ياسر وقاد
كاتب...
إذا كانت العجائبيّة ارتكزت على الخيال (الأرضية المشتركة مع الصوفية) لخدمة قضايا مختلفة، منها الإمتاع والتسلية والعظة، كما في كليلة ودمنة، فإنَّ الصوفية جعلت من الخيال عملية إنتاج للمعرفة، فالخيال (تمظهر وجودي متعيّن في جميع المخلوقات كما هو فعل الخلق الإلهي ذاته)، وهو ذاته المحرك الأساسي للفهم من خلال قدراته على استظهار ما هو غائصٌ وخفيٌّ من الحقيقة. ومن الخيال ذاته عندهم تأتي النظرة إلى الكون ( إنَّما الكون خيال وهو حقٌّ في الحقيقة ) فالخيال إذن حقيقة حتمية، وليس صورة مجانية تدور في الأذهان، بل هو مؤسس للمعرفة، ومقام ( برزخ ) يتم فيه إنتاج العالم من تزاوج العدم بالوجود.
ليست الصوفية مجرد حالة وجدانية وروحانية تنبثق عن رؤية باطنية تعبر من خلالها الى الحقيقة الوجودية؛ بل هي تجربة فنية أيضًا تتقاطع مع العجائبية في قدرتها على نحت المتخيل، وفقًا لقدرات حسية وحدسية، تُنتج نسقًا فنيًّا مستنبطًا من تلك المراوحة بين عالمين؛ عالم مُستيقَن واضح الحدود، وعالم متشكّك يسعى إلى إثبات حالته، وتبيان صورته.
وإذا كانت العجائبية أدبًا ينحو إلى الخيال، ويمعن في هدم المتوقع، وبنائه وفقًا لغايات خاصة به، على نحو فنتازي يثير فيه الخيالُ أجواء سحرية، فالصوفية أيضًا نحت إلى لغتها الخاصة، ومصطلحاتها الغامضة، وأنساقها التي تتشابك فيها الصُّوَر، وتتعالق مع الخيال. ولعلّها في ذلك تقصّدت أن تسمو بخطابها، وترتقي به من جهة، وأن تعالج ما أشكل عليها من ضيق اللغة من جهة أخرى، مما أسهم في انشغال فضائها بالكثير من الضبابية والغموض والتشفير الذي زاوج بين الصورة والمعنى لإنجاب الرمز نزولًا عند اتساع الرؤية، وضيق الكلام.
في هذه الدراسة نحاول قدر المستطاع أن نسير بحذر على الحدود الفاصلة بين ما هو صوفيّ وما هو عجائبيّ، في نصيّ القاصة أماني سليمان داوود؛ "غيمة يتدلى منها حبل سميك " و"ناي القحط " من مجموعتها القصصية "غيمة يتدلى منها حبل سميك"، وأن نبيّن وفق قراءة تأملية، مساحات الرؤية الصوفية، من خلال رمزياتها وإحالاتها وإرهاصاتها الخاصة التي تلوح إلى عالمها الذاتي، الذي يرتهن على الذوق في اكتشافه للوجود، قبالة العجائبية التي تتخذ من العقل الفنتازيّ، والخيال التغريبي، مسلكًا في صنع الوجود.
• ناي القحط
(أنصت إلى الناي يحكي حكايته.. منذ قطعت من الغاب والرجال والنساء لأنيني يبكون. أريد صدرًا مزِقًا برّحه الفراق لأبوح له بألم الاشتياق) جلال الدين الرومي.
