أنس بو سلام
كاتب وباحث مغربي
مقدمة
يثير موضوعُ قراءةِ إنتاج ابن خلدون وفكره في سياق الكتابة التاريخية الإسلامية نقاشًا حادًّا، خاصّةً عندما تُطرح أسئلةٌ مثل:
- إلى أيّ حدٍّ مثّل ابن خلدون استثناءً في الكتابة التاريخية الإسلامية؟
- هل مثّل إسهام ابن خلدون النظري والعلمي فلتةً أو عبقريةً مفاجئة، أم أنَّه جاء في سياق تطوّرٍ طويلٍ وتراكمٍ مهمٍّ في التأريخ الإسلامي؟
أولًا- تعريف ابن خلدون للتاريخ
يُعرِّف ابن خلدون (1332 - 1406م) التاريخ في مقدمة مقدمته تعريفًا يُعدُّ من أدق ما صيغ عند المسلمين، إذ يقول: "أمَّا بعد، فإنَّ فنَّ التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال وتُشدُّ إليه الركائب والرحال، وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال، ويتساوى في فهمه العلماء والجهال، إذ هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتُضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية، إذ غصها الاحتفال، وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحـوال، واتسع فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحال لهم الزوال، وفي باطنه نظرٌ وتحقيقٌ وتعليلٌ للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لهذا أصيلٌ في الحكمة عريق، وجدير بأن يُعدَّ في علومها وخليق"( )، وهو تعريف أثار إعجاب عدد من كبار المؤرخين في الغرب أمثال "كولنجوود" Robin G. Collingwood و"أرنولد توينبي" Arnold Toynbee( )، ويفسّر هذا بتوسيع ابن خلدون لمفهوم التاريخ، ليشمل مستويات فكرية أعلى كالنظر والنقد والتحقيق والبحث عن القوانين، أو "النواميس" المفسرة لحركة التاريخ.
ثانيًا- نظرية ابن خلدون في العصبيّة
العصبيّة التي يقصدها ابن خلدون لا تعني مطلق الجماعة، وإنَّما الأفراد الذين تجمع بينهم رابطة الدم أو رابطة الحلف أو الولاء، بالإضافة إلى شرط الملازمة بينهم من أجل أن يتم التفاعل الاجتماعي، وتبقى مستمرة ومتفرعة بوجود هؤلاء الأفراد واستمرار تناسلهم، فينشأ بين أفرادها شعورٌ يؤدي إلى المحاماة والمدافعة، وهم يتعصبون لبعضهم، حينما يكون هناك داع للتعصب، فيشعر الفرد بأنَّه جزءٌ لا يتجزأ من أهل عصبته، وفي هذه الحالة يفقد شخصيته الفردية، بحيث تذوب في شخصية الجماعة، وهو شعور جماعي مشترك لدى أفراد هذا التكتل، وذو صبغة جمعية أساسية بين الفرد والمجموعة، وليس بين فرد وآخر فقط، وفي حال تعرض هذا التجمع إلى عدوان، يظهر في هذه الحالة "الوعي" بالعصبيّة، وهذا "الوعي العصبي"، هو الذي يشدُّ أفراده إلى بعضهم، وهو ما يسميه ابن خلدون "بالعصبيّة"، وقد خصّص ابن خلدون عدة فصولٍ لهذا المفهوم المركزي في نظريته، من بينها "فصل في أنَّ العصبيّة إنَّما تكون من الالتحام بالنسب أو في ما معناه"( )، وقد ربط ابن خلدون ربطًا منهجيًّا وتاريخيًّا بين العصبية ومفاهيم أُخر مثل الدولة والملك والتغلب وغيرها.
ثالثًا- الدراسة الشاملة والتفاعليّة وفق علم العمران البشري.
