نضال القاسم
شاعر وناقد أردني
وُلد الشاعرُ إبراهيم الخطيب سنة 1938م في قرية "قومية" بقضاء بيسان أيام الانتداب البريطاني على فلسطين ونشأ بها، وقد أنهى دراسته الثانوية في الأردن، ثم حصل على شهادة البكالوريوس في الطب من كلية الطب بجامعة دمشق سنة 1973، ثم حصل على شهادة الاختصاص الأميركية في أمراض النساء سنة 1981. وقد عمل في السعودية لمدة سبع سنوات ثم انتقل إلى الأردن فعمل طبيبًا في أمراض النساء والولادة والعقم في عيادته الخاصة، وقد توفي في مدينة إربد في 5 فبراير عام 2011 بعد معاناة مع المرض الذي أقعده لسنواتٍ عن عمر ناهز 73 عاماً.
وها نحن اليوم بعد اثنتي عشرة سنة نقف أمام ذكرى رحيله تحيةً لشعره وإبداعه الكبير وتحية لمواقفه القوميّة، وسيبقى إبراهيم الخطيب حيًّا ومتواصلاً في قلوب كل الذين عرفوه أو قرأوا له، ولعلَّ زمانًا أفضل من زماننا سينصفه أكثر، أمَّا نحن في هذه الوقفة السريعة فإنَّما نؤكّد الوفاء لأولئك الذين ظلّوا أوفياء للإبداع والموقف وللوطن.
وصفوة القول؛ إنَّ الشاعر الدكتور إبراهيم الخطيب كان واحدًا من أبرز الشعراء المعاصرين في الأردن، ويتميز شعره بتصويره الرقيق للمشاعر والانفعالات التي يعاني منها، وأسلوبه الشعري سلسٌ رقيقٌ في قوّة وصدق، ألفاظه مختارة، وموسيقاه جميلة مع توهج في المشاعر وسعة الخيال، وقد برزت موهبته الشعرية خلال دراسته في دمشق، فقد تعرف على عددٍ كبير من الشعراء والكتّاب العرب فيها، وبدأ بالنشر في الصحف والمجلات العربية وشارك في الحياة الثقافية والفكرية في الأردن مشاركة طيبة، وكان عضوًا في رابطة الكتاب الأردنيين وانتُخب عضوًا في إحدى هيئاتها الإداريّة وأمينًا للشؤون الخارجية خلال فترة عضويته، ونشط أيضًا في اتحاد الكتاب العرب في دمشق، وجمعية الأطباء الشعراء، وفي نقابة الأطباء، وهي مؤسسات وهيئات انتسب إليها كما كان عضوًا في جمعية الأطباء الشعراء، وعضوًا في نقابة الأطباء الأردنية، وقد تُرجمت بعض أشعاره إلى غير لغة أجنبية وشارك في الكثير من المهرجانات الشعرية المحليّة والعربيّة مثل مهرجان جرش، ومهرجان المربد الشعري، وقد ظلَّ طيلة حياته صوتًا متميزًا في الساحة الأدبية والثقافية، من خلال حضوره المنتظم في المشهد الثقافيّ الأردنيّ والعربيّ، ومن خلال منجزه الشعري الثر الذي لامس عديدًا من القضايا الوطنيّة والإنسانيّة، وقد صدرت له الأعمال الشعريّة التالية:(غَنّ لي غدي، 1984) و(قناديل للنهار المُطفَأ، 1985) و(عز الدين القسّام، 1986) و(حظيرة الرياح، 1987) و(ألوذ بالحجر، 1989) و(وجهًا لوجه، 1990) و(سنابل الأرجوان، 1991) و(دم حنظلة، 1992) و (ذي قار الأخرى، 1992) و(عرضة للحياة، 1996) و(أرى قوافي قد أينعت، 2003) و(قاب دم وانتظار، 2006).
لقد كتب إبراهيم الخطيب للشعب والناس والمجموع ورأى فيهم القوّة المحركة للتطوّر البشريّ والثورة وقضية الحرية والاستقلال، ولم يكن الخطيب مجرد شاعرٍ عابر؛ بل إنَّه واحدٌ من رعيل حمل أحلام الأمة وسار بها مغيرًا ومجربًا، فقد كان حقاً يدخل تجربة عصرٍ جديد ويتنقل بين الأشكال الشعرية المختلفة، وقد كان - عليه رحمة الله- صادقًا في كل ما نظم لأنَّ الشعر بالنسبة إليه لم يكن بضاعةً للتكسب أو النفاق أو الزلفى، بل كان رسالة أمة وضمير شعب ونبراس جماهير، وهذا ما يفسرُ لنا قلة شعر المناسبات عنده، وكثرة الشعر الوطنيّ والقوميّ الهادف. ونستطيع أن نلمس هذا في أبياته الشعرية التالية من قصيدة (يجيء غزاةٌ ويمضي غزاة):
"لا رجماً بالغيب/ولا حرثاً في البحر وفي المفردات/أقول بملء فمي/حلميَ توأمُ علمي/وغدي في يدي/وغدي لا محالة آتْ"...(انتهى الاقتباس، ديوان: قاب دم وانتظار، ص88).
