د. محمد عبدالله القواسمة/ روائي وناقد وأكاديمي
mdkawasm@gmail.com
أدرك المفكّرُ والناقدُ الدكتور جابر عصفور أهمية مفهوم الهُويّة لارتباطه بقضايا حسّاسة، مثل: العولمة، والثقافة الوطنيّة، والثقافة القوميّة، والعلاقة بين التراث والمعاصرة، وقضية التحديث والتأصيل، وهي القضايا التي كرّس لها حياته الفكريّة في تبنّي مشروعٍ عربيٍّ تنويريّ يواجه المفاهيم الأصوليّة المتطرفة والمنغلقة التي شاعت لدى أصحاب الإسلام السياسيّ، أو الفكر القوميّ في الخمسينيات، أو الأيديولوجيات التي تحوّلت إلى عقائد أصوليّة جديدة.
وقف جابر عصفور أمام هذا المفهوم الملتبس والشائك، ونهض بتفكيكه، وإعادة تركيبه متقصيًّا عناصر الهُويّة وإشكالاتها المتعدّدة، منطلقًا من فهمه الهُويّة بأنَّها "ليست كيانًا ثابتًا، منغلقًا على نفسه، وإنَّما هي كيانٌ فعّال، أي فاعلٌ ومنفعلٌ معًا... هُويّة الشيء هي ما يميّزه عن غيره، ويجعله مختلفًا عما عداه. فالهُويّة هي الخصائص النوعيّة التي تحدّد ثقافة عن غيرها، وتجعلها تتمايز، وتختلف بالقياس إلى بقية الثقافات" ونراه من بين الهُويّات الدينيّة والاجتماعيّة والمهنيّة والسياسيّة وغيرها يركّز على الهُويّة الثقافيّة؛ لأنَّها الهُويّة التي لها علاقة قويّة بتلك الهُوّيات، كما أنّها الهُويّة التي ارتبطت بسؤال النهضة، فأي أفكار عن الحرية أو السياسة أو الثقافة تتطلب تناول الهُويّة الثقافيّة والنقاش حولها.
وإذا كانت الهُويّة عند جابر عصفور فضاءً مفتوحًا متغيرًا فاعلًا ومؤثرًا، وليست نسقًا ثابتًا ومنغلقًا فإنَّ الهُويّة الثقافيّة عنده أيضًا هُويّة متغيرة بالضرورة، تنتج عن ثقافةٍ ما، أو هُويّة لمجموعةٍ ما، أو شخصٍ ما. وتماثل أو تتقاطع مع مصطلح سياسة الهُويّة؛ حيث الهُويّة هي ذات الفرد، وتشكّل ثقافته ومدى وعيه بالقضايا المحيطة به. وهي، أي الهُويّة الثقافيّة مركبٌ متجانسٌ من القيم والرموز والتصورات والذكريات والإبداعات والتطلعات. وهي المعبّر الأساس عن الخصوصيّة التاريخيّة لجماعة أو أمةٍ، وتحمل نظرة الجميع إلى الكون والموت والحياة. من هنا فإن الهُويّة الثقافيّة ما هي إلا مجموعةٌ من التراكمات الثقافيّة والمعرفيّة، سواء أكانت من تقاليد وعادات في العائلة والمجتمع أم من الدين.
بهذا الفهم الواضح لمصطلح الهُويّة الثقافيّة يواجه جابر عصفور سؤال النهضة، فيرى وجود ثلاثة تيارات حاولت تفسير عدم لحاقنا بركاب النهضة: التيار الأول يُرجع الأمر لتركنا التراث الدينيّ، والتيار الثاني يرجعه إلى التخلي عن السير بركب الحضارة الغربيّة، أمَّا التيار الثالث وهو التيار التوفيقيّ الذي يجمع بين التيارين الأولين، المحافظة على ما صلُح من التراث، أي الذي يتجاوب مع الواقع، والأخذ بمتطلبات الحداثة. وهو التيار الذي ينتمي إليه جابر عصفور.
أمَّا مكوّنات الهُويّة الثقافيّة فيوضح جابر عصفور أنَّها تتكوّن من عناصر ثابتة وعناصر متغيرة. ويقدم النموذج المصريّ لبيان هذه العناصر؛ فيحدّد ثلاثة عناصر ثابتة، وهي: العنصر الفرعونيّ أو المصريّ القديم، والعنصر المسيحيّ الذي لا يزال ميراثه الماديّ والمعنويّ متجسدًا في الأمة، التي لا يزال يجمعها شعار ثورة 1919 وهو "الدين لله والوطن للجميع". والعنصر العربيّ الإسلاميّ الذي يجمع ما بين الدين والهُوية القوميّة.
أمَّا عناصر التغيّر فإنَّها تتكوّن من المؤثرات الثقافيّة الوافدة من العالم الغربيّ، التي بدأت مع الحملات الاستعماريّة، التي أفادت الثقافة المصريّة في جوانب من التعليم والإبداع والإعلام، مع ظهور دوائر ثقافيّة ترفض الهيمنة والتبعية.
فالحقيقة أنَّ الهُويّة الثقافيّة تتحوّل إلى مصدر قوة متجدّدة وتقدّم متواصل، حين يتحقّق التجاوب بين عناصرها وبين الشروط التاريخيّة التي تتبادل وتتفاعل وتقبل الاختلاف والمجادلة؛ من هنا فإنَّ الهُويّة المنفتحة هي التي تحقّق التوازن والتفاعل والتناغم بين عناصرها دون أن ينفي عنصرٌ من هذه العناصر غيره. وإذا تحوّلت الهُويّة الثقافيّة إلى هُويّة منغلقة، أي تلك التي تكون نافية للاختلاف، رافضة للحوار والمجادلة، غير خاضعة للمساءلة، لا تحقّق السلام ولا التقدم للمجتمع أو الأمة.
