د. أشرف حزين
أكاديمي وباحث أردني.
المقدمةُ التي يوردها الدكتور سلمان البدور في كتابه "ملخصات حوارات أفلاطون" تُعدُّ مهمّةً لفهم المحاورات التي يتناولها في الكتاب. وبالرغم من أنَّ البدور تناول العديد من القضايا في المحاورات، مثل الفضيلة، وطبيعة النفس وخلودها وعلاقتها بالجسد، إلا أنَّ القضية المحورية في الكتاب كانت تدور حول نظرية المعرفة. يرصدُ البدور قضيّةً مهمّةً، وهي أنَّ اليونانيين قد بحثوا في وقت مبكر في الطبيعيات وعن أصل الكون، وحاولوا تفسير ظواهر الطبيعة، ولكنَّهم بعد أن عانوا من الصعوبة والفشل في هذا الحقل العلمي الخالص، تحوّلوا من البحث في المدرَكات إلى البحث في المدرِك نفسه، أي الإنسان، فلعلَّ العلّة في تعذر الإدراك كامنة في المدرِك نفسه. وقد ظهر هذا واضحًا في التيار السفسطائيّ الذي نقل البحث إلى الإنسان نفسه بحسب البدور، كان المبدأُ الأساسيُّ عند السفسطائيين أنَّ المعرفة نسبيّة، وأنَّ كلَّ إنسانٍ يملك حقيقة خاصة به. وعندما جاء "سقراط"، أراد أن يثبت أنَّ هناك معرفة مطلقة وثابتة غير نسبية، وهي معرفة الكليات، وكانت له إجراءات منطقية في إقناع محاوريه. ولكن "سقراط" لم يعرف سوى طريقةِ "الديالكتيك"، أي الحوار المولّد للأفكار الجديدة، ولم يعرف "سقراط" الاستقراء مثلا كطريقة للتوصل إلى الحقيقة.
يستهلُّ البدور كتابه بالمحاورة المعنونة "دفاعية سقراط" ويؤكّد أنَّ مضمون المحاورة، والدفاع الذي أورده "أفلاطون" على لسان "سقراط"، يقدّم معلوماتٍ موثّقةً تم التأكّد من صحتها من مصادر أخرى تاريخيّة عاصرت هذا الحدث؛ ولذا، فإنَّ البدور يرى أنَّها من أكثر المحاورات أصالةً وصحةً ووثوقيّة. في هذه المحاورة يقدّم "سقراط" تفنيدًا للتهم المقدمة ضدّه، القديمة والجديدة، القديمة المتمثلة بكونه شريرًا يقلبُ الحقائقَ ويجعلُ الأسوأ هو الأفضل، ويعلّم هذه المعتقدات للآخرين، وأنَّه يبحث في أمور السماء والأرض (المقصود علوم الطبيعة)، وأنَّه ادّعى أنَّه يمشي على الغيم، وأنَّه كان يتقاضى أجرًا مقابل تعليمه للناس. كما أنَّ "مليتوس" الذي كان حاضرًا، اتّهمه بأنَّه يُفسد الشباب، ولا يؤمن بآلهة المدينة الشمس والقمر. وقد دافع "سقراط" عن نفسه ضدَّ هذه التهم، ولم يقبل بالاقتراحات التي قُدّمت له مثل دفع فدية مالية، أو النفي من المدينة، أو أن يتوقف عن نقاشاته الفلسفية مع أهالي أثينا.
في محاورة "أثيفرون"، نرى النقاشَ يدورُ حول فضيلة التقوى، وهي طريقة الحياة التي توجّه الإنسان للقيام بواجباته تجاه الآلهة والبشر. والمحاورُ "أثيفرون" هو محاورٌ سفسطائي. وعندما يسأل "سقراط" "أثيفرون" عن معنى التقوى يردُّ عليه: "إنَّ التقوى هي أن تقدّم شكوى ضدَّ والدك وتتهمه بالقتل، وتطلب محاكمته دون الالتفات إلى الاعتبارات الشخصيّة الأسرية". وكان "أثيفرون" قد فعل ذلك ضدَّ أبيه. ولكن "سقراط"، وانطلاقًا من رأيه في المُثل بوصفها الكليات، قال له: "إنَّ هذا المثال الذي أوردَه عبارة عن مثال واحد جزئي عن فضيلة التقوى، وهو لا يشكّل معرفة كلية". بعد ذلك ينتقل "أثيفرون" للقول إنَّ التقوى هي كلُّ ما يرضي جميع الآلهة. ولكن "سقراط" لا يقتنع بهذا الجواب الديني الخالص، ويرى أنَّنا لن نعرف ما يرضي الآلهة، بسبب أنَّ ما نمتلكه عما يرضي أو لا يرضي الآلهة هو عبارة عن اعتقاداتٍ شعبية. وينتقل "سقراط" بالحوار بربط التقوى بالعدالة. ولكن هذا الربط لم يحل المشكلة إلا جزئيا. وتنتهي الحوارية دون التوصل إلى رأي حاسم .
