د. إبراهيم مصطفى الدّهون
أكاديمي وباحث أردني
عتبة:
يعرضُ هذا المقال لتطبيق أطروحات نقديّة حديثة، أصبحتْ بضاعةً مزجاةً، في مناهجِ النّقدِ المعاصرِ، وقراءةِ النُّصوص الإبداعيّة وتحليلها. لهذا جاءَ ناظراً في سيميائياتِ الطبيعةِ من خلال ديوانين شعريين لشاعر وشاعرة من شعراءِ الأردن المعاصرين. فالأوّل حبيب الزيودي في ديوانه: منازل أهلي. أمّا الثّانية فنبيلة الخطيب في ديوانها: من أين أبدأ؟
فمن الواضحِ أنَّ للطبيعةِ حضوراً لافتاً في النّصوصِ الشِعريّةِ الأردنيّةِ المعاصرةِ، بوصفها أداةَ تواصلٍ مكينة في عالمٍ امتلأ بالمعلوماتيّة في ظلِّ حضارةٍ تسعى إلى تسليعِ الإنسانِ وتحويلهِ إلى سلعةٍ يمكن المتاجرة بها.
وفي العودةِ إلى الشِّعر الأردنيّ المعاصر يكون طبيعياً أن نجدَ عدداً كبيراً يعتمدُ على الطبيعةِ وعوالقها في تشكيلِ تقنيات صورهم الشِّعريّة وتلاحمها؛ لتجسّد الطبيعةُ بعد ذلك حالةً شعوريةً ناطقةً، وبعداً نفسيّاً نابضاً بإحساسهم الحقيقي للوجود.
ولا شكّ أنَّ الشَّاعرَ الأردنيّ المعاصر وقفَ على الطبيعةِ من حولهِ متأمّلاً أنماطَها بتفكرٍ وتدبرٍ ليس مألوفين، فأفادَ منها مادةً ومحتوى، منهجاً وأسلوباً، طوّر أشياءها، ودبّج ترسيماتِها.
ومن أجل ذلك فقد عمدَ المقال إلى استنطاقِ المنهج السّيميائيّ بخصوص ما يمكن أن يقدّمه من مقاربات نقدية وإرهاصات جماليّة في تحليل المادة الشّعريّة إزاء تجربتين شعريتين متقاربتين زمنياً ونفسيّاً ومضمونياً.
وذلك لِما وصف به هذا المنهج من اكتشافِ مركوزات النّصوص، واقتحام مستويات البنيّة العامّة في نوعٍ من التّفاعلِ المعرفيّ والثّقافيّ والدِّلاليّ بين المبدعِ والمتلقي.
فالسيمياء تؤدي دوراً مهمّاً في آلياتِ القراءةِ النقديّة، وفهم طبيعة المقاصد والمعاني، خاصة وأنَّ النصَّ الشّعريّ المعاصر يمارسُ علينا إغراءاتِه وإغواءاتِه في التفاتاتٍ ذكية تحملُ ثراءَ الرؤية وإنثيالَ الإشارات التّعبيريّة.
وفي حقيقةِ الأمر؛ فإنَّ هذا الاستخدامَ يشكّل بعداً حميمياً في سياقاتِ النَّصّ الشِّعريّ المعاصر، إذْ يكوّنُ هذا البعدُ إثارةً عند المتلقي، ويفتحُ أمامه آفاقاً كثيرةً للتعاملِ مع النّصِّ وَفق طرائق متعددة في الولوجِ إلى محجّاته ومغاليقه.
وحتّى تكتملَ واقعيةُ الدِّراسة وتظلَّ قادرةً على شحنِ خيال القارئ بالإقناعِ والتّأثيرِ، في قراءةِ تصاوير الطبيعةِ في الشِّعرِ الأردنيّ المتمثلة في الطبيعةِ الصّامتة باعتبارها أداةً أساسيّةً في التواصلِ بين طرفي الخطاب، والطبيعة المتحركة وأهميتها في بثِّ شيفرات ودلالات منشرحة للمتلقي يختزنها في ذهنهِ ويتمثلها حسب ما يراه. يحسن أنْ نعقّبَ هذا التقديم بغورين اثنين، هما:
1- سيميائية الطبيعة المتحركة.