أمَّا الهُويَّة الإبداعيّة العربيّة فيشير جابر عصفور إلى أنَّها واجهت تحديًّا كبيرًا بعد نكسة 1967م؛ إذ وضعت المبدع أمام المساءلة للذات والهُويّة، فكان اللجوء إلى التراث الشعبيّ والرسميّ من أجل تأصيل هُويّةٍ نوعيّةٍ تحمل خصوصية اللحظة التاريخيّة المتمثلة في الهزيمة، التي خلخلت الوعي الثقافيّ والإبداعيّ من ناحية، ولم تفارق الأفق التراثيّ من ناحية أخرى. وتصاعدت الرغبة في تغيير الشكل الأدبيّ المستعار من الغرب، وتمثّل هذا في تغيير شكل الرواية من رواية البرجوازيّة الأوروبيّة إلى محاولة تأصيل شكلٍ قوميّ.
يتوقف جابر عصفور، من أجل تحديد مفهومٍ جامعٍ مانعٍ للهُويّة الثقافيّة، أمام بعض المفاهيم الأساسية التي تشتبك غالبًا بالجوهر الأساسيّ للمفهوم، فيعيد قراءتها، ويبين ارتباطها بالهُويّة الثقافيّة، منها: اللغة، والدين، والثقافة الوطنيّة.
فاللغةُ تُعدُّ مكوّنًا مهمًّا من مكوّنات الهُويّة الثقافيّة، لكنَّها ليست مكوّنًا حاسمًا في كل الأحوال، فيوجد من ينتسبون إلى هُويّة ثقافيّة عامة، لكن لغاتهم تتعدد ضمن هذه الهُويّة. فسكان النوبة في مصر يتكلمون لغةً خاصّةً بهم، لكنَّها تندرج ضمن هُويّةٍ ثقافيّة مصريّة عامة، ومثلها اللغة الكرديّة، التي تندرج ضمن الهُويّة الثقافيّة للعراق.
وتطرح علاقة الهُويّة الثقافيّة باللغة ذلك الأدب الجزائريّ المكتوب باللغة الفرنسيّة، هل ننسبه إلى الثقافة العربيّة أم الفرنسيّة؟ الصحيح أن ننسبه، في ظلِّ الشرط التاريخيّ الذي فرض الظاهرة، إلى الأدب العربيّ والثقافة العربيّة القائمة على التنوّع، ومن العسف أن ننسبه إلى الثقافة الفرنسيّة.
أمَّا الدينُ فهو عنصرٌ أساسي من عناصر الهُويّة الثقافيّة، وعاملٌ من العوامل الحاسمة في بناء هذه الهُويّة، لأنَّه يتّصل بالقيم الروحيّة التي تكتمل بها إنسانية الإنسان. لكن المقصود بالدين ليس بصيغة المفرد، وإنَّما بصيغة الجمع التي تشير إلى التعدّد والتنوّع. ففي كل ثقافة تتعدد للأديان، وفي هذا إثراء الهُويّة الثقافيّة؛ لأنَّ الأديان كلها تدعو إلى الخير والأخلاق الفاضلة.
أمَّا مفهوم الثقافة الوطنيّة فارتبطت نشأته العربية بحضور الآخر المستعمر، الذي هدّد الوجود القوميّ والهُويّة الثقافيّة، فتصدت الأنا للدفاع عن الهوية الوطنية، ومواجهة الغزو الاستعماريّ، وتأسّس المفهوم على علاقة تضاد مع الثقافة الاستعماريّة، فأصبح المفهوم نقيضًا لثقافة الآخر العدوانيّ، وعلاقة التشابه بحضور التراث في مفاهيم الثقافة الوطنيّة، وتحوّله إلى سلاحٍ في مقاومة الآخر. والعلاقة بحركة الواقع الصاعدة بقيادة العسكر التي أدت إلى ظهور دول قمعيّة. لقد أفرزت هذه العلاقات مفهومًا أقرب إلى المفهوم القوميّ أو الثقافة القوميّة، واختفى المعنى القُطري للثقافة الوطنيّة. لقد أزاح النضال ضد المستعمر المفهوم القطريّ لحساب القوميّ، وفهم الوطنيّ بأنَّه دفاعٌ عن الهُويّة القوميّة. ورأينا حسين مروة يرى في كتاب "في الثقافة المصريّة" 1955 لمحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس في تقديمه له أنَّه قوميٌّ؛ فالثقافة المصريّة هي ثقافة قوميّة، والحديث عنها حديث عن الثقافة العربيّة في كل أقطارها.
في النهاية نقول إنَّ جابر عصفور استطاع أن يقدّم وخاصّةً في كتابه" الهُويّة الثقافيّة والنقد الأدبيّ" تصوراتٍ مفيدةً عن الهُويّة الثقافيّة، وعلاقتها باللغة والدين والثقافة الوطنيّة. وكان ذلك من خلال وجهة نظر منفتحة تستفيد من الفكر الغربيّ، وترفض كلَّ التصوّرات المنغلقة التي تقصي الآخر وتلغيه. لقد قدّم جابر عصفور هذه التصوّرات بوصفه مفكّرًا تنويريًّا هادفًا إلى بناء هُويّة ثقافيّة عربيّة قويّة تحافظ على خصوصيتها مع انفتاحها على الآخر؛ لأنَّ الأصالة وحدها لا تكفي في مواجهة الواقع المعاصر، الذي فرض نفسه بفضل التقنيات الحديثة على الكون.