إنَّ أهمية ما صاغه وقدمه ابن خلدون، ليس راجعًا، إلى إبرازه هذا العامل أو ذاك، بل يكمن في معالجته لأثر هذه العوامل كلها، في تفاعلها وديناميتها. وهكذا زاوج ومزج بين العصبية والدين، ونظر إلى فاعليتهما من خلال تأثيرهما المتبادل. كما زاوج بين العامل الاقتصاديّ، (شؤون المعاش)، والعامل الطبيعيّ (تأثير المُناخ الخصب والجدب)، ونظر إلى تأثيرهما ككل. ثم ربط بين ذلك كله، بين تأثير العصبية والدين، والطبيعة والاقتصاد في أنظومة واحدة، متداخلة العناصر، متشابكة الأطراف، وسماها "طبائع العمران". وهكذا، فابن خلدون لم يَقُل بحتمية جغرافية منفصلة، ولا بجبرية دينية قاهرة، ولا بحتمية اجتماعية أو اقتصادية معينة، بل مزج بين هذه الحتميات كلها في حتمية واحدة هي "الحتمية العمرانية"؛ إن صحَّ القول( ).
رابعًا- ابن خلدون والمنهج
يمكن أن نوجز أهم عناصر المنهج والقوانين التي نظّر لها ابن خلدون كما يلي:
- التحلّل من السند: انتقد ابن خلدون أسلافه ممن اعتمدوا منهج المحدّثين القائم على الجرح والتعديل بغية ضبط صحة السند والمتن، وبالمقابل، انشغل بالنظر للخبر والنفاذ إليه مباشرة لتمحيصه ونقده وتصحيحه، ورغم ذلك، فقد كان ابن خلدون يذكر المؤرخين أو الرواة أو المصادر التي يأخذ عنهم من حين لآخر، لكن باختصارٍ شديدٍ.
- النظر والنقد العقليّ للخبر وتصحيحه: غاب عن المرحلة السابقة لابن خلدون -تقريبًا- مظاهر تحقيق الخبر من زاوية النقد العقليّ، اللهم بعض المحاولات والإشارات، والتي سنعرض لها لاحقًا، والتي كان لها تأثيرٌ خاصٌ في فكر ابن خلدون، وبذلك فطن هذا المؤرخ إلى ضرورة النقد والاحتراس في تقبّل الأخبار فطنة بالغة، إذ يقول: "فهو محتاجٌ (أي التاريخ) إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبت يفضيان بصاحبهما إلى الحق، وينكبان به عن المزلّات والمغالط"( ).
- التعليل والتفسير: ونعني بالتعليل بيان الأسباب القريبة التي تقوم عليها الملاحظات أو الظواهر البسيطة، فتكون لكل ظاهرة أسبابها الخاصة، أمَّا التفسير، فهو محاولة فهم وتوضيح الأسباب القريبة والبعيدة التي أثرت في قيام الظاهر المعقدة، وهي غالبًا، تستند إلى مفهوم واحد نحاول أن نفهم من خلاله كثيرًا من الظواهر.
- التركيز على الأحداث الكليّة والإعراض عن الأخبار الجزئيّة: دعا ابن خلدون من الناحية النظرية إلى التركيز على الأحوال الكبرى والأخبار العظمى في حياة الدول والملوك والمجتمعات، دون الاكتراث بتسجيل الأخبار الجزئية.
- قانون معرفة أسباب نشوء الدول وأحوالها ومظاهرها: من خلال معرفة قواعد السياسة وطبائع الموجودات وقواعد الجغرافيا والاجتماع، فالتاريخ عند ابن خلدون خبرٌ عن أحوال العمران والتمدن والاجتماع، وهو دراسة للأسباب والقوانين (قانون السببية).
- قانون التطور والتبدل: التقى ابن خلدون مع "هيرودوت" في دورة الحياة والموت بالنسبة للدول والأمم وأحوال العالم التي لا تدوم على وتيرة واحدة، إنَّما هناك تبدلٌ مستمر في الأشخاص والدول والأمصار.
- قانونا التشابه والتباين: ففي الأول، نتعرف على الحوادث المتماثلة والمتشابهة، وفي الثاني، نعرف أنَّهما رغم تشابههما إلا أنَّهما حوادث متباينة متعددة( ).
- التأريخ للعصر أو الجيل: تحدث ابن خلدون عن هذا النوع من التأريخ، غير أنَّ ما يُلاحظ، هو عدم تحديده معنى العصر أو الجيل الذي يقصده.
