د. زياد الزعبي
أكاديمي وناقد أردني
بدأ تاريخُ البشر بخطيئة آدم التي أخرجته من الجنة، فقد أكل من تلك الشجرة التي نُهي عنها، ثم تعمدت الأرض بأوّل جريمة قتل، قتل فيها الأخ أخاه، ومنذ ذلك الوقت غير المدرك والأرض مثقلةٌ بالقتل الذي لم يتوقف حتى غدا هذا الفعل جزءًا من الطبيعة البشرية التي لا تتوقف عن ممارسة هذا الفعل، بسبب أو دون سبب. كما يمعن العقلُ البشريُّ في البحث عن الوسائل التي تمكنه من ممارسة القتل، تلك الوسائل التي ابتدأت ربما بحجر ووصلت الآن إلى أسلحة نووية وغيرها لا يعرف البشر المؤهلون للقتل شيئًا عنها. والغريب أنَّ البشر كلما ازدادوا علمًا ومعرفةً وتحضرًا أصبحوا أكثر رغبة وقدرة وأشدّ إرادة في ممارسة القتل والتمتع بذلك.
وكُرّس التقدمُ العلميُّ لديهم لخدمة القتل والاستبداد والعنف أكثر مما يُكرّس لخدمة الحياة، بل إن ما نعاينه اليوم يثبت كيف يستطيع البشر المتحضرون حشد كل ما يستطيعون من وسائل التدمير والأموال والعقول المسعفة على ذلك، بما لا يمكن مقارنته بسعي البشر للبحث عن سبل الحياة الكريمة التي تضمن للناس الانتصار على الجوع والجهل والبؤس المقيم.
إذا جاوزنا حروب الماضي المقترنة بالتوحّش والتعصب القبليّ والعرقيّ والدينيّ والصراع على أسباب العيش، ونظرنا إلى واقعنا القريب، واقعنا بوصفنا بشرًا متحضرين، فإنَّنا سنفهم كم توحشنا، وكم ابتعدنا عن معنى الإنسانية التي نتقاتل ونقتل باسمها. لقد غدت ثقافة العنف منهجًا سائدًا يؤمن به ويمارسه من يمتلك السيف والقلم. باسم التفوق وادعاء الحق عشنا ونعيش بأعينٍ مفتوحة على صورٍ من العنف الثقافيّ الذي يتلخص في أنَّ لغتنا وثقافتنا هي التي يجب أن تسودَ وتنتصرَ على الثقافات واللغات الأخرى، وهنا نتأمل كيف عملت فرنسا مثلًا عبر تاريخها الاستعماريّ على فرنسة أفريقيا والبلاد الأخرى التي سيطرت عليها، أمَّا أمريكا فتؤمن بضرورة أمركة العالم ليكون قابلًا للتشكّل وفق المنظومة الثقافيّة الأمريكيّة بكلِّ عناصرها. وثمة عنفٌ اقتصاديٌّ يتمثّل بوعيٍّ وقسوةٍ مدمرة تتبدى في إفقار شعوب غنيّة، فتتحوّل قارة مثل أفريقيا إلى نموذج للبؤس والجوع والتخلف على الرغم من ثرائها، ولكنَّه ثراءٌ تنهبه الحضارات المتفوقة التي تفرض توحشها بالعنف العسكري، بعنف القوة المستبدة الغاشمة التي فقدت أبعادها الإنسانيّة.
كلُّ هذا يستندُ إلى الثقافات المتفوقة التي وفرت في إطار منظوماتها وبنياتها كلَّ العناصر اللازمة لممارسة العنف والعدوان وتبريره استنادًا إلى تعميق منطق الذات المتفوقة وترسيخها، الذات صاحبة القوة والحق المطلق، الذات التي تنظر إلى الآخرين بوصفهم " غوييم" أو أعداء بدائيين يفتقرون إلى أبسط شروط الإنسانيّة، وهم بالتالي يستحقون القتل، أو يُقتلون دون تأنيب الضمير. هذه الثقافةُ ثقافةٌ ذاتُ طابعٍ جمعيٍّ تنهض على عقائد أيدلوجيّة ترى في الآخرين الأعداء تهديدًا لثقافتنا ووجودنا؛ وبالتالي لا ضير في قتلهم أو تدجينهم والانتصار عليهم الذي يستدعي احتفالاتٍ صاخبةً تمجّدُ النتائج المترتبة على انتصار ثقافة العنف والكراهية.
لقد غدت ثقافةُ الحروب والقتل باسم الدين والعرق والطائفة أو القبيلة، وباسم الإقليم الحيويّ، فكرةً أو عقيدةً مقدسةً تفضي إلى قداسة الحرب والقتل، قتل الإنسان الآخر، وتحوّل الخطاب إلى خطاب بالرصاص والدم، وهذا ما جعل العالم يتشظّى، ويفتقد فيه الإنسان السيطرة على نوازعه البدائية، ويسقط العالم في دائرة الفوضى المؤذنة بالخراب، كما يرى ابن خلدون، عالم تنطلق فيه قوى الشر التي نعاينها اليوم في عالمنا الذي يدهشنا بتفوقه وعنفه وشروره، عالمنا الذي لم تعد فيه ثقافة التسامح وقبول الآخر والتعاطف معه موضوعًا للثقافات البشريّة، وكلُّ ما حولنا يبشّرُ بعنفٍ متصاعدٍ لا يتورع عن قتل الآخر ومحوه، عنفٌ يريدنا أن نلبسَ كما يلبسون، ونأكلَ كما يأكلون، ونؤمنَ بالثقافة المتفوقة التي ترى أن نبقى كما يريدون ووفق منظومة ايدلوجيّة صلبة تحتكر المعرفة والحق والقوة والخير والسلام.
لم تستطع ثقافة المحبة التي رفعت راياتها الأديان وتغنّى بها الشعراء، وشرحها الفلاسفة، ونادى بها الحكماءُ والمتطهرون والمتصوفون والحالمون أن تنتصرَ يومًا على ثقافة العنف التي رسمت ملامح التاريخ الدمويّ لبني البشر، والتي غدت اليوم لعبةً تقنيّةً ممتعة فائقة الدقة والقدرة في محو الضمير الإنسانيّ، وهذا ما جعل "غوته" الشاعر الألمانيّ الحالم يفرُّ خياليًّا من واقع أوروبا وحروبها المرعبة في القرن التاسع إلى الشرق، إلى الصحراء. أمَّا اليوم فلا مكان يمكن الفرار إليه، فثمة عين تراك أينما كنت، وتقتلك حين تريد، وتحتفل بالانتصار عليك.