محمد سمحان
باحث وشاعر أردني
بالرغم من كثرة الدراسات التي تناولت عرار شعرًا وشاعرًا؛ فإنَّ هذا الشاعر قد لقي من الغبن في مماته كما لقي في حياته، وإذا كان الساسةُ قد جحدوه في حياته، فإنَّ دارسيه لم ينصفوه بعد مماته، فمن ملتصق به من زاوية رؤية إقليمية ضيقة قصُرت عن بلوغ أو استقصاء آفاق عرار القوميّة التي بلغها؛ فاعتبروا أنَّ تغنيه بمواقع ومرابع داخل إقليم الأردن الجغرافيّ على أنَّه دليلٌ واضحٌ وبيّنٌ على إقليميته، وجعلوا منه رمزًا إقليميًّا، فذهبوا بذلك مع قول كلمة حق أريد بها باطل، أو إلى مزايد عليه رماه من خلال تغنيه بربوع موطنه بالإقليمية، وببعده عن الروح القوميّة العربيّة التي على أساسها قامت الثورة العربية الكبرى، وأُنشئ الكيان الأردني أيضًا؛ وحرمه بالتالي من حقِّ الإحساس والمعايشة والمعاناة والمشاركة مع أبناء أمّته في كلٍّ من سوريا ولبنان وفلسطين والعراق ومصر والمغرب، وغيرها.
ولقد أخطأ الفريقان في اجتهادهما وحكمهما الموجه والمقصود ربما سلفًا، والبعيد كل البعد عن الموضوعية وروح النقد العلميّ، فبقيا بعيدين عن عرار وعن فهم حقيقة شعره وأبعاده ومراميه، بعدَ عرار عن الإقليمية، أو السكوت على الذل والهوان.
وفي محاولة لاستقصاء الحقيقة أولًا؛ ولدرء الظلم الذي لحق بهذا الشاعر الكبير، وللرد على تخرّصاتٍ وتقوّلاتٍ ما فتئ الفريقان يرددانها وينطلقان من خلالها لاتخاذ مواقف أو تصورات خاطئة وضارة؛ رأيتُ أن أقدم هذه الدراسة المتواضعة التي تؤكّد من خلال شعره- لا من خلال وجهة نظري- روحَ عرار القوميّة، وحسنَ انتمائه، وسلامةَ حسّه، وعمقَ وعيه ومشاعره مع ما كان يجري على امتداد مساحة الوطن العربي الكبير، وبخاصّة قضية فلسطين؛ شأنه في ذلك شأن الغالبية العظمى من أبناء شرق الأردن قبل تأسيس الإمارة وبعدها، وفي كلِّ مراحل القضية الفلسطينية وحتى الآن، يقولُ عرار في مقطوعة شعرية بعنوان "الحنين الى الجزيرة" (ص223) من ديوانه "عشيات وادي اليابس" الصادر عن مطابع المؤسسة الصحفية الأردنيّة عام 1973 :
" وكلُّ بلادٍ يلفظُ الضادَ أهلها بلادي وإن كانت بمثلي تضلعُ."
بهذا يحدّدُ عرار وبلسانِ شعرِه هُويته القوميّة، وعمق انتمائه للعروبة أرضًا وشعبًا متجاوزًا حدود الكيانات المصنوعة والانتماءات الإقليميّة الضيقة، وكأنَّي به هنا يردُّ على أولئك الذين يحاولون تشويه صورته الناصعة النقية من الفريقين، مهما حاولا أن يزجّا بدعاواهما واستشهادهما بأبياتٍ يتغنّى بها بوطنه الصغير، ويتباهى به أمام من حاولوا الغمزَ من قناة هذا الوطن؛ حين قال:
" تعالى الله والأردن لا بغداد والرطبة "
علمًا أنَّ زوجته كردية عراقية، وقد عاش في "كردستان" عند أنسبائه ردحًا من الزمن، لكنَّه الشاعرُ حين يُستفز؛ فيتطرف في لحظة انفعال تخرجه للحظاتٍ عن مسار فكره ومشاعره، وتحوّطًا منه- أي عرار- من بعض المتصيدين في الماء العكر، ينبّه إلى الأمر في بيتٍ آخر من مقطوعة شعريّة بعنوان "قالوا سيجمعُ أشعاري" ص 247 من الديوان نفسه:
"لأنَّ شعبي جزائي كان منه- وكم ناصرته- في مجال الروع خذلاني."
