د. عبد الرحيم مراشدة
أكاديمي وناقد أردني
ثمة خيطٌ جيني يربط مضمونات النصِّ الخطيبي إن جاز التعبير، ويمكن وصف هذا الخيط بأنَّه خيطٌ ذهبيٌّ إن جاز التعبير، يشع دائما ليمسك به القارئ بوصفه متلقيًّا، وبمجرد الإمساك به لا شك يثير شغفه باتجاه مسألتين: لذة المتعة ولذة الكشف، وهذا يتواءم مع ما يُعرف بلذة النصِّ ومكنوناته، ويعود الشغف لمسألة ربط المعطى اللغوي بالمعطى الفني وهذا يشكّل حاضنة لمسائل الحياة وما فيها من أشياء، حيث يصبح الشيء هو وليس هو في الوقت نفسه عندما يندس في القصيدة، بمفهوم "ميشيل فوكو"، وليس غريبًا على الدكتور إبراهيم الخطيب الشاعر ذلك، بسببٍ من اطلاعه اللافت على الأدب العربيّ والغربيّ، لا سيّما المترجم منه، أقول ذلك لأنَّ الأنساغ الثقافيّة التي يمتح منها تبدو في تلافيف نصّه في هذه المدونة التي بين أيدينا، ومن هنا ارتـأيت أن أشير إلى ثيمة اللغة المدمجة بأسلوبية ناجزة لا تشير إلا إلى الشاعر، ولهذا سأقسّم موضوعة المدونة قرائيًا للمحاور التالية، بحسب حركية الشعرية وتموجاتها في سياقات النصوص.
١- سيمياء اللغة الشعرية: منذ صفحة الغلاف يركّز الشاعر على حركية الحرف في بناء شعرية النصّ وحركته المتماوجة في بنية النص الشعري من جهة، وفي البناء الشمولي والكلي للمدونة التي ننظر إليها كوحدة واحدة، وهذا ما ينجز ويقدم وجهة نظر حول حركة المعنى منذ بداية النصِّ حتى نهايته، يبدو في نصوص الشاعر، الحرف مع الكلمة مع النص كما لو حركة كيميائيّة مهمّة لتوليد كلية فنية شعرية مهمّة. ذلك أنَّ العتبة للعنوان في هذه المدونة هي:(أرى تقلب حرفك في النساء)، وواضح هنا تعالق العنوان مع النصِّ الديني، القرآن الكريم على سبيل التناص: "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها" وهذا الأسلوب في النصِّ الشعريّ يكشف للمتلقي عن لغة مخاتلة قصد إليها النصّ بمفارقات وتعالقات قصدية. فالشاعر هنا يشير في متن النص عن ارتباك قصدي تحويري في كيفيات التعبير، من خلال ضمِّ الحروف إلى بعضها البعض للتعبير عن حالة معينة، لكن الشاعر يوجّه النصَّ باتجاهين، اتجاه غزلي رومانسي يتضح من الانحراف السياقي باتجاه النساء وآخر باتجاه عمليات التعامل مع الحرف عبر اللغة، وهذا يجعل للنص ظاهرًا وباطنًا في الوقت نفسه، وفي ذلك ابتكارٌ إنجازيٌّ تحفيزيٌّ يثير شهية التلقي، وصولًا لما يضمره النصُّ ويسكت عنه. فعملية التقلب تقود للحيرة والحيرة تفتح أفقًا لتغيير الاتجاه القرائي، وغير القرائي، وتحيل إلى حركة نفسية معينة يعيشها الشاعر ويريد إيصالها للمتلقي ليشاركه الإحساس والتأمل والتمثّل، فيما يرمي إليه من مقاصد عميقة عبر تركيبة النصِّ وتصويراته ومشهدياته.