ثمّة معالمُ إبداعيّة مركوزة في تجربتي الزّيودي والخطيب في إطارِ الشّعر العربي المعاصر عامةً، والشّعر الأردنيّ خاصّةً، ترتبطُ بالتّعاملِ مع الطبيعةِ ودوائرها ارتباطاً يحيك وشائج وثيقة بين الشّاعرِ وبيئته، ويمكن أنْ يكونَ سياقاً تأمّلياً لكتابات الشّعراء في الزّمنِ الحاليّ.
وعليه؛ سأختارُ عدّةَ نماذج وجد الشَّاعران نفسَهما أطرافاً في تناغمٍ واندغامٍ مع المحيط،ِ فاندفعا يسوقان في هذا المضمارِ طائفةً من النّصوصِ المكتنزةِ بالدّلالاتِ والعلاماتِ السّيميائيّة المتحركةِ في وعي الذّات بمجاهلِ الطبيعة ومناظرها.
ومن هنا، مضى الشَّاعران يؤكدان أصالةَ عناصر الطبيعة في أشعارهما، ويعتبرانها أيقونةً مفصليّةَ في بنائيةِ النّصِّ الشّعريّ، علاوةً على أنّها وعاءٌ سيميائيٌ يحملُ مشاعرَهم وأحاسيسهم الدّفينة والصّادقة، على نحو ما نلحظ في الآتي:
أ- سيمياء الحيوان:
الناظرُ لسيميائياتِ الحيوان في ديواني الشَّاعرين يجدها قد تمحرقتْ طويلاً أمام الإفضاءِ إلى عالمٍ آخر، يتمثل في حلمِ الانتماء الجديد، الذي يمثّل غرابةً؛ لأنّه يلوذُ بعالمٍ جديدٍ، عالم فيه الغرابة والدّهشة، عالم الحيوان، فلا مشاحةَ أنْ ينتاشَ أنساقَهم وصفاتِهم( ).
وهكذا، مضى الزيودي يمنح خيلَه تدفقاً ورافداً بالتوثّب والانطلاق في قصيدة بعنوان: (نشيد الشنفرى)، إذ قال: ( )
"إذا ما طاردتْ خيلٌ بأرضٍ
يكونُ حصانُهُ فيها السَّبُوقا"
إنَّ تمظهرَ الخيلُ/ الطبيعة المتحركة في النّصِّ الزّيودي يعني معجمياً القوةَ والصّلابةَ والعزّةَ، التي تتحكم في النسقِ بعلامةٍ متشابكةٍ يصبح التّمردُ زاويةً فارقةً فيها، وإشارةً واضحةً إلى علامات الارتقاءِ والتّفوق عندما قاده الموقفُ إلى مقارنةِ حِصانه بالخيولِ الأخرى، سبقاً ومنزلة، إذْ توصّل بشاعريتهِ إلى تلوناتٍ عديدةٍ وتفرعاتٍ مديدةٍ. وصلَ من خلالها إلى مرتبةٍ سَنيّةٍ في التّميّزِ والاقتدارِ.