في محاورة "فيدون" نرى "سقراط" يستفيضُ في الحديث عن النفس وطبيعتها وعلاقتها بالجسد، ويبحث في الأدلة على وجود النفس، وهل هناك نفوسٌ خيّرة وشريرة، وما الفرقُ بينها، وهل هناك ثوابٌ وعقابٌ في الحياة الأخرى. وهذه المحاورة هي توثيق للحظات الأخيرة التي سبقت تنفيذ حكم الإعدام بحقِّ "سقراط"، وهي توثّق أيضًا موته بعد أن تجرع كأس السُم، ورفض الحلول كافة التي كانت مقترحة لإنقاذه من حكم الإعدام. وقد واجه "سقراط" الموتَ بشجاعة، وصرح لهم بأنَّه لا يخشى الموت؛ لأنَّ الموت لا يؤثر على النفس، بل أنَّ ما يخشاه هو الظلمُ فقط؛ لأنَّ الظلم هو الذي يؤثر على النفس؛ ولهذا السبب لم يوافق "سقراط" على الحلول المطروحة لإطلاق سراحه، لأنَّه خشي من اقتراف الظلم.
وقد وُجّه سؤالٌ إلى "سقراط" عندما شاهدوه لا يخاف من الموت: إذا كان الموت ليس مخيفًا فلماذا يُعتبر الانتحارُ خاطئًا؟، فأجابهم: "إنَّ الخطأ يكمن في تدميرنا لأحد ممتلكات الله..."، وأوضح لهم أنَّ الفيلسوف تهمّه سعادة النفس وليس سعادة الجسد. وقال إنَّ النفس تُدرك عن طريق العقل كلَّ الأشياء والمعارف المطلقة الثابتة التي لا تتغير، والتي هي ماهيات الأشياء؛ مثل العدالة والخير والجمال، وكل هذه الماهيات يجب أن تدركها النفس دون التأثر بالجسد. إنَّ الجسد وحاجاته يخنق النفس ويعيقها عن المعرفة، ولذا فإنَّ الموت هو تحرّرٌ. ثم يقدم "سقراط" بعد ذلك دليلًا على بقاء النفس وخلودها بعد الموت، بالاستعانة بأفكار "هيرقليطس"؛ والتي تقول إنَّ كلَّ شيء يتولّد من ضدّه، ولا بدَّ للنفس أن ينبثق من ضدّها الوجودُ الحسّي، كما أنَّ نظرية التذكّر تثبت أنَّ النفس خالدةٌ، وهذه النظرية تقول إنَّ أفكارًا كثيرة نعرفها كالمساواة مثلًا، لا يمكن إدراكها بالحواس، وبالتالي فلا بدَّ أن تكون موجودة قبل الجسد. يرى "سقراط" أنَّ طرح الأسئلة يجعل الشخص يتذكّر أشياء لم يكن يعرفها، وهذا يُثبت أنَّ النفس كانت قبل الجسد تعرف كل شيء. ثم يقدّم "سقراط" بعد ذلك دليلًا على بقاء النفس بعد الجسد، بعد أن أثبت وجودها قبله، فيقول: "إنَّ الأشياء التي تفسد وتتحلل هي التي تتكون من أجزاء، أمَّا الأشياء البسيطة الجوهرية التي هي كل واحد، فهي لا يمكن أن تتحلل وتفسد". وإذا حدث أنَّ إحدى النفوس بقيت فيها عوالق جسدية بعد الموت، فإنَّها تعودُ لدورة حياة جديدة لتتخلص من هذه العوالق وتصفو. وتستغرق الأدلة على بقاء النفس الكثير من مساحة المحاورة، حيث يبرهن سقراط أنَّ التحوّلات التي تحدث للإنسان تثبت وجود هذا العنصر الباقي؛ وهو النفس.
أمَّا في محاورة "ثياتيتوس"، فيدور النقاشُ حول نظرية المعرفة، وكيف يتم الحصول على المعرفة، وهل المعرفةُ ممكنة. وهنا يقول "سقراط" في المحاورة إنَّ المعرفة ليست هي الإدراك الحسي كما كان يدعي "بروتاغوراس" السفسطائي، وأنَّ المعرفة النسبية التي تحدث عنها "بروتاغوراس" ليست هي المعرفة الحقيقية، بل إنَّ المعرفة الحقيقية هي معرفة الأمور المشتركة والخصائص الكلية، وهذه لا يمكن أن تُدرك بالحسِّ المباشر. ويرى "سقراط" أنَّ الإدراك الحسّي ليس معرفةً حقيقيّةً، ويرى أنَّ الفكر هو من اختصاص النفس فقط، ولكن من غير المعروف كيف تحصل المعرفة من امتزاج الفكر الخالص والإدراك الحسّي، ويرى أنَّ تصوّرنا عن هذه المسألة ليس دقيقًا. ويخلُص الدكتور سلمان أنَّ هذه المحاورة لم تُقدم جوابًا شافيًا عن السؤال: ما المعرفة؟!.
