د.محمد عبيد الله
أكاديمي وناقد أردني.
ظلَّ الشاعرُ والناقدُ الراحلُ عبد العزيز المقالح (1937-2022) عنوانًا ثقافيًّا وفكريًّا لليمن طوال عدّة عقود، في كتاباته ومؤلفاته، وفي أدواره وأعماله البارزة، وفي صلاته بالمثقفين العرب، منطلقًا من وعيه الأصيل، ومن تقديره لوحدة الثقافة العربيّة، ذلك أنَّ هذا البعدَ العروبيَّ قد يكون من أبرز ما وسم شخصيته، وأثّر في إنتاجه الشعريّ والنقديّ، وانعكس على مسالكه وأدواره جميعًا.
ولربما يحسن تذكير القارئ أنَّ الراحل المقالح قد أفاد من انتمائه إلى البيئة الثقافية والأكاديمية في مصر، فلقد درس في القاهرة التي كانت قِبْلة الدارسين والمثقّفين في المرحلة الناصرية، ولذلك فأثرها في تكوينه الثقافي والنقدي لا يخفى، ويمكن القول إنَّه إلى جانب تكوينه اليمني ولادةً وتنشئةً وحياة، فهو ابنُ المدرسة المصرية ثقافةً ودراسةً وإنتاجًا، بل إنَّ طريقته في الكتابة والتأليف تقرب من اهتمامات المدرسة المصرية، في حقبة صعودها الناصري القومي على وجه التخصيص.
وللمقالح ما يقرب من ثلاثين كتابًا مؤلَّفًا في مجال الدراسات والبحث والنقد، تتعلق بقضايا وظواهر متنوعة، منها ما يتّصلُ باليمن وقضاياه الثقافية وتراثه البعيد والقريب، ومنها ما يتعلق بظواهر استوقفت المقالح في نظرته العروبية الممتدة، وقد ألّف كتابًا حول شعر الانتفاضة الفلسطينية الأولى بعنوان (صدمة الحجارة: دراسة في قصيدة الانتفاضة، 1992م)، وفي مثل هذا الكتاب يتجلى تأييده للمقاومة الإبداعية ولما تدلُّ عليه من رفض الاحتلال ومواجهته بالحجر وبالشعر وبالكتابة. كما وضع كتابًا قبل هذا الكتاب عن أدب المغرب العربي بعنوان (تلاقي الأطراف: قراءة في أدب المغرب العربي الكبير، 1987م) ويمثّل التفاتة مشرقية مبكرة إلى أدب المغرب العربي الكبير، تكشف جانبًا من نظرته الوحدوية الممتدة.
وفي مجال الاهتمام بالأجناس الأدبية عُني المقالح بالشعر والرواية والمسرح والقصة القصيرة والنقد، دارسًا ومؤرخًا لهذه الأجناس والأنواع ما سمح له الوقت والجهد، ولكن الشعر حظي باهتمامه وعنايته بدرجة أكبر من الأجناس الأخرى، فكانت رسالته في مرحلة الماجستير تتعلق بــ (الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن) وقد نُشرت في كتاب معروف ضمن منشورات دار العودة، في بيروت عام 1974. أمَّا مرحلة الدكتوراه فخصّصها لدراسة شعر العامية في اليمن، فدرسه دراسة تاريخية ونقدية، ونشرتها دار العودة عام 1978. وظلَّ طوال سنيّ عطائه يتابع الشعرَ ويكتب ويؤلف حول أعلامه وظواهره، مرحّبًا بما يجدّ فيه من أساليب وظواهر، أو مؤرخًا لبعض الروّاد مذكّرا بأدوارهم التي يكاد يطويها النسيان، ومن ذلك تذكيره بمكانة الأديب اليمني المنسيّ (علي أحمد باكثير)، أحد رواد التجديد في الشعر والمسرح، فوضع عنه كتابًا ممتعًا بعنوان (علي أحمد باكثير: رائد التحديث في الشعر العربي المعاصر).
ومن الملحوظ في هذه الاختيارات أنَّه عني في دراساته بالشعر في اليمن، وكأنَّه يريد أن يضعَ تلك التجربةَ في سياق الشعر العربيّ، ولكنَّه عني إلى جانب ذلك عنايةً واسعةً بالشعر العربي المعاصر باتجاهاته المتنوعة، مع عناية خاصّة باتجاه التجديد الذي يتمثّل عنده في شعر التفعيلة على وجه الخصوص.