في ناي القحط، سريعًا ما يتمظهر لك الفناء في فناء المكان المفتوح الذي ترصده القصة، بشكل ومغزى يلائم التطلّع الصوفيّ إلى الوجود من حيث الفضاء اللامتناهي الذي يخرج عن سلطة القيود، ومن حيث الخلاء الذي يلمز إلى الخلوة الصوفية بمعنييها الظاهر والباطن، فهي اعتزال مكاني، واندماج وجداني يتناغم فيه السالك مع الذكر لتزكية النفس وتطهيرها من جهة، وتنمية الحِسّ الروحي للترقي في معارج القرب من جهة أخرى. فصالح الذي يرفض الانصياع لحدود المكان وسلطته، وينشغل بتلك البقعة في السماء التي لا يعرف ماهيتها سواه، يبدو وكأنَّه المريد الذي بلغ مقام الجذبة وتجلياته " صالح غريب الأطوار... يسير كأي أبله حاملًا العصا القصيرة، يخبطها في الأرض في ضربات محدودة، ثم يرفعها ويقول أشياء لا تفهمها ". رية الحائرة في سلوك صالح الذي بدا فيه هائمًا وزاهدًا، لم تكن ارتقت لعالم الذوق الذي يفسّر أحوال صالح، لذا ظلّت لغته كثيرة التعقيد، تصاحبها رمزية تقتل الشغف بينهما. "منذ اليوم الأول قلت لكِ خلقت لكي أسير" تصريح لم تفهمه رية التي ترى الوجود ساكنًا، وتبحث عن بيت وسقف ومرآة وزوج بلا خراف. فالحراك من وجهة نظر صالح حتمية كونية عبّر عنه ابن عربي في قوله (حركة العالم دائمة لا نهاية لها). وأضاف:( أكثر الخلق لا يشعرون بحركة العالم) لأنَّه متحركٌ بكليته. وهنا تقف رية التي لم تر غير الثبات لأنَّ ( المشهود من البعيد إلى القريب على حاله ) كما يصف ابن عربي أيضًا. فالسير مستمرٌ دون انقطاع، ما دام الوصل متعذرًا بشكله النهائي، وما دام الوجود لا متناه في تلك الحضرة التي يتماهى بها صالح.
تستمر الإحالات الصوفية في القصة، وتتصدر العصا (عصا صالح) المشهد الذي يومئ إلى المُتلقي بضرورة التبصّر والتوقف في حالات كثيرة، لتفسيخ الرمز، وإعادة صياغة العلاقة بين الدال والمدلول، بما يخدم أغراض التصوف. فالعصا إحالة رئيسية تستدعي إلى الذهن حضورًا خاصًّا يتعلق بالوجدان الصوفي، أو لنقل بالثيوصوفيا التي ترتبط بالأديان ومورثها الشرعي والأدبي. وهنا تبرز قيمة العصا من حيث هي مفهوم يتجانس مع اللوغس، والكلمة الفاعلة، والروح القدسيّة التي في وسعها أن تشقّ الصخر ليفجر منه الماء. ولعلَّ التناص في القصة يظهر بشكل واضح لا يقبل الالتباس فيما يتعلق بعصا صالح التي ورثتها رية، وعصا موسى التي فجرت ينابيع الماء من الصخر، مع فارق الكرامات المتعلقة بالأولياء، والمعجزات المتعلقة بالأنبياء. وهذا يعيدنا إلى أصل المرجعيات الدينية التي استندت عليها الصوفية، واتكأت عليها عقيدتها. فالعصا إذن خلافًا عن وظائفها المادية تحتمل وظائف رمزية تشير إلى الحكم، والسلطة الدنيوية والدينية.
" يجلس على طرف صخرة، وترتمي رية على الطرف الآخر.. تتأمل في السماء، تلاحقه ببصرها، تحاول أن تجد النقطة التي ترتكز عليها عيونه.. تهمس باسم صالح ولا يرد، ترفع صوتها قليلًا، تقترب، تنقر بأطراف أصابعها كتفه، ولا يرد... احتملت حالاته الغريبة، سرحانه الأبدي في الصفحة الزرقاء، خرافه التي تتناغم مع أحاسيسه وحركاته ". الأحوال التي يعيشها صالح تخفى على رية، وسلوكه الغريب من وجهة نظرها، لا يبرره إلا الانشغال الذي يعيشه المريد، السالك في الوجد والهيام الذي يتبصّره القلب، في الحضرات التي من شأنها ( دوام النظر وإلقاء السمع، والتوطين لما أراد من الحكم ) إنَّه الانشغال والتفاني وحضور القلب بدلالة اليقين، والتجرد من الحواس التي من شأنها حجب الغيبة.
