د. جمال الشلبي
أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الهاشمية، وموجّه في كلية الدفاع الوطني الملكية الأردنية
بعد عودتي من فرنسا عام 1995 عملتُ في "معهد بيت الحكمة للعلوم السياسية" في جامعة آل البيت، وبعد ثلاث سنوات وجدت نفسي مضطرًا للاستقالة من هذه الجامعة التي كانت - وما زالت - تمثل بالنسبة لي "البيت الأول" في حياتي الإنسانية، والاجتماعية، والعملية.
وقد أتاحت الظروف أن أتعرف في تلك المرحلة الممتدة بين عامي 1998 و2000 على رئيس مجلس الإدارة في المؤسسة الصحفية الأردنية (الرأي) د. خالد الكركي، المثقف والسياسي المعروف، الذي كان يستعدُّ لإعادة وهج الحياة لصحيفة "الرأي" بصفتها الناطق "شبه الرسمي" للدولة الأردنية، عبر ضخّ مزيد من الأفكار، والطروحات، والمبادرات.
وخلال تأسيس مركز "الرأي" للدراسات والمعلومات الذي اختُرت لأكون أحد أعضائه المؤسسين، تعرفت على إبراهيم العجلوني من خلال د. خالد الكركي الذي كان يكنُّ له الودَّ والاحترام والتقدير.
وهكذا، بدأت علاقاتي مع العجلوني الذي يُطلَق عليه أحياناً لقب "عقّاد الأردن" كدليلٍ على أهمية حضوره الفكريّ والثقافيّ في المشهد الأردني على منوال الكاتب الكبير عباس العقاد في مصر الشقيقة.
وقد أكرمني الصديق الجديد (العجلوني) بأن أفرد لي مقالاً خاصًا في زوايته اليوميّة "أُفق" في "الرأي" بعنوان "الشلبي وجيله الذي ننتظر منه الكثير" (14 تشرين/ نوفمبر 1999)، مثنيًا فيه على منهجيتي العلمية ورؤيتي الفكرية، بعدما اطّلع على كتابي "محمد حسنين هيكل: استمرارية أم تحوّل؟" الذي ترجمته حياة الحويك عطية، وكتاب "العرب وأوروبا: رؤية عربية معاصرة" الذي كان يُنشر آنذاك على حلقات في "الرأي".
وعلى الرغم من أن فارق العمر بيني وبين العجلوني لا يزيد عن 17 عامًا (وُلد عام 1948، في حين وُلدت عام 1965)، إلا أنَّه كان حريصًا بطبعه وشخصيته وثقافته الإنسانية أن لا يبدو هذا الفارق واضحًا في مناقشتنا حول "القضايا الجدلية" التي كانت محلّ حوارنا الدائم.
هذه السمة تكشف عن شخصية العجلوني الذي كان يملك الكثيرَ من "الأوراق الإنسانيّة" بين يديه وهو يصوغ أفكاره ورؤاه بمقالاتٍ وكتبٍ وطروحاتٍ متنوعة طيلة نصف قرن؛ فهو شخصٌ متواضعٌ، ودودٌ، قريبٌ من الآخرين، يستمع أكثر مما يتحدث، ولكنَّه في الوقت نفسه، يرى أبعد من الكثيرين ذوي الرؤى المحدودة، والأفكار المسلوقة، والقيم الظرفية.
وعندما رحل المفكّرُ والمثقفُ "النقيّ" إبراهيم العجلوني إلى السماء في 4 كانون الأول/ ديسمبر 2022 لم يدر في ذهني أو خاطري أن يحظى "أبو سلطان" بكلِّ هذا الاهتمام والمتابعة من جانب الإعلام والمؤسسات الفكرية والثقافية الأردنية بالخصوص، والعربية بالعموم.