وفي سياقِ هذه العناية الغامرة بالخيلِ تأتي عنايةُ الخطيب في هذه السيلِ فهي ترنو إلى تقديمِ اللغة العربية على صهوةِ الخيولِ، وأضاميم العاديات بقولها: ( )
"هل السُّراةُ كمن هَبُّوا لها صُبْحَا
والعادياتُ بذاك المُلتقى ضَبْحَا"
تضعنا الشَّاعرةُ في النّصِّ السّابقِ بمحاورة لطيفةٍ في تعاملها مع الطبيعةِ المتحركة/الخيل. إذْ تحاور مضموناً دالاً على قيمةِ الخيلِ في الزّمنِ الماضي تلك القيمة المرتبطة بالفتوحات والفروسية والقوة والعنفوان، غير أنَّها تتحوّل من الزّمن الماضي إلى زمن حاضرٍ تستدعي فيه الآية القرآنيّة: ( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا) ( ) ؛ لتضفي معاني الثّبات والارتفاع والأصالة العتيدة في مزيّة اللّغة العربيّة ( ).
وفضلاً عن هذه التّحولات، إذ تعمد إلى مزجِ نصِّها مع النّصِّ القرآنيّ في علاقاتٍ داخليةٍ متشابكةٍ بطريقةٍ متآلفةٍ متمازجةٍ صاغتها وَفق رؤيتها الشّعريّة، على نحو تناغمها مع الآيةِ القرآنيةِ عن طريقِ التّصريع في كلمتي: (صُبْحَا، ضَبْحَا) لتؤسسَ بعداً متجانساً لنصوصها عن طريق التّقارب مع الخطابِ الرّباني.
ويتراءى من الوقفةِ المتأنيةِ عند جانبِ الطبيعةِ/ الخيل في المشهدينِ السّابقين مسألةُ التّأثر المباشر بموضوعِ الحيوان، التي أفضت إلى أثرهِ اللامعِ في إقامةِ أسلوب رشيق مشرق، يتقد ببشاشةِ الطبيعة وبقيمها الوجدانيّة. وكلما أمعنَ المتتبعُ لشعريهما يلحظ ثراءً تصويرياً أحسنا فيه، وأجادا إجادةً بالغةً عندما اختارا الخيلَ كونها تحملُ في تضاعيفها تجلياتِ حضور الخلال المحمودة، كمثل الصرخةِ الأبية في حنينها، والإصرارِ على التّمتعِ بنعمة الحرية. ولما كانَ العربيُّ وليدَ بيئته، وابنَ عصره، فقد كانَ بدهياً أن تلتصقَ طباعُ الخيل بشخصيتهِ بما فيها من الشّهامةِ والتّضحيةِ والمُثلِ العليا والفضائل. كما يتبدّى للمتلقي" أنَّ الشاعرينَ يحيطان بصفاتِ الخيل، ومكامنِ الجمال التي تأسرُ الألبابَ بهيمنتها على المشهدِ الشِّعريّ، ويُبرز دور الطبيعة في التّعبيرِ عن المنحى الجمالي للقصيدة"( ).
واندغاماً مع هذه الرؤية، يستحوذُ الحضورُ الحيواني على ملفوظاتهما الشّعريّة وحمولاتهما المعرفيّة استحواذاً تاماً، بما يدغدغُ الرغبة الدفينة في التهربِ من الواقع إلى مغناطيسيةِ الحيوان، وجاذبيته، تعبيراً عن نظرتِهم الإيجابيّة إلى الحياةِ الطبيعية/ الحيوان.
ب- سيميائية الطير:
ومن التّجاذباتِ التي تكشفُ عن تقاربِ الشّاعرينِ مع الطبيعةِ المتحركةِ ما كانَ قد فجّره الحمامُ في ذاتِ الخطيبِ من حالاتٍ شعوريةٍ ثاويةٍ في وعيها عبر استدعاءِ النّموذج المليء بالحنينِ والاشتياقِ حينما راحتْ تنمّي هذه الاحساساتِ والانفعالاتِ والمشاعرَ، حيث غدا الحمامُ عندها وسيلةً مهمّةً من وسائل التعبير عن النّفس الإنسانيّة عمّا يتحرك في دخيلتها؛ من مثيراتِ الحنينِ والشّجونِ التي تبدّت بأشكالٍ متنوعةٍ، وتجلّى مثل هذا في قولها بقصيدة عنوانها: ( إسراء ومعراجا): ( )
"أرواحُنا..