تبلغ الشطحات الصوفية أوجها في نهاية القصة، وتتجلّى ملامحها لتفصح عن ذاتها في ارتباطها بالناي والرقص؛ وجهيّ المولوية، حيث الناي الذي يأخذ صداه في الفكر الصوفي ما يأخذ من محاكات للخلق، وتحيين لفعله. فالنفخ في الناي ما هو إلا إعادة إنتاج للوجود، من وجهة نظر الصوفية، فبالنفخ استوت سائر الأعيان الثابتة التي منها الناي، لتكون مجالي الحق. علاوةً على ذلك فإّن للناي قدرته العالية في توصيف ألم الانفصال، واستنهاض الوجد في النفس، لتتجرد من ماديتها، وتدخل في مساقاتها الروحانية التي من شأنها إضاءة الطريق إلى الحق، ورأب الفتق بين الخالق والمخلوق.
تستمر الشطحات الصوفية بالتفلّت بين حين وآخر، لتمسك بالنصِّ في قالبه الصوفي، وجوهره الروحاني، وتقود القارئ بتلك القرائن الخاصة بالفقه الصوفي، التي توجّه الذهن إلى مراهنة النص على غيبياته التي تنبثق من اصطلاحات ليست معممة في غير حقلها الصوفي، فالأربعينية أو الأربعين يومًا التي قضتها رية تنظر إلى السماء التي انبثقت فيها الخيام، يترتب عليها ما يترتب من استدعاء للوجدان الصوفي الذي يولي الأربعين اهتمامًا خاصًّا، ينفرد به الموقف الصوفي الذي ترسخت فيه أربعينية موسى، فصارت مدة الخلوة التي يقضيها السالك بين الأذكار لغرض الوصل وبلوغ مقامات العرفان. تلك التي تحورت لتصبح الأربعين درجة التي تفصل بين الخالق والمخلوق، والأربعين وترًا في آلة الوجود كما يصف التبريزي، أو كما يصرح في مفهومه عن الوعي الذي جعله أربع مراحل، في كل مرحلة منها عشر درجات. ولعلّ في ذلك أيضًا صدى الحديث الذي يصف الإخلاص الذي منه تنبثق الحكمة، في نصِّه (ما أخلص عبد لله أربعين صباحًا إلا وجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه). ومن الإشارات الصوفية أيضًا في القصة ما تنطوي عليه الخيام من اعتبارات خاصة تتعلق بالصوفية، فهي بلا شك من لزوميات القوم في التعبد والخلوة والانقطاع لله بغية التقرب منه بتدريب النفس، وترويضها على الزهد الذي من شأنه الارتقاء بالروح والتخلي الجزئي عن الجسد. " انتظرت رية على جلستها تلك أربعين ليلة.. نظرت في السماء لمرة أخيرة، ارتسمت في السماء خيام كثيرة ووجوه يتوسطها وجه أشقر يصب الشاي..".
بَنت القاصة حكايتها بأسلوبين دلاليين في السرد؛ أسلوب التحقيق والتوثيق، باستخدامها العتبة النصية (حدثني فقال) تلك التي تأخذ بالنقل والسند، مما يمنح القصة فضاء زمنيًّا ومكانيًّا، يوحي إلى الواقعية والثبوت، أخذت فيه الخاتمة شكلاً متوقعًا، يميل إلى المألوف. وأسلوب يفيد التشكيك والريبة، يبرئ ذمة السارد من السّردية، باستخدامها (زعموا) ذات البعد الدلالي الذي ينحو إلى فتح النص على فضاءات مجردة، تأخذ شكل الإطلاق لا الحدودية، يكتسب فيها النص صبغة خالدة، بتحييده لعنصري الزمان والمكان؛ مما منح النص هذه المرونة التي تلائم واقع الحال العجائبي والمُناخ السحري، والمسرح الخيالي الذي تدور عليه الأحداث. ولعلَّ في هذه المراوحة السردية بين فضائين؛ يقينيّ ومتشكك، مُلائَمة للحالة الصوفية، التي نلمس وجدانها في خاتمة القصة التي بدت غائبة، أو مفتوحة على التأويل. فصالح ظلَّ يختفي تدريجيًّا حتى حلّت في صورته رية، التي أخذت تسير على نهجه، وكأنَّه الشيخ الذي أخذ عنه مريده السّر، ليختفي بعد ذلك في سياق يسوق الذهن إلى سياق ( الإمام والغَيبة ).
• غيمةٌ يتدلى منها حبلٌ سميك.
(فاعلم أنك خيال، وجميع ما تدركه مما تقول فيه ليس أنا خيال، فالوجود كله خيال) محيي الدين بن عربي.