وفي محاورة الجمهوريّة يعاود الدكتورُ سلمان البحثَ في نظرية المعرفة الصحيحة، ويرى أنَّها عبارة عن أحكام تتعلق بالكليات، لأنَّها هي وحدها الثابتة. بينما نرى الجزئيّ يتغيّر ولا يشكّل معرفة صحيحة. يحاول الدكتور سلمان الإجابةَ عن التناقض الخاص بمشروعيّة المعرفة الكلية، والتي لا تمتُّ بصلةٍ للعالم الذي يُدرك بالجزئيات. يقول الدكتور سلمان: "إنَّ تصوّرنا للكليات، وكأنَّها تمثّل وجودًا آخر منفصلاً عن الواقع هو تصوّرٌ غير صحيح، بل إنَّ هذه الكليات أو المُثل هي مرتبطةٌ بالواقع وتعبّر عنه". والعلاقة بين الكليّ والجزئيّ تشكّل قضية يجب حلّها برأيه، وقد عولجت في محاورة "بارمينيدس". ويرى "أفلاطون" أنَّ الرأي لا يشكّل معرفة، وأنَّ الذهن يجب أن يترقي صعودًا من الجهل الكامل، ثم إلى الرأي، وصولًا في المرحلة الثالثة إلى المعرفة الصحيحة، وهي الكليات. ويرى "أفلاطون" أنَّ تعليم الرياضيات يؤدي إلى عدم التقيد بالمحسوس والانتقال إلى المعقول. ويشبّه "أفلاطون" حالة الترقي هذه بمثال الكهف المعروف، حيث يكون الناس في عتمة الكهف لا يرون إلا الظلال، ثم بالانتقال إلى عالم النور، تبدو لهم الأشياء على حقيقتها. ويرى "أفلاطون" أنَّ ثمة حالة متوسطة بين الرأي والعقل الخالص هي حالة الفهم والتفكير. وقد أوضح "أرسطو" لاحقًا المقولة الأفلاطونية بالقول إنَّ الرياضيات هي الحالة الوسطية التي تفصل الرأي عن معرفة المُثل. يؤكّد "أفلاطون" أنَّ المُثل أو الكليات التي يدركها العقل الخالص ليست ذاتية من صناعة العقل؛ بل هي كلياتٌ موضوعيّةٌ موجودةٌ، والعقلُ لا يفعل شيئًا غير الكشف عنها.
في محاورة "بارمينيدس"، يعاود سلمان البدور مناقشة المُثُل ووجودها المستقل عن العالم، حيث يورد رأي "بارمينيدس" الذي كان يسخرُ من العلاقة التي يمكن أن تربط أشياء العالم بالمُثل. يقول الدكتور سلمان: "إنَّ نظرية المُثل عالية الكفاءة في تفسير المُثل المتعلقة بالمثل الأخلاقية والجمالية كالعدالة، لأنَّ هذه المُثل بالفعل مستقلة". ولكن عند التحدّث في الطبيعيات والبيولوجيا، فإنَّ المسألة تصبح كارثةً على المعرفة، وتنهار كليًّا عند الحديث عن تفاصيل الحياة القذرة، حيث من المستحيل إيجاد أي علاقة بين المُثل وهذه المفردات من الواقع. تحتوي هذه المحاورة على الكثير من النقاشات التي تدور كلُّها حول العلاقة بين المُثل والواقع، وكيف يمكن أن تتصل بها. وكان هناك في المحاورة مقترحٌ للحلِّ يقول إنَّ لا علاقة للمُثل بالواقع، بل إنَّ العلاقة تكون فقط بين مكونات المُثل نفسها، وكذلك هناك علاقةٌ بين مكونات الواقع نفسه، وأنَّ العلاقات في كلا الجهتين هي التي تتشابه. ويرى الدكتور سلمان أنَّ المسألةَ لم تُحسم، والدليل أنَّ "أرسطو" الذي جاء بعد "أفلاطون" كان ينتقدُ نظرية المُثل لأنَّها ضاعفت الوجود بشكلٍ غير مبرر، أي أنَّها أوجدت عالمًا مستقلًا عن عالم الواقع هو عالم المُثل. ولكنَّ الدكتور سلمان ربما يدافعُ عن "أفلاطون" في هذه المسألة، ويرى أنَّ "أفلاطون" لم يقصد أن عالم المُثل هو عالمٌ مستقلٌ ومنفصلٌ عن الواقع؛ لأنَّ هذه المُثل ليست سوى مُثلٍ للواقع نفسه، وليست لشيء آخر غيره. والنتيجة أنَّه لا يوجد رأيٌ حاسمٌ حول طبيعة المعرفة كما يخلص البدور.