كحمامِ الدّوْحِ
تقصِدُهُ
على جناحِ الوَفا والحُبِّ...
أفواجا
كأنَّما الطيرُ
تتلو سورةً
نزلتْ في أمرهِ
فيبيتُ الدّهرُ
لهّاجا:
يقع قارئ الأسطرَ الشّعريّةَ السّابقةَ على خواطرَ والتماعاتٍ سيميائيّةٍ ملحوظة، ومسطورة في ركازةِ/الحمام. التماعة تمثّل مركزيّةَ الفهمِ والانفتاحِ على فضاءاتِ الوفاء والحبّ والاستقرار في المكان.
وبوسعنا أنْ نتابعَ إشارةَ الحمام ونرصدَ منابعَها ونستخرجَ ما في حناياها من حقائق تحرّكُ لواعجَ الإنسان وتشعلُ في أعطافِ شعوره نارَ الآلام والعذابات؛ لأنّه يزدادُ غربةً عن المكانِ/ القدس ومع ازديادِ الغربة تتفجر الطبيعةُ المتحركة/ الحمام حنيناً وتلهفاً وعزاءً.
إنَّ الحمام/ النَّفسُ الروحاني، عالم الحنين والبراءة، مجلس الزّخم الرّوحي المرتبط بالأقصى، وبينما الشّاعرة مستلبة مرتكسة في المكان فإذا عادتْ إليها تنامتْ لديها أحاسيسُ العذوبة والرّعوية، وتولدت في أطوائها مفرداتُ السّعادة واللّذاذة. وعلى هذا فإنَّ للحمام أبعاداً دلاليّة، ومعاني متوارية تدخل المتلقي في غواية التأويل. ( )
وليس غريباً أن نلمحَ اسمَ الحَمامِ يتردد في بنيةِ الخطيب الشّعريّة، ويحتل مساحةً كبيرةً لرسمِ صورة التّلظي، والأسى الشّفيف بسبب البعدِ المكاني عن الأقصى المبارك، جغرافيا النور والسور، مصدر الطاقة المؤثرة.
وبما أنَّ سيمياءَ الطير تتمحور حول الذات، فقد جعلَ الزيودي توظيفَ الحمام أكثر قدرةً على التحررِ من أبعادها الواقعيةِ إلى أثرٍ يتعلق بالذاتِ وأحاسيسها ونوازعها فإنَّ للحالةِ النفسيةِ الشّعور بالفقدِ واللوعةِ عند الزيودي إزاء رحيل والده قادته إلى أن يستعيرَ من الحمام مرموزاتِ الاغترابِ وتباريحَ البكاء والدّموع، يستذكر قائلاً: ( )
"أقولُ أبي فيسعفني حنيني
لوجهِ أبي ويخذلني الكلامُ
أبي الماءُ الفراتِ سقى الرّوابي
وإنْ طلبَ الحسامُ هو الحسامُ
أشفُّ من اليمامِ إذا تغنّى
وحنَّ إلى مرابعهِ اليمامُ
وعليه؛ تتجلّى في هذا النفخةِ الشّعريّةِ الترنيماتُ الحزينةُ الصّادقةُ التي تنشد الذّات الزيودية منها مواساة النَّفس، مواساة استدعت منها استحضار نماذج لبعضِ مظاهرِ الطبيعة المتحركة/ الحمام( ).
ويلجأ الشّاعرُ خلال حديثه عن أبيه إلى صوتِ الحمام/غناء /تغني/لإثراء معجمه الشّعريّ بألفاظٍ قادرةٍ على نقلِ حرقاته ونواحاته وأشجانه المتنامية. وللمكانةِ الأثيرةِ التي حظيتْ بها الحمامة نلحظ الشّاعرَ أنه لم تكن هيئتها وحدها من استعانَ بها، وإنّما توكأ على هديلها/ نحيبها الذي ألهبَ فؤادَه وأجّج عواطفَه؛ ليعبر عن حالتهِ النّفسيّة الحزينة القلقة البائسة عند استرجاعِ حبيب غالٍ- وهو الأب، رحلَ كريمَ النفس، عزيزَ المحل، رفيعَ الشّرف.