المقالح: الشاعرُ الناقدُ
ومن المنظور النقدي ينتمي المقالح- أيضًا - إلى ما يُسمّى باتّجاه (الشعراء النقّاد)، وهو اتّجاهٌ ملحوظٌ في النقد العالمي والعربي، ويضم مبدعين جمعوا بين ممارسة الإبداع وبين كتابة النقد، متكئين على خبرتهم ومعرفتهم بمسالك الإبداع من خلال ممارساتهم الشعرية وكتاباتهم الفعلية، من مثل: أدونيس، وعز الدين المناصرة، وصلاح عبد الصبور وعلي جعفر العلاق وغيرهم. ومن يقرأ دراسات المقالح النقدية لا ينبغي أن ينسى هذه الناحية، فهو إزاء نقد يتكئ على ذوق الشاعر وخبرته، ولا يمكن له أن يتخلص من هذه المعرفة في ممارسته النقدية.
ولا يخفى في هذا المجال بعض التأثيرات الأجنبية، من مثل تأثير (ت.س.إليوت) بصفةٍ بارزةٍ، إلى جانب ما وصل من آراء مدرسة النقد الجديد التي قدمت انتقالة ملحوظة في طرائق نقد الشعر والاهتمام بلغته وأساليبه وأخيلته، وكان معظم روّاد النقد الجديد من الشعراء النقّاد الذين جعلوا من النقد دفاعًا نثريًّا عن طرائق كتابتهم، ومنبرًا لتسويغ ما قدموا من تجارب مختلفة عن أسلافهم، واستخدموا خلال ذلك اصطلاحات وتعبيرات جديدة مغايرة لما أشاعه النقدُ الخالص.
وقد تميّز المقالح برؤيته المتفهّمة والمؤيدة لرياح التغيير والتحديث في الحياة والفن والأدب، فظلَّ يقدر الجديد ويتفهم أسباب ظهوره، ويدعو إلى منحه فرصة إثبات جديته وفاعليته، إنَّه ينطلق من موقف راسخ إزاء تطورات الثقافة والحياة التي لا تعرف الثبات، ويتفهم اعتياد الناس وألفتهم ما عرفوا، ومقاومة كثير منهم رياح التغيير في الحياة وظواهر الأدب والثقافة، ولكنَّه يرى بوضوح أنَّ تلك الرياح هي ما يميز عصرنا، فالتجديد والتغيير والتبدل والتطور من أبرز سمات عصرنا، وثقافتنا المعاصرة، كما يؤكّد في كثير من مؤلفاته وآثاره.
والملمح الآخر أنَّ جلَّ آثاره النقدية هي جهود تطبيقية، تقرأ تجارب بعينها، وتتفاعل مع شعراء وروائيين وقصاصين، ومعنى هذا أنَّه لم يشغل نفسه بالتأليف والبحث في النظرية الأدبية والشعرية، ولم يول الجوانب النظرية اهتمامًا موسّعًا، وإنَّما مال إلى الإفادة من النظريات والمناهج في التحليل والقراءة والنقد كخلفية حرة تظهر بين سطوره وفي ثنايا قراءاته الثرية.
الشعرُ بين الرؤيا والتشكيل:
ويمكن أن نمثّل على جهوده في نقد الشعر وقراءته بكتابه المعروف (الشعر بين الرؤيا والتشكيل) الذي تناول فيه جملة من تجارب الشعر الحديث وكشف فيه ضمنيًّا عن تلقّيه لتلك التجارب وتفاعله معها قارئًا وناقدًا وشاعرًا بطبيعة الحال.
وقد تضمن الكتاب ثلاثة فصول: الأول (في التجربة الشعرية)، والثاني (عن التشكيل في الأدب)، والثالث (شعراء من اليمن). وفي كل فصل عدة أقسام يجمع بينها محور الفصل أو موضوعه الرئيس. والكتابُ مثالٌ لكثير من كتب المقالح التي تبدو أقرب إلى مقالات وفصول جرى تنظيمها لتغدو كتبًا مجموعة تتعلق بالشعر في أكثرها، إلى جانب اهتمامات أدبية وثقافية أخرى، كما نلحظ في الكتاب اهتمامه بالشعر في اليمن، وهو الموضوع الذي رافقه في كثير من جهوده، دون أن ينغلق عليه أو يكتفي به.
