محمد معتصم
ناقد وباحث مغربي.
لقد مرَّ الشعرُ العربيُّ في النصف الثاني من القرن العشرين بحالةٍ من الفورة والثورة على نفسه والأوضاع الاجتماعية والنفسية والسياسية والثقافية، في محاولة التجدّد ومسايرة التحوّلات العالمية، وفي الوقت ذاته المحاولة في فرض تصوّره الجديد الذي يحتوي آثار التغيرات الوطنية؛ ومن أهمّها استقلال كثير من الدول العربية من نير الاستعمار الإمبرياليّ، وفي الآن ذاته العمل على حماية الاستقلال من الانحراف أو استحواذ جهات معينة لا وطنية للسيادة؛ وبذلك إفساد الانتقال الديمقراطي. وكان الشعرُ العربيُّ سابقًا على الأجناس الأدبية الأخرى في التعبير عن روح التحرّر والتعبير عن طموح التغيير والانعتاق التام، وبناء الدولة الوطنية المعتزة بوطنيّتها ومكوّنات هُويتها اللغوية والفكرية والثقافية والحضارية.
لكن للأسف، اصطدمت فكرة التحرّر الكامل التام مع فكرة الهيمنة السياديّة، التي ولّدت حالةً من الاضطراب والصراع الفكري والإيديولوجي، الذي أدى إلى ظهور حالة الاغتراب والنفي والاعتقال والشعور بالخيبة. ومن المهم جدًّا الإشارة إلى أنَّ تجربة الشعراء والكتّاب في سبعينيات القرن الماضي قد وُصفتْ بـِ"خيبة الأحلام"؛ جيل الأحلام الخائبة، لأنَّه جيلٌ اصطدمت فرحته بالاستقلال من الاستعمار وفي المغرب من الحماية الفرنسية، اصطدمت بصلابة الواقع الذي رفض التغيير وقطع الصلة بالماضي والفكر التقليدي الذي ينظر إلى الذات نظرة محدودة، ويرهن وجوده ضمن مجموعات العالم الثالث، حين اختار المسؤولون عنه سياسيًّا الوقوف عند ما تحقق، الاستقلال العسكري، وسمحوا للاستعمار الاستمرار سياسيًّا وثقافيًّا وفكريًّا وإداريًّا، في الوقت ذاته كان العالم الغربي يمور بالأحداث الجسام التي ترتبت عن مخلفات الحربين العالميتين والأزمة الاقتصادية الكبرى، والتكتم عن الاستقلالات المبتورة والتشوهات التي لم تكتمل ولادتها، وتبعات ذلك، وما تكشَّفَ من حقائق وأهمها الخطابات المزدوجة التي تسوِّقُ لعموم الناس رسائل لا تقول الحقيقة وتتكتم عن التحالفات السرية التي تخون أفكار الحرية والتحرر. لقد تبيّن للفئات المثقفة أنَّ الغرب المستعمِر ليس هو الذي تم تسويقه عبر فلسفات وخطابات إعلاميّة رسميّة، والشيء ذاته يُقال عن الحكومات التي تسلّمت الشأن العام والسياسي في البلدان المستقلة.
ومن أهم ملامح الفكر في تلك المرحلة والتي تضمنها الخطاب السردي والشعري خاصة، الدعوة إلى الصمود والاستمرار في المطالبة بالتحرّر التام والاستقلال غير المشروط للسيادة الوطنية الكفيلة بترقية الحياة الاجتماعية، وضمان كرامة المواطن ومساواته بغيره في الحقوق والواجبات وحقّه في الحرية، بعيدًا عن تهديد الاعتقال والحبس من أجل الرأي، وقد كتب عن هذا الجيل السبعيني في اليمن الشاعر عبد العزيز المقالح قصيدة خاصة، تثبت أنَّ مرحلة السبعينيات لم تكن مرحلةً عاديّةً، بل كانت مرحلة مفصلية، أو هي ذروة الصراع بين السلطة والمُخلِّص، وقد تكسرتِ الرماح والنصال على صخر التعنت والجبروت في العالم العربي، وهو ما يدل -أيضًا- على وحدة المصير وأسباب التأخر عن مواصلة التحرير واللحاق بالركب الحضاري المعاصر، يقول الشاعر من بين ما جاء قي قصيدة (الأبطال.. والسبعون):
"وكانت السبعون
أشرف أيام الخلود في ديارنا الخضراء
أخصب ما جادت به القرون
أنصع مولود لأرضنا الحنون
لأمّنا صنعاء".