وقد كان إبراهيم الخطيب، عليه رحمة الله، شاعرًا مرهفًا، أعطى من نبض قلبه، وأغدق من فيض روحه شعراً، فيه كل ما يمسُّ شغاف القلب من عواطف سامية، وأحاسيس جياشة، فقد كتب شعرًا يتغنى فيه بالوطن، ويحنُّ فيه إلى ملاعب الصبا ومراتع الشباب، نفث فيه حرارة حبه لوطنه، وحرارة فقده إيّاه، وقد حمل إبراهيم الخطيب خريطةَ فلسطين في قلبه ودمه يرسمها عبر الكلمات ولم يتوقف حلمه عن الرجوع إليها، وقد التزم في حياته وفي شعره بحركة النضال العربيّ، وظلَّ على خطّه القوميّ حتى أواخر حياته، وقد وقف من قضية فلسطين موقف المدافع بشراسة عن الحق العربي والأرض العربية، ولم يفقد الأمل يومًا في إمكانية عودتها، ومن ذلك قوله في قصيدة (تصريح):
"في وطني المحتل/يُطردُ آلافٌ من شعبي إن سألوا/كيف تكون الشمسُ لكلِ الناسْ/ونحن بلا ظل/في وطني المحتل/يطرد آلاف من شعبي إن همسوا:/نحن رضعنا من هذا التين وهذا الزيتون/ولنا في هذي الأرض/قلوبٌ وعيون/كيف نكون بلا أصلٍ وبلا فصل؟/لكن الإسرائيلي الديمقراطي الإنسان/له توراة/وله آيات/تدعو للحق وتدعو للعدل/لهذا يسمح من بين الآلاف لنفر بالعودة/إن كان العائد يتمتع بالردة/فعلى شفتيه قفل/لا تاريخ ولا زمن لديه فلا بعد ولا قبل/لا يعشق/لا يقلق/لا هجر ولا وصل/شفافٌ كالصمت/رقيقٌ كالصبر/طريٌ كالرمل".
ويسمى هذا تصريح من دولة إسرائيل بلم الشمل. (انتهى الاقتباس).
ومما لا شكَّ فيه أنَّ إبراهيم الخطيب كان شاعرًا ألمعيًّا ملتزمًا بحبِّ أمته العربية الواحدة وبقضاياها القومية، وبترابها الوطني، وتراثها التليد، وأنَّه ذو موهبة قوية، يمسك بناصية اللغة ويحسنُ التعامل مع أدواتها البيانية والبلاغية، فيجعل العربية، الجزلة القوية مادةً طيعة لقضاياه القومية، قادرة على استثارة الناس والتأثير فيهم، وقد غلبت على شعره روح الحماسة، واستمر طوال مسيرته الشعرية على خطّه القومي، يستنهض الهمم ويستثير المشاعر، ويلهب الأحاسيس، بلغة جزلة وبيان قوي وعبارات آسرة من مثل قوله في قصيدة (ألوذ بالحجرُ):-
"ألوذُ بالحجر!!/لم يبق قُرمُطّي غيرَ ما يلوحُ من حضارة الغَجَر/ونحن وحدنا الأغراب والأعرابْ/وحينما قلّمتْ أظفارنا الأيّامُ/صار للذباب جولةٌ وللشياه نابْ/وحين لم يكن على عينّي شوكةٌ ولا إبَر/والقلبُ كان دُورياً على الأهدابْ/توافدتْ كتائبُ المغول والتتر".(انتهى الاقتباس، ألوذ بالحجر، ص33).
لقد مات إبراهيم الخطيب دون أن يفقد الأمل في أنَّ هذه الأمة لا بدَّ أن تنهض يومًا ما من كبوتها وتثبت معدنها الأصيل، ومهما كتبت عن الجانب الوطني والقومي في سيرته فلن أفيه حقه، فهو علم شامخ من أعلام الشعراء البارزين، ونلمح في شعره التزامًا دائمًا وأصيلاً بالهم الفلسطيني، فهو يؤكد أنَّ الحق لا بدَّ راجع لأهله ولو طال الزمن، وأبيات الشعر التالية من قصيدة (ألوذ بالحجر) تعبر عن الأمل الذي عاش عليه:
"إياك أنْ تُبقي إياك أن تَذرْ/لا وقت للكلام... فالحديثُ من حجرْ/اضرب به حتى يبوح بالشرر/إياكَ أن تبقي...إياك أن تذر"(انتهى الاقتباس، ديوان ألوذ بالحجر، ص21-22).
بقي أن أقول إنَّ الانحياز للثقافة لا يعني عند إبراهيم الخطيب انقطاعًا عن الاهتمام بالسياسي، لأنَّه ظلَّ مؤمناً بأنَّ الثقافة هي ما يؤسس التفكير السياسي دون الاندماج في السياسة كممارسة، وهو ما حرص على الوفاء له طيلة مسيرته الأدبية؛ ومن هنا فقد كانت قصائده عميقة الصلة بالوجدان، فهي ليست مصطنعة وليست جهدًا وظيفيًّا، فهي الحياة نفسها مغناة ومكتوبة ومقروءة، ومما لا شكَّ فيه أنَّ الخطيب لم يحظ بما يستحقه من تكريم كشاعر موهوب قد تفرد بأسلوب شعري أصيل أو كإنسان امتاز بالوطنية الصادقة والانتماء الأصيل لوطنه ومجتمعه، فهو كشاعر لا يقلُّ مكانة عن أكبر الشعراء العرب المعاصرين؛ بل لعلّه يمتاز عن كثير منهم بإنسانيته الصادقة وانتمائه الأصيل وضميره الوطني.
رحم الله الشاعر العربي الدكتور إبراهيم الخطيب، فقد كان مخلصًا في القول والفعل ودودًا ودافئًا وهادئًا محبًّا لأصدقائه ووفيًا لهم ولقضيته ولعروبته.