فلا نجانب الصوابَ إذ قلنا: إنَّ الحمامَ كان في النّصِّ ينبوعاً للمشاعر الإنسانية ولغتها الموحية المثيرة، مرتشفاً طيباً، مورداً عذباً، لا يفتأ يؤمّها انتجاعاً عاطفياً وملجأ شوقياً.
ولعلّنا حريون بأنْ نرصد فيما نقرأ نزعةً نهميةً في التغلغلِ إلى أقصى درجات الإبداع الشّعري عندما يمزج وجدانياته وأفانينه اللّغويّة ويصبها جديلةً محكمةً محبوكةً مسبوكةً؛ ليبرز ما تحتويه الدوال/أشف، اليمام، تغنّى، حنّ، مرابع.
وقد تجلّى إبداع الشّاعر في مشهدِ الحمام برسمِ صورة شعرية أكثر إيضاحاً، حيث لجأ إلى رسمِ الصّورة بالعناصرِ المحسوسةِ في موضوعِ الحنينِ والاشتياقِ والتّلهفِ إلى الإنسانِ والأهل، فلم يبالغْ بالإغرابِ والتّعقيد بل اغترفَ من عناصرِ البيئة الضّيقة في محيطهِ؛ ليعبّر بالصدق الكافي عن تجربته الشّعريّة الخاصّة به مع الأخذ بنظر الحسبان أنَّ البيئة العالوكية شديدةَ الاخضرار، موفرةَ الخصب، كثيرةَ المراعي، تحضّ على الرحلات والنزهات. ( )
2- سيميائية الطبيعة الصامتة.
يدركُ الشَّاعرانِ أهميةَ الطبيعة في المشهدِ الشّعريّ، ويعبّران من خلالها عن تدفقاتهما العاطفيّة، فلا عجب أنْ يجدا فيها قدراتٍ فائقةً، وقوى خارقة، وأسراراً غامضة، ( )فالشاعران اتّخذا من الحديثِ عن مظاهرها مجالاً رحباً للتنفيسِ عن مكبوتاتهما، وطريقاً لتحميلها منطوقاتهما، وخلجاتهما الشّعوريّة للمتلقي.
وعليه؛ كان للزهورِ والنباتاتِ مكانةٌ مركوزةٌ في عقلِيهما يتعلمان منها عشقَ الحياة ويبثانه بالتّالي عبر ما وهبهما الله من ملكةِ السّردِ والنّظمِ؛ وقد تعددتْ دلالات النّبات والزّهر في الشِّعر الأردنيّ المعاصرِ والحالة النّفسيّة للشاعرِ عند نظمهِ نصوصه الشّعريّة.