فعرار لم يُغلق بوابة الأردن على نفسه، ولم يغلق عينيه وقلبه وشعره عن العروبة وفلسطين وأهل فلسطين، نلمسُ ذلك في قصيدته التي نُشرت بتاريخ 1/7/1931 في جريدة الكرمل الفلسطينية، والتي نظمها في رثاء جلالة المغفور له الحسين بن علي قائد الثورة العربية الكبرى بعنوان "برًا بالحسين" ص 83، 84، 85، من الديوان نفسه، والتي يقولُ فيها:
"علّمتنا كيف الفنـــــــاءُ بحبِّ أمتـــــــــــــنا يكـــون
وأعزّ مــــا ملــــــكت يـــــدان وما يعزّ المالــــكين
في نصرة المـــــــثل العليــــة كيف يجدر أن يهون
غامرت بالتـــــاج الثمين تصون بالعرش المكــــين
المسجد الأقصى وحـــــــــقّ بني أبـــــيك بفلسطين
لا غرو أولى القبلتـــــين إن اصطفيت لــــها خدين
ما زلت بين حماتــــــها في السابقـــــــــين الأولين
أأصبت أم أخطــــــأت في مسعاك نهــــج المحسنين
شأنـــــان لن يعنى بمثلـــــــــــهما مؤرخك الرصين
يكفـــــــيك أنَّك كنت عفَّ النفس وضـّاح الجــــــبين
لم تشرِ - إذ بلفـــــــــــــور سامك موطنًا - دنـيا بدين
صلّى الإلهُ عليـــــــك يا ابن الطيــــبين الطــــاهرين
وعلى الذين قضــــــــوا بعهدك للعـــــــروبة عاملين
في ســــــاحة الشهداء من فيحــــــــــاء دينهم تدين
في الرمل من بيروت في عكاء في مضض السجون
في الغوطتين، وفي العراق، وفي مشارف ميــــسلون
شمّ المعاطس مجــــــــدهم في المجد منقطع القرين
أُسد المفاوز ما ثنتــــــــهم عن معاقلها الحصـــون
حتى اشتروا بدمـــــــــــائهم حرية الوطن الغبــــين
وبنيــــــــه واستقلالهم لولا حبائــــــل مكــــماهون."
فالتغني بحبِّ الأمة، والوطن العربي، والمسجد الأقصى وفلسطين، والدعوة لحمايتها مما يحيق بها، والإشادة برفض وعد بلفور، وبالذين قضوا فداءً للعروبة في دمشق وبيروت وعكا وبغداد، وبالتنويه بحبائل ومكائد بريطانيا وبخذلانها للشريف الحسين بن علي-طيّب الله ثراه- وغدرها بثورته، هذا الغناء الذبيح من أعماق مشاعر عرار وأحاسيسه يجيئ صادقًا عميقًا لا يقلُّ في توتره وحرارته عن غنائه لإربد والحصن، ووادي اليابس وشيحان وغيرها من مواقع وطنه الصغير الأردن، وهل بعد هذا من يجيئ من الفريقين ليرمي عرار بالإقليمية البغيضة حبًا أو كرهًا له ؟!!.
وفي قصيدته "نُـوَرٌ نسميهم" 1933 ص 105ـ107 من الديوان يقول عرار:
" أوَ لـَم تر العرفاء كيف تهودوا أو لم تر المتعلمين تنــــــــــصّروا
والبائعين بلادهــــم بقلامـــــة قد أقدمــــوا والمخلصين تقهقروا
باعوا العقائد بالقلائد وانبــرى منهم لبيـــع تراث يعـــــرب أزعرُ
ما زال من كنّا نؤمل خيـرهم قد أصبحوا عن رأي "وايزمن" يصدروا
ولقائل لك في العراق وملكه واق يعيـــــــذك ما تخـــاف وتحــذر
فهناك لا بلفور يزعج وعده أحدًا وليس هنـــــــــاك من يتبلفــــر."
نلمحُ في هذه الأبيات إشارةً واضحةً إلى الذين باعوا تراث الأمة العربية، وارتبطوا ب"وايزمن"، وقبلوا بوعد بلفور، وهذه كلها كان يعاني منها عرار وعرب فلسطين مجتمعين.