"سيقطع رأسي بعد ثلاثة أيام" الجملة (الإعلان) التي أخذت شكل الترويج، وتكررت بشكل منتظم ومتعمّد يخلق إيقاعًا خاصًّا، يناسب الذائقة الصوفية وحيثيات التدوير الذي يتيح للقصة بشكل أو آخر أن تصّرح بتوجهها، فلا يكاد أن ينفلت القارئ من أصدائها الخاصة، حتى تعود من جديد، وتدفعه إلى التأمل في شكلها، وفي مضمونها الذي يوعز للذهن بالانفتاح على أسرارها، وما تنطوي عليه من دلالات. فالثلاثة أيام تتقاطع مع الاستتابة والوعيد، والتلقين أو العهد الذي يقتضي أن يصوم المريد ثلاثة أيام، بين يدي شيخه الذي يمثل أهل السلسلة، ليصبح بصيرته التي من خلالها ينتقل إلى عالم الكشف، وتمام السعادة الأبدية، والسيادة السرمدية.
والخلوة عند بعضهم ثلاثة أيام، ينقطع المريد فيها عن الدنيا، ويتفرغ للعبادة بقلب تائق، فهي بادئة الحياة الصوفية التي تتدرج حتى تنتهي بالفتوح، والفناء في كلية الوجود المطلق ( قال آيتك ألا تكلّم الناسَ ثلاثَ ليالٍ سويّا).
وليس بعيدًا عن ذلك إن أردنا الغوص والتوغل إلى حيث التفاصيل الدقيقة والقراءة المتأنية إن جاز التعبير، ما يحمله الرقم ثلاث من رمزيات كثيرة تتعلق بالوجدان الصوفي، ذلك أنّ التصوف أحد مقامات الدين الثلاث، والتوبة عندهم لا تصح إلا بثلاث، والقلب أيضًا إمام الأثافي الثلاث، اللذين هم أبدال الخلفاء الراشدين.
من الإرهاصات الصوفية في النص أيضًا، ذلك التجانس والتآنس المُعلن في الكلام مع القطة، الذي يفصح عن حوارية تتوافق مع الفلسفة الصوفية، التي توغل في رصدها للمكاشفات والمخاطبات السماعية والمشاهدات البصرية التي تندرج في مقام الكشف، والعلم اللدنّي الذي يتضمن الإلهام و الإيحاء، الذي لا يقف عند حدود البشر، بل يختصُّ بكل ما هو مخلوق ( وأوحى ربك إلى النحل) ومنه أيضًا ( قالت نملة يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم...). فإذا كان الوحيُّ مختصًا بالأنبياء، فالإيحاء أو الإلهام ليس مخصصًا، بل معممًا لكل الأعيان التي أراد الله لها أن تكون مجالي الحق. وهنا يبرز مصطلح الكرامات التي يختص بها الله أهل الحق، الذي يرادف في مضمونه الوحي الذي اختصّ به الله الأنبياء. فالإجماعُ قائمٌ على انقطاع الوحي، إلا أنَّ الكرامات متصلة دون انقطاع، لكنَّها منحصرة في تمام الإنسان وكماله من المنظور الصوفي، الذي يتحقق في القطب.
ومن مكاشفات المكاشفة الصوفية في النص، مصطلح (التقية) الذي يندر وجوده خارج المعجم الصوفي. ذلك أنّ الاعتقاد الصوفيّ يدعو إلى التقية التي من شأنها الحذر وكتمان الأسرار والغيرة عليها في غير أهلها. والتقية توجيه قرآني، استشفته الصوفية من تأويل الآية ( يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) ومنها استندت الصوفية على الكتمان، ونحى خطابها إلى الرمزية والغموض الذي لا يكاد أن يفارق فلسفتها ونظرتها وأدبياتها.
لا تكاد تتمايز الأحداث في القصة حتى تندمج من جديد، وتنصهر في قوام يشبه الأحلام، من حيث هي نسيج محكم يتمظهر في عالم الخيال. وكأنَّها إشارة تحيل إلى مفهوم الخيال في الوجدان الصوفي، من حيث هو عالم برزخي، ومستوى ثالث يتوسط مستويين ويفصل بينهما؛ الوجود والعدم (إن قلت ما البرزخ، قلنا عالم الخيال). فالخيال هو(عالم الأحلام حيث كل شيء لا يزال أصليًّا مثل الشبح الذي لا يكاد لمسه، ولا يمكن الوصول إليه) والخيال أيضًا عالم الرموز والدلالات، ومنطقة وجودية تتحد فيها الأرواح الحسية مع المعاني المجردة، وتتخذ شكل الأجساد.