ومن دون شك، فإنَّ الفكرة المهيمنة وقتذاك، والناتجة عن قوّة الصراع والاصطدام الفكري بين المثقفين غير الموالين للسلطة، وبين الفكر السيادي الذي يرغب في استتباب الأمور من أجل ترسيخ نظام سياسي يضمن من جهة استمرار الحياة من النقطة التي غادر فيها المستعمر الأوطان العربية لا كسيادة حقيقية وفعلية، بل كوصيٍّ على رسالة ووصية وعلى اتفاقيات دُبِّرت في ليل، ووجب تنفيذها في تجاهل تام لمطالب الشعب بمختلف طبقاته وفئات وعلى رأسها: الكرامة والحرية والمساواة والحفاظ على الهوية المميزة للكينونة.
إنَّ هذه الوضعية المتأزمة والخلافية تَوَلَّدَ عنها مفهوم "المنفى" في الأدب، وهو الأدب الذي ارتبط في الداخل بمفهوم "الاعتقال والسجن"؛ أي المنافي المحلية والداخلية الذي كان من بين وظائفها تخوين المناضلين وكل أشكال المعارضة، وإرغامهم على السكوت والقبول بالأمر الواقع والاستسلام له، ومن المؤكّد أنَّ شعر الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين قد زخر بهذه الموضوعة التي تختزل رمزيًّا حالة نفسية وشعورية سادت المتخيل العربي والمتمثلة في روح المقاومة وعدم الاستسلام للأمر الوقع، أي أنَّ الأديب السارد والشاعر خاصة "التزم" بقضايا المرحلة، أي أنَّه مال نحو تحرير وعي الشعوب من روح الخنوع والاستسلام والدعوة إلى الانخراط العام في حركة التحرر الشاملة من أجل القضاء على التخلف وآثاره على الفرد والمجتمع، وعلى الجهل والفقر والقهر. كما أنَّه أدبٌ ارتبط بمفهوم آخر مهم جدًا في تحديد هوية المتخيل الشعري العربي في تلك المرحلة وما تلاها ومن بينها شعر الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح، وهو مفهوم "الاغتراب" الذي بات فيه الشاعر والأديب ينظران إلى أرض الإيواء (المنفى) بمنظار الوطن- اليمن أو البلاد العربية- المستلب والمكبَّل بقيود التخلف والجهل والتسلط والقهر، أو كذلك الذي ينظر إلى الوطن بمنظار أرض الإيواء والملجأ الآمن والمتحضر والمتحرر، فيشعر باليأس وتتحرَّق روحه وفكره ووعيه من أجل وطنه وأهله، فيُشفق عليه حينًا (لما هو عليه من هوان) ويذمّه في كثيرٍ من الأحيان (جراء المكرسين لحاله البائسة). ولقد ارتبط مفهوم الالتزام (بمعنييه، الفكري الفلسفي والأدبي أو السياسي) في الشعر عامةً وعند الشاعر عبد العزيز المقالح بالحرية.
إذن، فموضوعة المنفى لا تنفصلُ عن موضوعة طلب الحرية والتحرُّر، ويتجلّى ذلك منذ الوهلة الشعرية الأولى، في ديوانه "لابدَّ.. من صنعاء":
"يومًا تغنَّى في منافينا القدر
(لا بدَّ من صنعا وإن طال السفر)
لا بدَّ منها.. حبنا.. أشواقها
تدوي حوالينا: إلى أين المفر؟
إنَّا حملنا حزنها وجراحها
تحت الجفونِ فأورقت وزكى الثمر
وكل مقهى قد شربنا دمعها
الله ما أحلى الدموع وما أمر!!