خامسًا- علاقة مقدمة ابن خلدون بكتاب العبر
إنَّنا في الحقيقة نميل إلى رأي يعتبر أنَّ ابن خلدون حاول في المقدمة بناء نظرية مستنبطة من تاريخ العالم على اختلاف شعوبه وقبائله وأجناسه وعناصره ودوله، منذ بدء الخليقة إلى عصره، وندلل على ذلك بالأمثلة التاريخية العالمية التي ساقها ابن خلدون في مقدمته للاستدلال والحجاج على القواعد المستخلصة من التاريخ العام؛ مثل تاريخ العرب القديم واليهود، وتاريخ العجم القديم كالفرس، وكذا البربر، ونماذج من تاريخ العالم على عهده؛ كتاريخ الأندلس وتاريخ الترك بالمشرق، كما أنَّ البداوة -مثلًا- قد شكّلت مرحلةً طبيعيّةً لا بدَّ لكل أمم العالم وشعوبه أن تمر بها، وأنَّ كلام ابن خلدون في المسائل النظرية، كان دائمًا معممًا، فلو كان يقصد أمة دون أخرى لنبه على ذلك، ولما جاوز الخصوص إلى العموم.
أمَّا عن القضية المرتبطة بعلاقة المقدمة بكتاب "العبر"، فتتمثل في مناقشة مدى تطابق أسس المنهجية التاريخية التي قدمها ابن خلدون في مقدمته مع ما عرضه في كتاب "العبر" من أخبار، ويكاد الدارسون لفكر هذا العلامة يجمعون على عدم التزامه بالمنهجية التاريخية التي آمن بها، وإنَّما وقع في سقطاتٍ أساءت إلى منهجه، يقول الدكتور محمد الطالبي: "إنَّ ابن خلدون مهما كانت المنهجية التي اهتدى إليها سليمة في المستوى النظري، فهو لم يستطع في المستوى التطبيقي أن يتخلّص من العوائق التي تحول عادة دون الموضوعية المطلقة، وذلك إمَّا بصفة غير شعورية لميوله والتزاماته العقائدية، وإمَّا بصفة شعورية ومقصورة لالتزاماته السياسية ومنافعه المادية"( )، كما نجد ابن خلدون ينظم مؤلفه "العبر" وفق تصوّرٍ وتسلسلٍ إخباريٍّ حدثي، كأن يقول: "الخبر عن قريش... فتح مكة... خبر السقيفة... فتح دمشق..."( )، ومن المعلوم أنَّه في "المقدمة" انتقد هذا الأسلوب الذي سار عليه أسلافه من المؤرخين.
سادسًا- إلى أي حدٍّ مثّل ابن خلدون استثناءً؟
لم يكن لمؤرخي الفترة الممتدة ما بين صدر الإسلام وأوائل القرن 4هـ نظرٌ أو نقدٌ تاريخي حقيقي، غير أنَّ هذا النظر والنقد بدأت أماراته تطلُّ في الأفق مع المسعودي (المتوفى سنة 346ه)، والذي رغم إعجابه بسلفه الطبري، فهو يختلف عنه نظرًا فلسفيًّا ومنهجًا، وهذا ما يؤكّده قوله: "وما ذكرنا فغير ممتنع كونه، ولا واجب، وهو داخل في حيز الممكن والجائز؛ لأنَّ طريقه في النقل طريق الأفراد والآحاد، ولم يرد مجيء التواتر من المخبرين والاستفاضة من الأخبار... فإن قارنتها دلائل توجب صحتها وجب التسليم لها... وإنَّما ذكرنا هذا ليعلم من قرأ هذا الكتاب، أنا قد اجتهدنا فيما أوردنا في هذا الكتاب وغيره من كتبنا، ولم يغرب عنا فهم ما قاله الناس في سائر ما ذكرنا"( ).
والدلائل هذه عند "المسعودي" تأتي عن طريق البحث والنظر والفحص ومعرفة العادات والسنن الطبيعية، فالمؤرخ عليه أن يبحث لا في إسناد خبره فحسب، بل وفي متنه كذلك، وأن يستخدم في هذا البحث علوم عصره وجيله.
ويمثل "مسكويـه" (320-421هـ) خطوةً متقدمةً في الكتابة التاريخية الموضـوعية، نظرًا لتمكّنه من الفكر الفلسفي والإفادة منه في الكتابة التاريخية( )، حيث أشار في مقدمة كتابه "تجارب الأمم" أنَّ للتاريخ سنن ونواميس، قد تجعل من التاريخ يقوم بوظيفة نظرية تنبئية انطلاقًا من قانون التشابه، وبذلك، كان للرجل السبق على ابن خلدون -ولو على استحياء وبعض الضبابية- في الإشارة للوظيفة والقانون المذكورين.