٢_ شعريّةُ الدلالة والمتن:
معظم القصائد التي تضمنتها المدونة تأتي تحت عنوانات تشتبك في حركية الدلالة والمعنى مع حركة تموجات الحرف واللغة المتحولة، من حركة ذهنية لغوية إلى منجز ذاتي فردي، فتصبح الحروف بكيميائيتها التركيبية والمعنوية كلامًا لا يشير إلا إلى الذات المنشئة للنص. تبدو اللغة رهن أنثى في متن النصوص، وتبدو اللغة حاضنة للفكر والفلسفة، بمعنى لغة ولّادة باستمرار، مخصبة باعثة لدلالات مولودة وتولد باستمرار، وهذا عمل ليس من السهولة بمكان إنجازه.
فعنوانات القصائد مندسةٌ في دلالاتها عبر النصوص، تأتي بتراتبية لا تخلو أبدًا من كلمات تحيل إلى اللغة وما يقترب من جمر اللغة، وهذا يستدعي السؤال: لماذا هذا التركيز على إدخال كلمة اللغة وحروفها وتشكيلها في مطالع واستهلالات النصوص الشعرية في المدونة؟ وما هي الرسالة التي يريد الشاعر إرسالها؟ وهل للشاعر استراتيجية معينة لهذه المدونة؟ كل هذه الأسئلة وغيرها مشروعة وممكنة، وتحتاج لإجابات، وفي الوقت نفسه تشكّل دعوةً للمتلقي للاشتراك في حوارية مركزة لإنجاز نصٍّ غير اعتيادي، من خلال التفكير في معطيات تكوينية في المتن، وعدم الاكتفاء بالتشكيل الخارجي للنصِّ الشعري، سيّما وأنَّ هذه المرحلة التي كُتبت فيها المجموعة كانت مرحلةَ صراعٍ بين أنماط من الشعر السائد حول ما يُعرف بالقصيدة العمودية الكلاسيكية والتفعيلة وقصيدة النثر... الخ. من هنا نرجح أنَّ الشاعر حاول إنجاز خصوصية له، وذلك من خلال الإسهام في تجديد مضامين القصيدة الشعرية، وعدم الاكتفاء بالشكل، سعيًا وراء حركيّة الشعر وتحولاته في الأردن بخاصة، ومحاولة اللحاق بالشعر العربي، في المحيط على الأقل، كما فعل السياب، والبياتي، ودرويش، والمناصرة ... إلخ. إذن الرؤيا والتشكيل في هذه المدونة الشعرية تكتسب أهمية خاصة وتعتبر علامة فارقة على تحولات القصيدة العربية في الأردن. لنلحظ العنوانات في المدونة: (لغة الشعر، لغة القلب، لغة الذكرى، لغة النوم، لغة الذئب، لغة بدائية) فجاءت القصائد التي تم إدخال كلمة لغة في المدونة بحدود ربع الديوان، ولم يكتف الشاعر بذلك إذ لا تخلو أية قصيدة في المدونة من الإشارة، مباشرةً أو غير مباشرة للغة والحرف وظلالهما. هذا ينم إضافةً لما ذُكر عن ذاكرة ناقدة، للذات والكون، والعالم، وناقدة لمسار القصيدة في الشعر العربيّ وحركته في الأردن.
لنحاول الآن إيراد نموذج نصيّ تطبيقيّ على ما ذكر من المدونة الشعرية، والنموذج هو قصيدة (لغة الشعر)، هذه القصيدة تقدم احتمالين من القراءة: احتمال يستظهر القارئ منها أنَّ الشاعر الخطيب يُعرِّف الشعر بالشعر، ويتوسل بمعطيات الوجود والأشياء، أو ما يُعرف بنصِّ التفاصيل، بحيث يقدّم تعريفاتٍ تنفتح على أفقٍ قرائيٍّ متجدّد باستمرار، وفي الوقت نفسه يبدو الشاعر متمرسًا في مفهومه للشعر ولشعرية النص، وهنا يبدو كما لو أنَّه ناقدٌ محترفٌ، ويعي تمامًا إشكالية الشعر وتحولاتها، فها هو يقول:
"الشعرُ إذن زفرات تشتعل/وتنطفئ على مجمرة الشفتين/أهداب يتكسر فيها الضوء/ زخة ليل فوق فضاء الكتفين/هبة خجل عبرت ساحل خديك/قرنفلة وقعت في صحن لجين/وأنا المصل أمام بلاغة ذاك الحاجب".