وعلى "المواويل" الحزينة كم بكت
أعماقنا وتمزّقت فوق الوتر
ولكم رقصنا في ليالي بؤسنا
رقص الطيور تخلّعت عنها الشجر" ص (23-14)
والعنوانُ عتبةٌ مهمّةٌ في تحديد قصدية الشاعر، كما هو معلوم، أي أنَّ العنوان يريد إخبارنا بأنَّه: لا بدَّ من العودة إلى صنعاء بعد تجربة المنفى- القسري أو الاختياري سواء- من أجل تحريرها من القيود التي تكبل انطلاقها، وتقيد المُواطن اليمنيَّ من تحقيق ذاته والتعبير عن نفسه ورأيه ورغبته في حرية دون تأثير قاهرٍ أو إكراهٍ قسريٍّ يسلبه إرادته الحقَّ والخالصة، ولقد تمثّل في وعي المثقف العربي في تلك المرحلة من التاريخ العربي، أنَّ النهضة العربية تبدأ باستكمال عملية الاستقلال العسكري والسياسي باستقلال فكري وثقافي ونفسي، وفي الوعي أيضًا.
لهذا لا يمكن الحديث عن المنفى والاعتقال والحرية دون التسلح بالإرادة الحيّة والشجاعة وبالأمل؛ أمل العودة إلى الوطن وتخليصه من قيوده؛ والمنفى هنا يختلف تمامًا عن "المهجر" وعن التجربة العربية التي ظهرت في فترة التسلّط والحكم العثماني التي طوحت بكثير من الكتّاب والأدباء نحو الأمريكيتين الشمالية والجنوبية، لأنَّها هجرات لم تكن الغاية منها سياسية، أي نشدان العودة لتحرير الفكر والبلاد والعباد من الظلم والاستبداد والجهل والقهر. وهذا الذي تقوله رسالة الشاعر عبد العزيز المقالح إلى "سيف بن ذي يزن"، حيث تتحوّل العبارة "لا بدَّ" دلاليًّا وتداوليًّا إلى إصرار على الأمل، أملِ العودة دون انكسار أو استسلام أو خنوع وخضوع. هكذا يكون اللفظُ الشعريُّ يُخضع المجاز للحقيقة، وتلك واحدة من ملامح القول الشعري في سبعينيات القرن العشرين حيث القول الواضحُ والقريب من المعنى "المتداول"، لأنَّ الخطابَ الشعريَّ يسعى إلى "التأثير" و'الإقناع" و"التوجيه" والاقتراب أو الإيهام بالحقيقة الواقعية، ويعيد الصور إلى واقعيتها، فَليست اللغةُ الشعريّةُ هنا مجازًا وأداة تعبير جميل فحسب، بل هي الكيان والكينونة معًا، إنَّها صوتُ الحقيقة والوجود الذي تنشده ذات الشاعر وعبرها باقي الذوات، الإصرار مقصد وغاية ومطلب يختزل في صوت الأمل، أمل العودة وتحقيق الكرامة والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية من أجل النهوض، نهوض "فينيق"، من تحت رماد التخلّف الذي فرضه الاستعمار وكرسه المستبد، فلا خروج نحو المنفى إلا بأمل الرجوع:
"الفاتحة.
الصمت عار
الخوف عار
من نحن؟
..."
سؤال الكينونة والمصير في آن، سؤالٌ يلتفت نحو الخلف الأقصى فيرى كينونة زاهية تعتدُّ بذاتها، ممتلئة حبورًا، عندما كانت العربية مَهْوَى الأفئدة وخزّان الملاحم الكبرى والحضارة والشعر، ويلتفت أمامًا وفي الحاضر فيجدها تفتتًا وكيانًا مدمّرًا تعوي فيه الريح، ويرتع في ربوعها الجهل والفقر والظلم والقهر والاستبداد.
"...
عشاق النهار
نبكي،
نحب،
نخاصمُ الأشباح، نحيا في انتظار
سنظلُّ نحفر في الجدار
إمَّا فتحنا ثغرة للنور أو متنا على وجه الجدار
..."