وفي قصيدته "عشيات وادي اليابس" المنشورة في جريدة الأردن بتاريخ 15 /7/ 1933 (ص4،5 من الديوان) يشير عرار إلى نبوءة مشؤومة تنذر وتنبه بعين الرائي البصير إلى ما آلت وستؤول إليه أحوال العرب؛ أردنيين وفلسطينيين ومسلمين ومسيحيين، إذا لم يتداركوا أمرهم، وبقوا على ما هم عليه؛ فيقول:
"لله قومي كيف عكر صفوهم طيش الشيوخ وخفـــــة الشبان
وتسوّل المتزعمين حقوقهم من زمرة (الأذان والغلـــمان)
وتظاهر المتصدرين لبيعهم لا عن تقى بحماية الأديـــــان
يا رب إن بلفور أنفذ وعده كم مسلم يبقى وكم نصـــراني؟
وكيان مسجد قريتي من ذا الذي يبقي عليه إذا أُزيـــــــل كياني
وكنيسة العذراء أين مكانها؟ سيكون إن بُعث اليهود مكاني."
فأية رؤية؟، وأية نبوءة قادت عرار في ذلك الوقت المبكر من تاريخ الصراع العربي الصهيوني إلى ما صار من أحوالٍ بعد ذلك؟ وما قد يصير- لا سمح الله- نتيجة قراءته الواعية والعميقة لأحوال العرب والمسلمين؟.
ومن قصيدةٍ له بعنوان "جيران وادي الحوارث" وهو وادٍ مشهورٌ في فلسطين، يقولُ عرار:
"إنَّي أرى سبب الفناء وإنَّـــــما سببُ الفناء قطيعة الأرحـــام
فدعوا مقال القائلين جهــــــالةً هذا عــــــــراقي وذاك شآمي
وتداركوا بـــــأبي وأمّي أنتـــم أرحامــــكم برواجح الأحــلام
فبلادكم بلدي وبعض مصابـكم همّي وبعض همومــكم آلامي
وكما على وادي الحوارث دمعكم يهمي دمًا فهنا الدمـوع هوامي
فدياركم داري وبعض تــــلادكم هو طارفي ومناكم أحـــــلامي
وكما لكم هدفٌ فإنَّ لمــــــــثله سعيي وغاية صبوتي وهيامي."
هذا هو عرار المُبتلى بضياع وادي الحوارث كاهله، يبكي ويتألم لما ضاع، ويشارك أهله نكبتهم ومصابهم الجلل والمواجع والفواجع، ويؤكّد على وحدة الهدف والمصاب والمصير بين أبناء الأردن وفلسطين، والعرب والمسلمين، في فيضٍ من الوجدان الشفاف الصادق والعميق.
ويقولُ عرار في قصيدته "عبود" بتاريخ 8/8/ 1933 محذرًا ومنذرًا من سوء الحال والمآل، اذا استمرَّ الأمر على ما هو عليه:
"هيهات مني كلّ ما أريـــــد إنَّ غدًا وما غدٌ بعـــيدُ
لسوف يبدي بعض ما أُعيد فحسبنا لبعضنا نكــــيد
ضلَّ غويٌ واهتـــدى رشيد إن فاز بالغنيمة اليهود
فحوضهم لا حوضك المورود وظلّهم لا ظلّك الممدود."
فأيّ إنذارات متتالية كزخات المطر كان ينبّه بها عرار بني قومه حكامًا وشعوبًا، لم يصغوا لها ولم يلتفتوا لخطورتها، بل لم يلقوا لها بالًا، ليلتقي بمخاوفه مع زميله إبراهيم طوقان في فلسطين، وهو يصرخ من الجرح ذاته، ومن الإحساس نفسه.