فبعد وفاة العجلوني أصبح هناك شعورٌ عام بأنَّ شعب الأردن يعرفه أو -على الأقل- يريد أن يعرفه بعمق وبكل تفاصيله الفكرية والإنسانية بفضل وسائل الإعلام، والمقالات الصحفية والإعلامية والأكاديمية التي كُرّست لرحيله المفاجئ "نسبيًّا"، لا سيّما أنَّ عناوين المواد الإعلامية التي تناولت هذا الرحيل صاحبَها جوٌّ من الحزن الشديد، وكلمات معبّرة من الجميع مثل:
"من هو إبراهيم العجلوني الذي هزّت وفاته الأوساط الأردنية".
"معلّمنا إبراهيم العجلوني".
"إبراهيم العجلوني أديبٌ ومفكّرٌ أردنيٌّ سخّر قلمه لقضايا الأمة".
"الموت يغيّب إبراهيم العجلوني (عقّاد الأردن)".
وهنا، أحسستُ بالتناقض الواضح بين الواقع والمعلَن في وسائل الإعلام تجاه "المثقف العربي" الذي يعيش ظروفًا صعبة حالكة في حياته لعدم الاعتراف بنشاطه وجهوده وإنتاجه الذهني من ناحية، ليجد نفسه مضطرًا للتفكير بصيغة "المثقف الميت" الذي تنتهي قصته الذاتية على الأرض ليصبح مباشرةً "نجمًا" و"علمًا" (وربما بطلاً") ومثار اهتمام وتقدير ومدح وتكريم الجميع من ناحية أخرى. فهل يجب أن يُعلن الكاتب والباحث والمفكر العربي موته لكي يتم الالتفات له ولإنتاجه المعرفي والأدبي والفكري والاحتفاء به؟!
أقول ذلك وأنا أرى أنَّ الراحل الكبير إبراهيم العجلوني -على سبيل المثال- الذي يُعدُّ أحدَ أعمدة الثقافة والفكر في الأردن لم يحظَ بأيّ اهتمامٍ أو دعمٍ أو إشادة مادية أو معنوية حقيقية، لا من جانب المؤسسات والجامعات والوزارات ودُور الصحافة التي عمل فيها، ولا حتى من زملائه وأصدقائه الذين عمل معهم أكثر من نصف قرن تقريبًا.
وتدفعنا السيرة الذاتية للعجلوني للقول إنَّه يستحقُّ التكريم والتقدير من الجميع، حيث شكّل العجلوني المولود عام 1948 في بلدة الصّريح شمال الأردن حالةً ثقافية وفكرية جديرة بالدراسة والتحليل والإشادة في حياته وليس بعد وفاته، ليس لكونه يعمل في الصحافة منذ حصوله على درجة البكالورويس في اللغة العربية وآدابها من جامعة بيروت العربية عام 1976، بل لأنَّه صاحبُ خطٍ سياسيٍّ ومنهجٍ فكري محدد، متكئ على لغة جاذبة بذكاء. فقد مارس العجلوني أغلب صنوف الفن الفكري والأدبي والصحفي؛ فمن الشعر الذي مثّل انطلاقته في عالم الكتابة عبر ديوان "تقاسيم على الجراح" عام 1972 إلى القصة والمسرح (له مثلاً كتاب بعنوان "من مفكرة رجل يحتضر" صدر عام 2000 ويتضمن نصًّا مسرحيًّا وقصصًا)، إلى الكتابة في الفكر والفلسفة مثل: "في الفلسفة والخطاب القرآني" عام 1984، و"الوعي المتمرد" عام 1994، و"العقل والدولة" عام 2004، و"شيء من الفلسفة" عام 2019، فضلاً عن كتب جمع فيها مقالاته الصحفية، ومنها كتاب بعنوان "وحي الآفاق" بأجزائه الثلاثة (صدر عام 2015)؛ وكلُّ هذا الإنتاج بأشكاله المختلفة يحلّل الواقع الوطنيّ والعربيّ وحتى الإنساني العالمي، للوصول إلى "المشترك" الذي يربط الإنسانية بذاتها عبر أجزائها المتناثرة هنا وهناك.
