جينا سلطان
كاتبة وناقدة سورية
"Jina Sultan" <jina.sultan@hotmail.com>
في رواية العطر لـ"باتريك زوسكيند" يولد "غرونوي" مجرداً من الاحتفاء الإنساني، فيعيش ككائن طفيلي، يقارب العلقة، ليكتشف في مراهقته أهمية الرائحة في تمتين العلاقات الاجتماعية، وبالتالي تكريس مكانة الفرد ضمن الخارطة العاطفية الجمعية. وباعتباره ينتمي إلى النمط المجرد من خاصية الجذب والاستقطاب، يتكئ على حاسة الشم القوية لاصطياد العذراوات اللواتي يقعن في مصاف الأضحية النقية الصرفة المعروفة فلسفيًّا باسم "الموناد"، والخالية من شوائب التملك، سواء ارتبط بالتسليع الجسدي كملكية للرجل، أو تلوث بالدنس عبر العلاقة الجنسية.
وعندما ينجح في استخلاص عبق الحب منهن، ويصنع عطر الأنوثة الخالد، ويسكبه على نفسه، يتأله. وبعد أن يعجز عن شم رائحته يعرض جسده أمام الحشود التي لفظته طفلاً ورجلاً، فتلتهمه. ويصبح فعل القتل بشقيه العذري المعادل لانتزاع ألق الروح، والجسدي المقدم كأضحية في حفلة مجون باخوسية، مساوياً لقربان النفس المقدم على مذبح الانعتاق من قيود المادة. وهذا التغييب الصريح لثنائية الجريمة والعقاب يضع "غرنوي"، ومن خلفه "زوسكيند"، على طريق صيرورة البقاء في الفناء، وإن اتّخذ مسلكاً معادياً للأعراف، وناقض صراحة الوصية التي تجرّم القتل وتدينه.
بالمقابل، تستعيد "آن ـ لور بوندو" الترنيمة الحزينة ذاتها حين تقترن بميلاد طفل منذور للتهميش، وتختزل حضور الصغير باولو في رواية "دموع القاتل" بغمغمة إنسانية، وبذرة زُرعت على صخرة وقُدّر لها ألا تزهر أبداً. وفي الوقت نفسه، تؤطر حادثة انتحار الأب في طفولة القاتل "أنخل"، عقب بضعة أيام من تلقيه "علقة" ساخنة جواباً عن سؤال الموت، فتفقد الحياة قيمتها الأخلاقية والإنسانية ويعيش متّبعاً قانون الشوارع والأرصفة. ولأنَّ الجريمة حيث ترعرع في إحدى مدن التشيلي المنسية من القانون، تجسّدت حلاً نهائياً للديون ومعارك السكارى، وخيانات النساء ومكر الجيران أو حتى لرتابة يوم دون تسلية، يقتل والدي باولو ليضع خاتمة لأسبوعين من التطواف، والنوم في العراء. فقد سمع أنَّ هذا المنزل يقدم الملجأ لعابري السبيل قبل ملاقاة الفلاة والبحر، ويشكل بالتالي المكان الأمثل لرجل مطارد من ثلاث مدن.
ومع أنَّها لم تكن جريمة" أنخل" الأولى لكنّه لم يقدم قط على قتل طفل، فيصبح بمحض صُدف جرائمه أباً لباولو، وبالتالي يهبه الحياة. وبينما دأبت ذاكرته على إسقاط وجوه ضحاياه، فيما لم تسنح له الفرصة للنظر إلى وجهه في المرآة، يحتل الصغير قلبه بأسره. وتنسج علاقة حذرة أواصرها بينهما، قوامها تشارك العمل في المزرعة المنعزلة طوال عام كامل، دون أن يعكر صفوها دخيل أو متطفل. ويرتسم تهديد العالم الخارجي في صورة المدينة ـ الجحيم، حيث يعيش الناس مكدسين فوق بعضهم، ما يجعلهم سريعي الغضب.
ينذر وصول اللاجئ" لويس" بعودة دورة القتل الجهنمية، فتتصاعد عدائية "أنخل"، بسبب تهديد الغيرة المتأتي عن وجود الدخيل. وحين يهم بقتله توقفه صيحة باولو: "يا والدي"، فيدخل سفاح البشر عهد الأنسنة، ابتداء بإنقاذ عنزة هرمة، ثم إخراج هجرس صغير من مصيدة الأرانب وإحضاره للطفل كي يتقرب منه، فلا ترجح كفة الرجل المتمدن. وأخيراً يحضنه بمشاعر الأب الخائف من فقدان ابنه، عندما يهرب باولو من البيت خشية تصادم الرجلين، فيعادل فرح عثور" أنخل " عليه اتقاد جذوة الحياة في الحيوات الجافة.
يعكس انبهار "أنخل" بكلمات شاعر يتلوها لويس من كتابه، نقطة تحول جذرية في مشروع الأنسنة، تتمثل في دموع القاتل المنسابة على وجهه، وتبلغ رمزيتها حدَّها الأكبر حين يحني طوفان المعرفة ظهره فيقف تحت المطر ليتغمد بإنسانيته. بالمقابل، يدرك باولو أنَّ لكل شيء ثمناً، فقد خسر والديه لكنَّه ربح صداقة أنخل وحمايته بعد أن ظلَّ متروكاً للإهمال والوحدة منذ ولادته.
يحقّق باولو بنوته لأنخل حين يخلصه من هجوم الهجرس عليه، فيفارق بقتله طفولته ويدركه الضياع أسوة بالرجلين اللذين يشاركانه المنزل. ولاحقاً في كوخ الحطاب العجوز يقرن ارتباط الحياة بامتلاك عدد كبير من الكتب، ويفسر موت والديه المفاجئ بعدم حيازتهما لأيّ كتاب. وبفضل الحطاب وأنخل يتجاوز خوفه من الغابة، وتتاح أمامه إمكانية النمو عبر مراكمة الانتصارات الصغيرة، بعد أن تعلم قبول حصص السعادة بصمت، حتى غير المعقول منها.
تحويل أشجار الغابة العتيقة إلى خزان للأوكسجين ممثلاً في الكتب، لم يمنع رئيس البلدية من صنع مقصلة الخشب، كي ترمز إلى إصرار أهل المدينة على المزيد من العدالة ورجال الأمن، الذين يقبضون على أنخل بفعل وشاية أهل المدينة، فينتهي في السجن، ويُحكم عليه بالإعدام. لكن البذرة تتحول إلى زهرة تنبت في الصخرة على غرار شخصية "مولان" في فيلم الأنمي الشهير، فيلتقي باولو أباه لمرة أخيرة ويتذكرا أنَّهما ولدا معاً يوم تلاقيا. لذلك يكرمه كما يليق بالابن البار، فيسمي ابنته الأولى باسم أنجلينا، تيمناً بمن تشارك معه معاينة الهبة الإنسانية داخل الهيكل المحاصر بدماء القرابين البشرية. فليست القداسة في أن تكون نوراً وأنت نور، كما ذهب "العقاد" في كتابه "عصفور من الشرق"، بل أن تترنح تحت وطأة الخطيئة ثم تجترح معجزة الأنسنة من قعر الطين.