لا تخفي القصة ميولها الهيولية، وتطلعاتها إلى المناورة بين الجوهر والصورة، لكسب الكثير من المرونة التي تنجز الرؤية الصوفية ذات الاتساع اللامتناهي للتصورات الممكنة واللاممكنة في عالم بلا أطر يتشكل في دوائر لا تحصى، تتداخل وتنفصل و تتصل في جوهرها وظاهرها، وكأنَّها الدوائر على سطح الماء الذي حُرِّكت سواكنه أو بُعث من ركوده، ليتجلى حراكًا منتظمًا في نمط سلطويّ يتمثل بالدائرة. وعلى هذا قام بناء القصة الذي أخذ شكل الدائرة التي في دواخلها دوائر شتى، فالأحداث بدت على هيئة حلقات متماسكة في تكوينها داخل حلقة أكبر انتهت من حيث ابتدأت، وكأنَّها الرقصة الصوفية التي يأخذ فيها الحراك شكل الالتفاف على الذات، كما في الرقص المولويّ الذي يُعبّر عن تدفق الوجود وتجليات حراكه من منظور الدائرة والنقطة (الدائرة مطلقة مرتبطة بالنقطة، النقطة مطلقة ليست مرتبطة بالدائرة، نقطة الدائرة مرتبطة بالدائرة).
• ظلالُ الحلّاج في القصة.
(اقتلوني يا ثقاتي إنّ في قتلي حياتي).
الغيمة الرحمة، والحبل الوسيلة والصلة، والرأس المقطوع قربان الحق، وانفراجات الأبد والخلود. أبدت القصة انزياحات كثيرة ترصد فيها ظلال الحلاج، بتسويقها للكثير من الحيثيات والملابسات التي مهدت لظهوره من خلال ما وافق سيرته، من حيث الخروج عن النص، والتمرد واللامبالاة التي أبداها البطل، بل والتجاوز إلى أبعد من ذلك، حيث السخرية والتهكم والانشغال بالخلاص، في ظلِّ ما يبصره في عالمه الخارجي، وما يتبصره في عالمه الداخلي من جلاء للجماليات التي تستوجب التضحية بالرأس، الذي ظلَّ منشغلًا في تلك الفوضى (أيّها الناس اعلموا أنَّ الله أباح لكم دمي فاقتلوني تؤجروا وأستريح). لقد صرحت القصة بولادة الحلاج في ظلّ البطل الذي بدا عالِمًا وصاحب حجة " تحسست ميداليتي الذهبية المخبأة في جيب بنطالي، كنت نلتها بعد فوزي بمناظرة عظيمة" فالحلاج هو صاحب تلك المناظرات العظيمة التي دحر بها خصومه، مما أوغر عليه الصدور، خاصةً من علماء عصره الذين تملكهم الحسد وأباحوا دمه، فهو الذي جاء (ليضيف جديدًا إلى التصوف في صلته بالله وفي صلته بالحياة، جاء ليكون كتابًا وأمة، وجاء ليقيم منهجًا ويرسم طريقًا).
من تلك الحيثيات التي رصدتها القصة أيضًا، والتلميحات الواضحة التي تؤجج في الذهن أصداء الحلاج، المشهد المكاني الذي تدور عليه الأحداث، فقد كانت الأسواق جزءًا رئيسًا من مسرحها، حيث الباعة والمارة والمتسولون، وغيرهم ممن يسهم في بنية المكان، وأجوائه. وليس بعيدًا عن ذلك ما طرحته القصة من سلوكيات وأحوال لازمت البطل، تتماثل مع حالة الحلاج، فالنقد اللاذع والترحال من أشكال التلميح التي تومئ للذهن بالانفتاح على شخص الحلاج الذي كان في ( تجواله في البلاد، وتطوافه في الأسواق، وفي لقائه بالناس ينتقد الأوضاع السائدة). ومما لا شك فيه أنَّ القصة أيضًا لامست ذلك التفاوت الطبقي، والظلم الاجتماعي الذي أسهم في تأجيج المشهد؛ لتؤكد على ضرورة النظر في الحلاج الذي كان ( يعمل كي يزيل من شعوب الدولة ما بينها من نفور اجتماعي، ويحطم ما بين الطبقات من تفاوت مادي).