بالتأكيد، إنَّ "خريطة الإنتاج" السابقة، تمدنا بتصور حقيقي إلى حدٍّ كبير عن الإنتاج المعرفي الهائل والمهم الذي أفرزه عقل العجلوني لشعبه وأمته. بالمقابل، يمكن اعتبار تجربة العجلوني "أنموذجاً" لـ"المثقف المستبعَد" كحال أكثرية "المثقفين العضويين" في العالم العربي الذين يعيشون الواقع كما هو دون تزييف أو تعديل أو إضافة، ما يجعلهم -ومنهم العجلوني- يُستثنون من "عمليات التكريم" الضروية التي يحتاجها المثقف والمفكر من وقت لآخر لتمدّه بالطاقة المعنوية والمادية لمتابعة المسير، والبقاء في حالة تيقُّظ وسهر تجاه قيمه الإنسانية، ومواقفه الصادقة تجاه الدولة، والشعب، والأمة.
لقد لمستُ آثار استبعاد العجلوني -المقصود وغير المقصود- من التكريم لكوني كنت قريبًا جدًّا من "الواقع الحياتي" الذي كان يكابده دون أن يجد أي يد أو دعوة أو رسالة صغيرة، أو حتى مكالمة تدعوه للمشاركة في رسم صورة حقيقية للواقع الذي يعرفه، أو بناء وعي لمجتمع يعيش حالة من الارتهان لحالة التفاهة الفكرية والثقافية والسياسية التي يروّج لها إعلام العولمة، الأمر الذي قد يسهم في تقوية "جبهة الإرادة" لدى مثقفنا العضوي المتسامي (العجلوني) لمواجهة تحديات الحياة المادية والمعنوية بعنفوان المثقف المتسلح بعقله، وقلمه، ورؤيته؛ بيد أنَّ هذه التوقعات لم تحدث للأسف الشديد في الواقع!
ربما حدث ذلك لأنَّ القيادات والزعامات التي استحوذت على المشهد الفكري والثقافي والإعلامي في الأردن منذ مطلع الألفية الثالثة ليس لديها إدراكٌ بما يمتلكه هذا المفكّر الكبير من ناحية، فلم يفكّر أحد بمنح العجلوني جائزة أو على الأقل منحه "جائزة خاصة" من الوطن ككل وليس بالضرورة من وزارة واحدة فقط، عن مجمل أعماله التي زخرت بالأفكار والطروحات والآراء التي تحتاج، بالتأكيد، لوقت طويل من التأمل والتفكيك والتركيب للوصول إلى عمق "المشروع النهضوي" الكبير ومنطقه الذي كان يسعى إليه الراحل.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: هل يُعقل أن يحصل إبراهيم العجلوني على جائزة الدولة التشجيعية لعام 1989؛ رغم أنَّه كان في "البدايات" ويعيش في مرحلة الأحكام العرفية وغياب الديمقراطية، ثم لا يحصل عليها في "النهايات" في ظلِّ الانفتاح والديمقراطية والعدالة الفكرية والاجتماعية التي نعتقد بوجودها في ثنايا حياتنا؟!
من هذا المنطلق، لا بدَّ من إطلاق دعوة صادقة وجادة للمؤسسات الثقافية والفكرية للاحتفاء بتجربة العجلوني من جديد؛ وذلك بتكريمه- رحمه الله- بمنحه "جائزة الدولة التقديرية"، أو أي جائزة أخرى عن مجمل أعماله الشعرية والنقدية والفكرية والثقافية والسياسية المعبَّر عنها عبر حوالي أربعين كتابًا.
باختصار، سنجد في إنتاج العجلوني "كنزًا معرفيًّا" يعبّر عن روح الأردن وكلمته، وصورة الشعب وألوان مجتمعه الزاهية، وقداسة الجغرافيا العتيقة، وحكمة القيادة الذكية، وغيرها. وهكذا تبدو صورة إبراهيم العجلوني وتتجلى كـ"مفكّر نوعيّ" يمثلنا جميعًا بكل فخر واعتزاز.