يستدعي الشاعرُ هنا كذلك ملمحًا مهمًّا من ملامح الشعر العربيّ في النصف الأول من القرن العشرين حتى حدود السبعينيات، وقد رافق هذا التحوّل بداية الشعر الحر أو شعر التفعيلة، وأقصد توظيف الأسطورة، للتعبير عن مواقف سياسية وتاريخية وحضارية، فقد وظّفت الأسطورة بصيغٍ تعبيريّة ومقاصد متعددة ومختلفة؛ ومن أبرزها كما حددت ذلك "ريتا عوض" وغيرها، الموت والانبعاث، مطلب الحياة الكريمة والحرة والعادلة، التي عبر عنها الشاعر المقالح بلفظة "النهار" الذي يطرد ليل الأشباح المتسلطة على الرقاب المستبدة بخيرات البلاد. والشاعر عبد العزيز المقالح يستدعي في هذه الرسائل شخصية من السيرة الشعبية التي غدت المخيلة العربية بالبطولات والأمجاد والانتصارات، وهي كلها مطلب النفس العربية المنكسرة والتي خسرت أحلامها في مواجهة السلطة المتعنتة والغاشمة، فحضور "سيف بن ذي يزن" جاء على هيأة "المخلِّص". وحضور المخلص في الشعر العربي تم استيراده من الفكر الديني والمعتقدات المتداولة في مختلف الديانات، وتشكّل رغم الاختلافات القصدية بينها، دليلًا على فشل محاولات التحرير والتغلب على دياجير السجون والمنافي، وهو برهان على التمسك بالأمل، أمل الخلاص، فيأتي الأمل ضوء في نهاية الطريق الطويلة والمعتمة والوعرة، لكن الطريق ذاك لا يكل من الحفر ولا ييأس لقوة إيمان الشاعر بتحقيق الأمل، ولو على يد المخلِّص "المحلي" القادم من غابر الأزمان لحلِّ مشاكل الحاضر ونشر الضوء نحو المستقبل. يقول الشاعرُ مستأنفًا قصيدته:
"...
لا يأس تدركه معاولنا
ولا ملل انكسار.
..."
وكأنَّ النصَّ يستضمر في بنيته العميقة قصة "يأجوج ومأجوج"، كما تتداولها الأعراف الشعبية؛ قوم يحفرون جدار السور من أجل نقطة ضوء، وحين يصلون يكون التعب والإعياء قد نال منهم، مع بصيص الأمل والفرح، لكنَّهم في الغد يعاودون الكرة، تمامًا كما يتكرر في عقاب الآلهة للبشر وأنصاف الآلهة-البشر، التكرار هو العقاب الأبدي لكل من يبحث عن نقطة ضوء عن النار وعن النور، وهي كلها رموز للحرية والكرامة والمعرفة الحق، لكن في المقابل، لا ملل ولا يأس مع الحياة، وتلك بنية الإصرار التي شاعت في أنساغ الشعر العربي إبَّان فترة الانعتاق والتحرر من نير المستعمر أولًا والمستبد ثانيًا.
ومع الإصرار تتكشَّف الغيوب وتنقشع الغيوم:
"إن أجذبت سحبُ الخريف،
وفات في الصيف القطار
سحب الربيعُ ربيعنا، حبلى بأمطارٍ كثار
ولنا مع الجدب العقيم محاولات واختبار
وغدًا يكون الانتصار..
وغدًا يكون الانتصار". ص (280)
إنَّ الأملَ من مظاهر القوّة في شعر عبد العزيز المقالح، وفي أغلب الشعر العربي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، قبل أن تشيع السوداوية واليأس وروح الفاجعة بعد ذلك، مع تشديد القيود، واتساع دائرة "الدياسبورا العربية"، سواء بالهجرة الطوعية هربًا من القسوة والتخلف والجوع والجهل في بداية القرن العشرين وفي بداية القرن الواحد والعشرين، أو بالتهجير القسري، السياسي والحزبي والعقدي في فلسطين المحتلة وغيرها من البلاد.