في هذا النصِّ الشعريّ الكثيف، نجد لغة وموسيقى، وكثافة تحيل إلى كمٍ تراكميّ معرفيّ عن ماهية الشعر، منذ البداية الاستهلالية، لقوله:(الشعر إذن..) هذا السياقُ يقدّم نتيجة لأشياء سابقة على التعريف، كما لو يأتي بيقين عن علمه بقراءات وتعريفات سابقة عن مكونات الشعر.. فجاء التعريف هنا كنتيجة لما سلف من معارف واسعة... ثم بانزياح لافت، يتّجه لتقديم اللغة كأنثى، أو يستحضر الأنثى ويوظفها في المكونات والعناصر الضرورية للشعر ليثير شهية القارئ، وتبدو متعة الغزل المتنامي بين جسد الأنثى وجسد القصيدة وروحها، وبهذا تتدفق صفات وتفاصيل تشترك بين الأنثى الحبيبة والأنثى اللغة... ومن هنا تأتي كلمات متعالقة مع جمالية الأنثى وتفاصيلها، شكلًا وروحًا.. بحيث تتفتح اللغة على أبعاد جمالية متنوعة تستثير الخيال والتأمل والأحاسيس... وهنا تتكشف القصيدة عن متعة جمالية فنية وفكرية في آن، بمفهوم "رولان بارت" في كتابه الشهير (لذة النص)، فيأخذ من جسد المرأة وروحها وحضورها تفاصيل جمالية عبر تصويرات فنية متنوعة؛ فنجد كلمات وعبارات: الشفتين، وزفرات الحب، والأهداب، وخجل الأنثى، والكتفين، وصحن الخد.. كل هذا وغيره في مقابل الحبيب المأخوذ، والمنخطف، والمصلوب، إبهارًا أمام سحر الأنثى وجمالها الذي يعكس في الوقت نفسه جمالية اللغة والحروف، فتصبح اللغة الجسد وتفاصيله اللافتة في تراكيب الحروف.. ولم يكتفِ الشاعر بهذا فيقع أسيرًا للسحر المتناغم المدهش في موسيقى الشعر، ويجعله متعالقًا مع جماليات الموقف، والطقسية التي يقيمها النص.. وهذا ما جعل الشاعر يدمج بين الموسيقى والبحر الشعري المتناغم مع جسد الأنثى والحروف.. فتبدو القصيدة الأنثى، والأنثى القصيدة، وهذا ما يثير الدهشة والإمتاع.. حدَّ السحر الذي ينقلب على الساحر بتعبير الشاعر، من خلال دهشة الاستغراب والتعب، لشدة الجمال الذي يصل حدَّ التفاني بين الشعر واللغة... من هنا يصبح الشعر والسحر سلاحًا ذا حدّين؛ وتبقى أسئلة الدهشة معلقة مفتوحة على أفق قرائيّ متعدد الدلالة، مع معاودة القراءات الناقدة والماتعة. ويعزّز هذه الرؤيا في قصيدة أخرى هي:(المخاض) التي تتفتح على مخاض ولادة القصيدة.. فنراه يقول فيها عن الذات الشاعرة:
"ولم تزل أوراقه على بياضها/ولم تزل على إعراضها/ولم تزل دواته باردة".
يبقي نصُّ الخطيبِ الصديقِ الشاعرِ -رحمه الله- متوهجًا؛ لا سيّما في سياقه التاريخيّ، وقابلًا للتوهج عابرًا للزمان والمكان، مع كلِّ هبة قراءة، لما فيه من وعيٍّ للذات والكون والحياة من جهة، ووعيٍّ لشعريّة النصِّ من جهةٍ أخرى.