لقد بعثت القصة في شخص البطل روح الحلاج، من خلال ملامستها للكثير من أحواله الظاهرية والباطنية، فالزهد بالتجرد من الدنيا، وظاهر الجنون، والضحك الذي يوجب الحذر، كما ورد في القصة، والحبس الانفرادي والمحكمة وميزان العدالة، والتواصل مع المخلوقات كالقطة، والازدراء الذي يبديه الشهود، وحالة الاتصال مع المحيط بعد قطع الرأس، تلك التي لا يمكن لها أن تكون إلا في سياق صوفي، كلها إحالات ومفاتيح سرية تفتح أبوابًا مغلقة في بنيان القصة، تصتصرخ الحلاج ليبرز في تلك المناورات السردية، خاصةً تلك الإشارة الصريحة إلى زمنين؛ زمن يُركل فيه بطل القصة الذي ما انفك يخبرهم عن وقت قطع رأسه، وعدم مبالاتهم بحديثه، وزمن ثان يتعاطف فيه الشهود مع صاحب الرأس المقطوع، ويهادونه ويربتون على كتفيه اللذين ظلا بلا رأس،. ولعلَّ هذا ينسجم مع طور الاعتذار، ومحاولة الإنصاف وحالة الندم الذي أبداه كثيرون تُجاه الحلاج من بعده. فقد روي أنَّ الجيلاني قال فيه (عثر الحلاج ولم يكن في زمانه من يأخذ بيده، ولو أدركته لأخذت بيده) وفي معرض دفاع النصربادي عنه قال:( إن كان بعد الصَّديقين موحد فهو الحلاج )
• ختامًا:
(الضابط لهذه الحضرة الحد المقوم لذات كل شيء محدود، لكنَّه من المحدود ما يعلم حده، وما لا يعلم).
إذا كانت حقيقة هذا العالم مرتبطة بالله عند الصوفية، فهي حقيقة لا متناهية، ولا يمكن تأويلها بشكل نهائي، أو إدراكها على نحو كامل، ذلك أنَّ الإنسان يظلُّ يترقى من مقام إلى مقام، ومن حال إلى حال، مما يُبقى العروج مستمرًا من الباطن والظاهر، والوصول لا حقيقة له، أو كما يصوره ابن الفارض ( الوجد باق والوصال مماطلي). لقد افتتحت الكاتبة مجموعتها بالعتبة النصية ( إنَّه مجنون ومارق وغير قابل للتأويل هذا العالم ) وعلى ذلك يبدو القصد متآلفًا من النظرة اللانهائية للعالم من منظور صوفي، ويبدو السبيل الوحيد للتعايش مع هذا الإطلاق القِلق، والاطمئنان للوجود بصفته متبدلًا، هو الاعتراف بالعجز، والركون إلى الكشف؛ الكرامة الإلهية التي يختصُّ بها الله عبده السالك، والاكتفاء بالقدر الممكن من المعرفة التي تتحصل وفقًا للتلقّي ذي القدر المعلوم. وتبدو الحوارية واضحة مع النفس والعالم والعجز، فيما تقدمه الكاتبة من تعبير يُستخلص من عتبتها النّصية، ومن الأجواء العجائبية التي كانت ثيمة رئيسة في قصص المجموعة كلها.
ليس الطرح الصوفي في أدب الكاتبة جديدًا بالنظر إلى إرثها الكتابيّ، من أطروحتها الأكاديميّة (الأسلوبيّة والصوفيّة: دراسة في شعر الحسين بن منصور الحلاج) إلى قصتها "شغف" من مجموعتها القصصية " سمّه المفتاح إن شئت" التي أبدت انغماسًا معلنًا في الصوفية، وتناصًا صريحًا مع أدبياتها وشخوصها. وقد أعاننا هذا الجانب في هذه القراءة التي حاولت أن تنظر إلى النصين من قرائن داخلية تختصُّ بالنصِّ ذاته، وأخرى خارجية تختصُّ بموروث الكاتبة في أعمالها التي تعلقت بالصّوفية، وتشرّبت كثيرًا من طروحاتها ووجدانها.