إنَّ المنافي بوابات الشعراء نحو نقطة ضوء الأمل في نهاية الجدار الفولاذي للمستبد، وفي نهاية الطريق الوعرة والملتوية نحو الكرامة والحرية والمساواة. ولقد اعتمد عبد العزيز المقالح كغيره من شعراء جيله على أبطال الأساطير اليونانية والرومانية وأبطال الحكايات والسير الشعبية و"أيام العرب"، وتكفي قراءة رسالة واحدة/الأولى له إلى "سيف بن ذي يزن" ليجد القارئ هذه الشخصيات التاريخية والأسطورية تقوم بوظائف تداولية شتى، وتُعدُّ في الآن ذاته علاماتٍ يمكن الدخول منها إلى دراسة المتخيل الشعري لعبد العزيز المقالح ومن خلاله للمرحلة التاريخية والسياسية المعاصرة لليمن السعيد والفكر المتصارع ذلك الحين، وفي الوقت ذاته التعرف على المتخيل العربي من المحيط إلى الخليج، وكما فرّقت السياسة والحدود الجعرافية البلاد العربية، فقد وحدتها الهموم والمنافي والسجون والإصرار على الأمل والانتصار الذي ينتظر عند مطلع الغد. ومن تلك الشخصيات المؤثثة لفضاء المتخيل الشعري لدى المقالح في الرسالة الأولى، نجد: سيف بن ذي يزن وكِسرى، وقيصر الروم، وأبرهة الأشرم الحبشي، وعوليس بطل الأوديسا، وبينيلوب زوجة عوليس التي رفضت الخُطّاب وبقيت "تفك غزلها بعد حبكه" على أمل عودته حيًّا إليها وإلى ابنه تليماك ومدينته وقصره؛ فيطرد الخطاب المتطفلين والطامعين في الملك والثروة والسلطة. إذن، هناك دائمًا نقطة ضوء في نهاية النفق، هناك دائمًا الأمل رغم قسوة الواقع وتعنّت المستبد وسكوت المكلوم المظلوم على الضيم، وكثير من الأشعار التي تقف عاجزة أمام الواقع الجاهل الظلوم.
يجمع في "الديباجة" عددًا من أولئك الأعلام الرموز والعلامات، كأنَّ الشاعر يسعى إلى إعادة بناء واقع وتاريخ قديم مضى بالكلمات، ليصف حاضرًا ينتظر "المخلِّص" دون بذل، وفي تواكل وانكسار:
"...
وتسفحُ تحت كلِّ سحابة يا سيفنا
من عينيك الأشعار
على أبواب قيصر تذبح الأيام
والأعوام
تسكب ماء وجهك، تلعق الأعتاب والأقدام
وفي ساحات كسرى تلفظ العمرا
وتشبع شعرا
فما نبضت بـقيصر رعشة الإنسان، أو كسرى
ولم تنهض قضيتنا
وما زال الظلام هنا
و"أبرهةُ" يسوق قوافل الأحرار
ويبني من جماجمنا
كنيسة ربّه القهار". [التشديد مني]. ص (283)
إنَّها قصيدة تطفح لغتها بالفاجعة، وتصف الواقع المعتم، فسيف بن ذي يزن البطل الهمام الذي هزم الإنسان والجانَّ، بسيفه البتَّار في ما مضى من الأزمان، يجد نفسه اليوم شاعرًا يسفح الشعر دموعًا، و"يلعق" الأعتاب والأقدام شرقًا وغربًا، ممن تسببوا في هزيمتنا وممن سلبونا هُويتنا ونخوتنا العربية، ولا نتيجة ترجى، فلا خير فيمن لا قلب له، من لا رعشة "إنسانية" تجري في عروقه. إنَّها مرثية الحاضر التي تقلب الموازين، فسيف بن ذي يزن البطل يصبح شاعرًا يبكي عند عتبات الأبواب ويلعق الأقدام وقد فُلَّ سيفه البتار، وأبرهة الحبشي الأشرم، لم تهزمه طير أبابيل شرَّ هزيمة، بل هو الآن يقود قوافل الأحرار نحو المنافي والسجون والمسالخ والمذابح ليبني "القليص" من جماجم الأحرار. وقيصر الروم وكسرى فارس، لم يهزمهما الجيش العربي من الأجداد ويخزهما في عقر ديارهما، بل هما اليوم في جبروت وتعالٍ واستكبار.