كما أنَّ ابن خلدون لم يكن أوّلَ من أسقط السند، حيث سبقه العديد من المؤرخين لهذا التجديد، ومن بينهم "المسعودي"، والذي استبدل السند بجمع أسماء الكتب المعتمدة ووضعها في مقدمة الكتاب، كما فعل في مؤلفه "مروج الذهب ومعادن الجوهر"( )، كما كان المسعودي السباق -قبل ابن خلدون- للاهتمام بأثر المُناخ والبيئة الجغرافية فيما يناقش من قضايا التاريخ، وقد جمع من الحقائق التاريخية والجغرافية ما لم يسبقه إليه أحد( ).
استوعب ابن خلدون، في الحقيقة، الإرهاصات السابقة في الفكر السياسي لدى الفارابي والماوردي والغزالي وإخوان الصفا والطرطوشي ومسكويه وسواهم، وصاغ من كلِّ ذلك نظريته الناضجة في الفكر السياسي وفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع، ويتضح من قراءة مقدمة ابن خلدون فهمه لفلسفة التاريخ من خلال ثلاث نقاط أساسية: أولاها أنَّ التاريخَ علمٌ، وليس مجرد سرد أخبار بلا تدقيق أو تمحيص، وثانيها أنَّ هذا العلم ليس منفصلاً عن العلوم الأخرى كالسياسة والاقتصاد والعمران وعلوم الدين والأدب، وثالثها أنَّ هذا العلم يخضع لقوانين تنتظم بموجبها أحوال الدول من قوة وضعف ورفعة وانحلال.
ويتّضح أنَّ العرب عرفوا التاريخين السياسي والديني، وأنَّهم اهتمّوا اهتمامًا خاصًا وملفتًا بالتاريخ الحضاري أو العالمي، وأنَّ البعض منهم كانوا منفتحين على العلوم العقلية، من فلسفة وطبيعية، فأغنوا بذلك ملاحظاتهم النظرية حول التاريخ البشريّ والأسباب الطبيعية التي تتحكم بمسيرة الأحداث. هؤلاء المؤرخون من ذوي النزعة الفلسفية هم بالفعل أسلاف ابن خلدون، هم الذين شقوا الطريق أمامه، فكان الأخير أوضحهم وأدقهم منهجًا ونظرًا فلسفيًّا. وبالتالي فإنَّ ما توصّل إليه ابن خلدون لم يكـن -في الحقيقـة- فلتةً أو عبقريةً مفاجئة، بـل كـان نتيجة تطوّر وتراكم في الفكر التاريخي والفلسفي وطرق الكتابة والتعامل مع الخبر وتناول تواريخ الأمم والدول، وغيرها.
خاتمة
مثّلت حالةُ ابن خلدون ذروةَ ما وصلت إليه الكتابةُ التاريخيّةُ لدى المسلمين منهجًا وموضوعًا -على الأقل خلال العصر الوسيط- ولن نبالغ إن قلنا إنَّ الرجلَ أحدُ أعظم المؤرخين المسلمين على مرِّ العصور، والأكيد أنَّه مثّل البدايات الجنينية لعلم التاريخ وعلم الاجتماع بمواصفاتهما المعاصرة، وللأسف، فإنَّ ما تركه هذا العلامة لم يتم البناء عليه وتطويره، بدليل أنَّ المقريزي (1364 – 1442م)، الذي أخذ عن ابن خلدون نفسه لم يستطع بلوغ شأو هذا الأخير وتطوير فكره، رغم مساهمات المقريزي القيِّمة في مجال التاريخ الاقتصاديّ، وهو مجال غير مألوف في الكتابة التاريخية الإسلامية خلال الفترة الوسيطة.
وتجدر الإشارة إلى أنَّ من صعوبات قراءة فكر ابن خلدون وإنتاجاته، لغته، والتي ليست دائمًا واضحةً دقيقة، وهذا أمرٌ غير مستبعد عند كاتبٍ ابتكر علمًا جديدًا يحتاج إلى كثير من المصطلحات الخاصة به؛ ولا يعود الخطأ إليه بقدر ما يعود إلى قرائه المغرضين.