ويقولُ عرار في واحدةٍ من أُخريات قصائده؛ قالها يوم قبول الدول العربية المقاتلة في فلسطين بالهدنة عام 1948، باكيًا حزينًا على ما كان من هزيمةٍ وفقدانٍ وضياعٍ وتشرّدٍ للأهلين، وانتصارٍ للصهاينة المستوطنين، مذكرًا ومقارنًا بين ضياع فلسطين والأندلس، مع تشابه العوامل والمصير:
"يا أربعَ الشؤم قد أودى بطـــارفنا مع التليـــــد زمانٌ قد تحــــــدانا
إنَّا رزئنا لأنَّ الحـــــــــظ عاكسنا وحالف القــــوم من اتباع "هاغانا"
قد أُعطي الناسُ ما شاءوا وما رغبوا أمَّا الرزايا فقد كانت عطايـانا
من كان يحسب أنَّ العرب يخدعهم من كنت تحسبهم للعرب إخوانا
إنَّ الوعود التي منـُّوا وما صدقوا بها عليــــنا لعمري كن َّ بهتـانا
فحسبنا من وعود القـــوم مينهم من يوم حطين حتى اليوم والآنا
لو أنَّ ساستنا أوفوا بما وعـــدوا ما كان يا سيدي ما كـان ما كانا
أطلال يافا وحيفا أمس برقــــهما قد رفّ وهنًا فأشجــانا وأبـــكانا
يا ابن النبي ألم عن أهل أنـــدلسٍ تأتيك دارعــــــةٌ تروي حكايانا؟!."
هذا هو عرار، وهذه بعضٌ من دموع شعره، وصيحات تحذيراته، وصرخات آلامه، وزفرات وداعياته لفلسطين، وهذه أصداءُ تنهداته الحرّى على أطلال الوطن السليب، وتلك اشتعالاتُ أحزانه ونزيفُ جوارحه على فلسطين، وما ألمَّ بفلسطين منذ بواكير صباه وبوحه الشعري وحتى آخر أيامه، لا يقلُّ في جهاده الشعري عن أخدانه في فلسطين وسوريا ولبنان والعراق ومصر وغيرها من فسيفساء الوطن الممزق، والمتناثر من المحيط إلى المحيط، من أمثال؛ إبراهيم طوقان، وأبي سلمى، وعبد الرحيم محمود الفلسطينيين، وأبي ريشة والخوري، وعلي محمود طه، والجواهري من شعراء العربية الرائعين. وهل بعد ذلك سيخرج علينا من يستشهد بشعر عرار المتدفق بحبِّ الأردن؛ بحواضره وبواديه، بسهوله وجباله ومدنه وقراه، وغاباته وصحاريه وينابيعه ووديانه؟؛ ليقول لنا إنَّ عرار كان إقليميًّا، وأنَّ حبّه للأردن كان على حساب فلسطين، وأنَّ آفاق شعره لم تتجاوز حدود الأردن الجغرافيّ السياسيّ.
وأنا أقولُ: إنَّ فلسطين كانت وظلّت حتى نفسه الأخير همَّه وشاغلَ أفكاره ومناطَ أشعاره، وأنَّ شعب فلسطين وباقي الشعوب العربية لم تكن خارج إطار وجدانه وتدفقات أحزانه؟.
ومن قال إنَّ حبَّ المرء لوطنه سبة أو عار ليدافع عن نفسه ويتبرأ منها، أوما زلنا إلى الآن نتحسر ونتألم لما جرى في الأندلس؟! أوما كتبنا للجزائر والمغرب وليبيا والعراق وفلسطين حتى الآن؟!، ومن قال إنَّ حبي لفلسطين هو نقيضٌ لحبّي للأردن، أو العراق، أو لسوريا أو لبنان؟!، ومن الذي يجرؤ أن يقول إنَّ هذا وطني وليس وطنك؟، أو إنَّ هذا وطنك وليس وطني؟ إلا إنَّ تقاسيم السياسة ما هي إلا الوجع في الوجدان، وإن أكثر الناس تأثرًا وفجيعةً هم الشعراء.
إنَّ ما أوردته من نماذج واستشهادات من شعر عرار في هذه العجالة لدليلٌ ساطعٌ وبرهانٌ لا يقبل الدحض في ما ذهبتُ إليه، وإنَّه لمحاولةٌ متواضعة مني لإعطاء هذا الشاعر العربيّ الأردنيّ الفلسطينيّ بعضَ حقِّه، وإعادة السوية الوجدانية لأشعاره، ولدرء بعض ما حاول المغرضون والمتخرصون أن يلصقوا به من تهمٍ وادعاءات، هو عنها بعيدٌ ومنها براء.