عادة ما تكون الأساطير وقصص التاريخ والمرويات الشفهية والمحكيات السردية الشعبية متوازيات مرآويّة عبرها نرى من خلالها صورتنا المنعكسة عليها ومن خلالها، في نوع من التناظر الرياضي (La symétrie) والتماثل الصوري، لكن الشاعر أراد أن يقلب الوعي والصورة في ما يعرف بـ"الباروديا"، أي "المحاكاة الساخرة"، ليعكس أمامنا وعبر مرآة اللغة الشعرية والمحكية السردية والقصصية وضعيتنا الواقعية في الزمن الحاضر، لم يعد لنا تاريخ نستند عليه، ولا هُوية جوهرية حقيقية، بل هناك فقط مرآة مشروخة متشظيّة. إنَّه تحالفٌ محكمٌ ضد هُويتنا ونهوضنا، وتلك قضيتنا التي "لم تنهض"؛ ولأجل ذلك "ما زلنا نقيم في الظلام" أي في الجهل والظلم والقهر والاستبداد.
إنَّ شعر الشاعر عبد العزيز المقالح مليء بالرموز والعلامات التاريخية والثقافية، لكنَّه يوظفها توظيفًا متعددًا ومختلفًا للتعبير عن "قصديته" الشعرية؛ وليُؤثر في وعي وقهم القارئ ويسعى نحو إقناعه بالحقيقة التي يضمنها الشاعر متخيله الشعري، ويؤسس لها عبر التركيب اللغوي والتفعيلة الشعرية والثوابت التاريخية أو "التمثلات الذهنية" التي فقدت قيمتها من كثرة الاستهلاك العادي والاستعمال البسيط الذي يفرغها من قيمتها الدلالية، وبذلك القلب الدلالي، يحدث الصدمة الممكنة لإعادة الوعي بتلك الرموز إلى حقيقتها التاريخية والواقعية، وبدون تلك الصدمات وذلك القلب؛ ما كان للوعي أن يستيقظ ويعود إلى طبيعة عمله ووظيفته في الحياة وفي صناعة الأفكار؛ وبالتالي صناعة الهُوية الجديدة التي تنشد الكرامة والحرية والمساواة وتطرد الجهل والخنوع والاستكانة والتخلف.
لكنَّه يعود مرةً أخرى إلى الخطاب الصريح والمباشر، في تذكيرٍ بموقف وبشعر أبي القاسم الشابي وثورته وغضبته التي أيقظت حماسة الشعب في "أغاني الحياة" التي في اعتقادي "إرادة الحياة"، يعود عبد العزيز بغضب ومعاتبة ولوم وتقريع صريح للشعب الذي لا يرغب في كسر حواجز الخوف وقيود العادة وتأثير "القات"، فالشعب كتلة هائلة مدمرة، لكنَّها في الآن ذاته تحبُّ الاستكانة والاتكال. يعود في قصيدته الغاضبة "مقتطفات من خطاب نوح بعد الطوفان" ص (33)، ليوقظ الهمم:
"...
قلت.. الداء والعلاج
لم تحفلوا..
لم تسمعوا..
كنتم هناك في الغيوم في الأبراج
أرجلكم ممدودة- كانت- إلى السحاب
رؤوسكم مغروزة في الوحل.. في التراب
قربت مشفقًا سفينتي
أنفقت عمري أجمع الأعواد والأخشاب
قطعت وجه الليل والنهار
...
لكن صوتي ضاع في الرياح
سفينتي تاهت بها الأمواج
فأبحرتْ خالية إلا من الأحزان والملاح
..." ص (33-34)
الأهم عندي الآن أنَّ هذه القصيدة تنبه إلى مسألة مهمة جدًّا، تقلب الفهم السابق، بل توجّه النظر نحو الجانب المهمل من "الطوفان"، فالطوفان ليس فقط عقابًا إلهيًّا للأشرار الظالمين الجاحدين، بل الطوفان يحمل رسالةً كبيرةً تتمثّل في "السفينة"، سفينة الشاعر "المخلِّص" سفينة النجاة والسلام، لكن هيهات هيهات:
"...
أقعى الضمير في دياركم ومات
فكان هذا الهول والأحزان
كانت الهزات
لا سفن البحر ولا الفضاء
تنقذكم من قبضة القضاء
فقد طغى الطوفان
وكان يا ما كان." [التشديد والتنبيه مني] ص (37)
# المصدر: ديوان عبد العزيز المقالح، منشورات دار العودة- بيروت، ط؛ 1986م