وفي نصٍّ شعريّ، تعود الخطيبُ فيه ثانيةً إلى عهدِ الطفولةِ يحملُ نبراتِ التّفاؤل والأملِ، فنلاحظ إحساساً فذّاً بمشاهدِ الطبيعةِ الخيرة، ومنهلاً عذباً ترتشفُ منه الشّاعرةُ لوحاتٍ تثير الخيال والذّوق، إذ تقولُ في قصيدةٍ موسومةٍ بـ: (عاشق الزّنبق): ( )
"عرائسُ الزّهرْ بالأثوابِ رافلةٌ
في سُنْدُسٍ مُونِقٍ بالحُسْنِ كَمّلَهُ
لكنّها الرّيح تلهو فيه قاصدةً
وكلّما اشتدّ فِعلُ الرّيحِ أخجلَهُ
إنْ أبطأَ النَّسيمُ والأفنانُ ناعسةٌ
تراه رفيقاً كي يُعَجّلَهُ
يتجلّى في هذهِ الأبياتِ حضورُ الذَّات الشَّاعرة التي تتحدثُ عن نفسها، في أمداءِ الطبيعةِ، فسيمياءُ الزّهرِ/الريح/النَّسيم وشيفرة التّفتّق يجتمعون في هذهِ الشّريحةِ التي رسمت خريطةً جديدةً لوعي الشّاعرة بمرحلةِ الطفولةِ الزّاهيةِ، ومفردات الحبّ وملصقات الفرح، وملامح الرّشاقة. فالشَّاعرة تؤطر لمرحلةٍ زمنيةّ تهيمنُ عليها، فظلّت تنبشُ في أعماقِ البّراعم اليانعةِ، والأغصان النّديّة، لعلّ صمتَها عاصفةٌ جارفةٌ من التشوّقِ والمعانقةِ لثيماتِ الإفصاح والبوح. وذهبتْ إلى أكثر من ذلك بحيث أنّها لم تتحدثْ عن تحولاتها وتعويضاتِها النَّفسيّة، وإنّما جعلتْ ذلك على لسانِ الصّوامتِ/ الطبيعة.
ولم تكنِ الخطيبُ وحدها من تقصتْ جمالَ طبيعة موطنها، ومراتعَ طفولتها الأولى، بل أحبَّ أيضاً الزيودي بيئتَه العالوكيّةَ، فهمَّ بوصفها وتصويرها، فعرفَ كيف يجعلُ منها صوراً دالة، وبراعةً في التصويرِ ورهافةِ بالإحساسِ، لا سيما أنَّ الزّيودي يحيلُ الصّفات الإنسانيّة على عناصرِ الطبيعة، من مثل قوله في دفقة شعريّة وسمت بـ(أنوثة): ( )
"قال الرَّاعي- وهو يعدُّ إناثَ البرية-:
الشّجرة أنثى
الشبابة أنثى
عين الماء،
الزّهرة، والدّرب إلى المرعى..
والشَّمسْ
لا يوجد ذكر في البريةِ باستثناء التَّيسْ".
إنَّ النّظرةَ التَّأمّليّة المحايدة في الأسطرِ الشِّعريّة السَّابقة تظهر تمكّنَ الشّاعر من تحريكِ الطبيعة الصّامتة، فأضفى عليها أبعاداً سيميائيّة بؤريّة وإيحاءاتٍ دلاليّة ممزوجةً بأطيافٍ نفسيّة، وأكسبها وحداتٍ دلاليّةً غير صريحةٍ، وعالماً غامراً بفيضِ الإيحاءِ، عالمَ الأنوثة المفعم بالخصوبةِ والطربِ والانشراحِ، نحو التّرسيمة الآتية:
الشجرة-الظل.
الشبابة- الغناء.
عين الماء- الارتواء
الزّهرة-الرّائحة.
الشّمس- الدفء.
ولو عدنا إلى التّرسيمةِ السَّابقةِ لوجدنا أنَّ الشَّاعرَ في عناصرِ الطبيعةِ يسبح بعالمِ المرأة من خلالِ الصّورة البلاغيّة الرامزة الفياضة بالدلالة والثرية بالإيحاء إلى أعمق الأعماق وكلّ ما هو كامن في تصنيفاتها: البصرية والسّمعيّة والذّوقيّة واللمسيّة، فتلتاعُ روحُه لتهتف بوجوده الأنثوي، وترتقي لتكون وسيلةً للتعبيرِ عن الدّفءِ، والاحتضانِ، والتّراحمِ، وفيض العاطفةِ، والإشراقِ.