ويهمنا من هذا الكتاب ترداد المقالح لمصطلح (الرؤيا) في عنوان الكتاب وفي ثناياه، وهو مصطلحٌ شاع استعماله في بعض مراحل حياة القصيدة المعاصرة، وربما أسهم النقد العربي الجديد الذي تفاعل مع النقد الجديد ذي الأصول الأنجلوسكسونية بإشاعته، وفي العالم العربي تكرر استعماله عند جبرا وأدونيس وغيرهما من الشعراء والنقاد. ويبدو أنَّ هذا المصطلح قد راق للنقّاد والشعراء فهو يمثّل حيلة تبعد بهم عن الحديث عن (مضمون) القصيدة أو موضوعها، لصالح مصطلح أرفع شأنًا ربما يتلاءم مع اختلاف الشعر واختلاف طريقته في التعبير عن معناه. إنَّه مصطلحٌ يقع في دائرة المعنى بالتأكيد؛ ولكنَّه المعنى الشعري وجملة منظورات الشعر والشاعر مما يقف خلف القصيدة ويحركها ويبنيها. ولعلَّ في هذا المصطلح بقايا "رومانسية" تحدرت من تلك الحقبة التي نظرت إلى الشاعر بوصفه رائيًا بصيرًا بما لا يبصره الآخرون، وبالرغم من خروج النقد الجديد على ميراث الرومانسية فقد أفاد منها قدرًا من نزعتها الإشراقيّة أو النبوية في النظرة إلى الإبداع الشعري والإعلاء من مكانة الشاعر ومقدرته الفائقة في الاستبصار واختراق الظواهر المحيطة.
يدلُّ مصطلح (الرؤيا) كما يتبين لنا من سياقات استعماله عند المقالح على جملة مواقف الشاعر ووعيه النقدي والفكري بما يريد أن يعبر عنه من خلال تجربته الشعرية، فعلى سبيل المثال يقرأ الناقد في فصل (التجربة الشعرية) كتابًا بارزًا لصلاح عبد الصبور هو كتابه (حياتي في الشعر) ويجتهد في استخلاص منظور عبد الصبور للعلاقة بين الحياة والشعر، وتضم هذه العلاقة كثيرًا من التفاصيل التي ينبغي للشاعر أن يحدّد موقفه منها، ففي ضوئها تتحدد اتجاهات كتابته الشعرية، من مثل: العلاقة بين الشعر والفكر، والواقع والشعر، والثقافة والشعر ونحو ذلك مما يؤثر تأثيرا بيّنا في أداء الشعر وصياغته وتشكيله.
أمَّا مصطلح التشكيل فهو الوجه الآخر لما اهتم به المقالح وألحّ عليه إلحاحًا شديدًا، ويعني به على وجه التقريب جملة المسائل الفنية والبلاغية والإيقاعية التي لا يستقيم الشعر من دونها، فالشعرُ صناعةٌ فنيّةٌ لها أصولُها ومسالكها الصعبة، ولكنَّه يرى التشكيل لازمًا أو ناتجًا عن رؤية الشاعر ووعيه الثقافي، وليس مسألةً زخرفيّةً أو جماليّةً خالصة؛ ولذلك فإنَّ التغيير في الرؤيا لا بدَّ أن يؤدي في القصيدة الناجحة إلى تغيير ملحوظ في التشكيل.
وختامًا؛ فلقد ظلَّ المقالح وفيًّا لما نذر نفسه له وآمن به، وعبّر عنه في الشعر والكتابة النقدية، وإدارة المؤسسات الجامعية في اليمن، بوعي صافٍ وبصيرة جريئة، ولقد رحل مؤخرًا عن دنيانا، ولكنَّه رحيلُ الجسد وفناءُ المادة، أمَّا آثاره فباقية من خلال الأثر الحميد الذي تركه، وفي هذا بعض العزاء لقرائه وأهله ومحبيه.