ثمَّ انضمَّ إلينا لاحقًا الدكتور عمر عوَّاد جرَّاح القلب المشهور.
توافُد الأصدقاء، واحدًا تلو الآخر، جعلني أخشى انقضاء الوقت دون طائل، فكلُّ ما لديَّ منه ساعتان فقط. وقد عزمتُ على المسارعة بالجلوس إلى جانب الروائيِّ الكبير والتحدُّث إليه، على الرغم ممَّا قد تنطوي عليه هذه الساعة من نتائج غير محسوبة، والمضطر يركب الخطر كما يقولون. حاذيتُ الأستاذ وحيَّيته، فطالبني الأصدقاء بأن أرفع صوتي عاليًا، وعرَّفته برغبتي في توجيه عدد من الأسئلة له والاستماع لإجاباته، حتَّى أستكمل العمل على كتابي المأمول، فأصغى بانتباه بالغ وأجاب عن كلِّ الأسئلة بمرح وذكاء واقتضاب وحذر. وقد استرعى انتباهي هذا التحرُّز الشديد منه، حتَّى بعد أن تجاوز الثمانين، ولم يخف عليَّ أنَّ السبب يتمثَّل بخشيته من الاصطدام بتيار محدَّد من الرأي العامّ.
انبرى أسامة عرابي لإخراج ما في جعبته من صحف وكتب، وراح يقرأ مقتطفات منها، ونجيب محفوظ يعلِّق بخفَّة ظلٍّ آسرة. ثمَّ تعاقب بعض الحاضرين على إحاطته علمًا بمستجدَّات المشهد العامِّ في مصر. وقد نبَّهني شمس الدين إلى أنَّ هناك أعضاء صامتين في حلقة الأصدقاء هذه، وهم لا يقلُّون أهميَّة عن الأعضاء المتحدِّثين؛ فلولا احتفاظهم بالصمت لما كان للكلام أيّ دور. وأبرز هؤلاء الصامتين القاصُّ زكي سالم الذي يكتفي –غالبًا- بالاستماع لما يُقال، ولا ينفكُّ عن التأمُّل في نجيب محفوظ، ورصد أيِّ نأمة تصدر عنه، كما يسارع لتلبية رغباته مسارعةَ المريد المتفرِّغ لرعاية شيخ الطريق. وأكثر ما يزعجه أن يدور بعض الكلام في منأى عن أذن شيخه، حرصًا منه على إشراكه في كلِّ ما يُقال.
في تمام الساعة الثامنة مساءً، أخرج نجيب محفوظ علبة سجائره واستلَّ منها سيجارة ثمَّ أشعلها بهدوء ينبِّئ بالعادات الصارمة التي أخذ نفسه بها منذ عقود؛ فهو مصابٌ بالسكّريِّ وغيره من الأمراض منذ أمدٍ بعيد، وما كان ليبلغ هذا العمر لولا عاداته الراسخة؛ تنظيم مواعيد الأكل والتدخين والسهر والنوم والمواظبة على المشيِّ الطويل. وإن كان حادث الاعتداء عليه قد حرمه من نعمة التجوُّل بحريَّة.
وفي تمام الساعة الثامنة والربع، قُدِّمت أطباق الدجاج المشويِّ والمُقبِّلات، فانهمكنا جميعًا بالأكل بشهيَّة كبيرة، لكن الأستاذ هارفي أسعد سرعان ما نبَّهنا (شمس الدين وأنا) إلى أنَّ موعد الرحيل قد أزِف؛ فغسلنا أيدينا ثمَّ أعدت أشيائي (آلة التصوير وآلة التسجيل وكرَّاسة الملاحظات) إلى حقيبتي، وودَّعت الأستاذ نجيب محفوظ والحاضرين، ثمَّ لحقت بالسيَّارة الخاصَّة التي اقتعد كرسيَّها الأماميَّ شمس الدين موسى، واقتعدنا (الأستاذ هارفي وأنا) كرسيَّها الخلفيَّ، وقد لاحظت أنَّ السائق الذي سيهبط بنا الجبل هو غير السائق الذي أصعدنا!
انسابت بنا السيَّارةُ باتِّجاه القاهرة، وقد ازداد جبلُ المقطّم غموضًا. وفي الطريق ترجَّل الأستاذ هارفي أسعد وودَّعني بكلمات رقيقة. وقبل أن تستقرَّ بنا السيَّارة في المكان الذي أقلَّتنا منه قرب "ميدان رمسيس"، كنتُ ما زلتُ أتساءل: كيف تبدو القاهرة القديمة (الحسين، الأزهر، خان الخليليّ) الآن؛ للرجل الذي ولد فيها وأحبَّها وورَّط الملايين في حبِّها، ثمَّ حُرِم من مشاهدتها والتجوُّل فيها بحريَّة وعفويَّة، من مجلسه في أعلى الجبل الذي طالما بدا له مستقرًّا للأسرار؟!.