ومن آراء ابن عربي في هذا الصّددِ أنَّ المرأةَ بوصفها المحبوبة رمز الأنوثة الخالقة للرحمِ الكونيّة، وهي بوصفها كذلك علة الوجود ومكان الوجود. والعاشق لكي يحضرَ فيها يجب أنْ يغيبَ عن نفسهِ، عن صفاتهِ، يجب أنْ يزيلَ صفاتِه لكي يثبتَ ذات حبيبته، ينوجد بهذه الذات، وسيظلّ محجوباً عنها إذا بقيتْ صفاتُه، فهو إذن سيظلُّ ضدَ نفسه ما بقيتْ صفاتُه، وحين تزولُ صفاتُه، حين يموتُ، يحيا( ) .
ولنعدْ إلى ما أخذنا فيه نقولُ: أشادَ الشاعران بالطبيعة إشادةً بالغةً، إذ زادتْ من ألفاظهما ما يحلو سماعه، ويلطف موقعه ويصل إلى القلوب من المقاصدِ بلا تكلفٍ ويمتزج بالأرواحِ بلا تعسفٍ، فمنحاها ملاحةً ونظما محاسنها وأزالا الكزازةَ عنها بابتكارٍ واقتدارٍ.
وليس من الإسرافِ في شيء أن يقال: إنَّ تأمل أسلوب الطبيعة في شعر الشاعرين يدفعنا إلى نتيجة مؤداها: إنَّ عناصر الطبيعة لائطةٌ بأفئدتهما، رئتان يتنفسان من خلالهما، ومنظارٌ يطلان به إلى عالم الحياة والأحياء، وما يكتنفهما من ملابسات، وهو أسلوب شديد الخصوصيّة لكليهما، إذ يقدّم مدلولاتٍ مخصوصةً ترتبط بنفسيتهما وتجربتهما، وتعبران عن انتمائهما المكاني/الطبيعة، فالأول غارق بفسحة عالوكية، منتشٍ بصبوة ربيعية، وذكرى أبوية مفعمة بالطموح والأمل. والثاني/ الخطيب متمرغة بالصبا وحداثة السن في استرجاعها خيوط الطفولة في قريتها الأولى/ الباذان ومراتعها الخصبة، وأحيائها الدافئة، ومجالسها الابتهاجية. ومن ثمَّ فهي/ الطبيعة منبع إثارة وتحريك لأدق مشاعر الأمل وانفعالات الاستئناس في الخطاب الشعري، أي أنَّها ذات وظيفتين: دلاليّة وإيحائية
( ) ربابعة، موسى، مقاربات سيميائية في النّصّ الشّعريّ الجاهليّ، دار الأهلية، عمّان، 2018م، ص19.
( ) الزيودي، حبيب، منازل أهلي، وزارة الثقافة الأردنية، عمّان، 2012م، ص14.
( ) الخطيب، نبيلة، من أين أبدأ، دار المأمون للنشر والتوزيع، عمّان، 2012م،ص55.
( ) سورة العاديات، الآية رقم: (1 ).
( ) المراشدة، عبدالباسط، التّناص في الشّعر العربي الحديث، ص180.
( ) ياس، سراب ، والطيب ، عمر، الطبيعة في الشّعر الأندلسي، مجلة العلوم الإنسانيّة والطبيعية، كلية التربية، جامعة الجزيرة، السودان، مج3،ع8، 2022م، ص628.
( ) الخطيب، نبيلة، من أين أبدأ، دار المأمون للنشر والتوزيع، عمّان، 2012م،ص116.
( ) الدهون، إبراهيم، دلالة الحمام في شعر المعري، مجلة مجمع اللغة العربية، ع98، 2019م، ص75.
( ) منازل أهلي، ص42.
( ) الطبيعة في الشعر العباسي العباسي، مرجع سابق،ص 191.
( ) سيميائية الطبيعة الصامتة، ص22.
( ) أبو سويلم، أنور، الطبيعة في الشِّعر العبّاسيّ، ص105.
( ) من أين أبدأ، ص16.
( ) منازل أهلي، ص56.
( ) أدونيس، في الصوفية والسوريالية، ص107+108.