د. أشرف حزين
أكاديمي وباحث أردني
يرى خليفات أنَّ اللغة والفكر وجهان لعملة واحدة، ومن الصعب تخيل أحدهما دون الآخر. فمن المستحيل قيام فكر بدون لغة. إنَّ غاية الفكر، أي فكر، هي إنتاج المعنى، والمعنى من السمات الأساسية للوجود الإنسانيّ، ولا يمكن للإنسان أن يعيش في هذا الوجود بلا معنى. وبما أنَّ الوجود الذي يحيط بالإنسان هو وجود أعجم لا معنى فيه، فإنَّ عبء إنتاج المعنى يقع على عاتق الموجود الإنساني. وقد اعتبر الشاعر "لامارتين" أنَّ الإنسان قد وجد لكي يلد المعاني كما ينبت الشجر الثمر. وهكذا فإنَّ اللغة هي الشكل الظاهر للمعنى، بينما يكون جوهر المعنى مدفون في أعماقنا.
هل الصوت والمعنى متطابقان؟ بمعنى هل ثمة علاقة سببية بين الصوت المعبر عن الكلمة ومعناها؟. يرى خليفات أنَّ لا علاقة سببية بينهما، بل أنَّ العلاقة بينهما اتفاقية، يتفق عليها أفراد مجموعة بشرية وينقلونها للأجيال اللاحقة. وهنا يتفق خليفات مع نظرية "فرديناند دي سوسير" في اللغة، والذي اعتبر أنَّ اختيار العلامة اللغوية هو اختيارٌ اعتباطيٌّ. ويرى خليفات في هذه الخاصية ميزةً عظيمةً تمكّن اللغة من التطوّر والنمو، فلو كانت العلاقة بين المفردة اللغوية والدلالة سببية لاتخذت شكلها النهائي منذ البداية، ولما كان بالإمكان تغيير هذه العلاقة وتجاوزها. فما دامت علاقة اتفاقية محضة وتخضع لأعراف مجتمعية، فإنَّ ثمة إمكانية لتطويرها وفق اتفاقات جديدة. وفق هذا التصوّر، فإنَّ اللغة والفكر يرتبطان بعلاقة تلازميّة نامية ومتصاعدة. إنَّ الفكر الذي لا يمكن التعبير عنه باللغة هو ظلالٌ وهواجس لا قيمة لها، والمفردات اللغوية الخالية من الفكر هي مفردات ميتة لا حياة فيها.
يتساءل خليفات: هل يوجد فكرٌ مجردٌ عارٍ عن اللغة؟ هل الأفكار تولد داخل العقل الإنسانيّ ثم تبحث لها عن قالب لغوي تتعين من خلاله؟. يؤكد خليفات أنَّ هذه الرؤية التقليدية للغة لم تعد مقبولة بعد الثورة الألسنية. إنَّ الأفكار تظهر منذ البداية متضمنة في الألفاظ. يشير "ميرلو بونتي" في هذا الصدد إلى أنَّ الخطيب لا يفكّر قبل أن يتكلم، ولا يفكّر بينما هو يتكلم، بل إنَّ كلامه هو عينه التفكير.
يشير خليفات في سياق حديثة عن فلسفة "فتجنشتين" أنَّ الميتافيزيقا تنشأ بسبب سوء استخدام اللغة. إنَّ حدود اللغة هي حدود العالم الذي تعيش فيه، وعندما نستعمل اللغة استعمالاً مقنناً وصحيحاً، فإنَّ اللغة تبقى معبرة عن وقائع حقيقية لها رصيد في الواقع، ولكنَّنا لا نتقيد بحدود اللغة، بل أنَّنا نصلُّ للتخوم ثم نخرج خارج حدود اللغة؛ فنخلق عوالم تخيلية لغوية لا رصيد لها من الواقع. هكذا تنشأ الميتافيزيقا بسبب انزلاقنا خارج اللغة الواقعية. إنَّ الاستعارات والمجازات تخلق عوالم غير حقيقية، ونحن نعلم في البداية أنَّها عوالم غير حقيقية، ولكنَّنا مع الزمن ننسى ذلك وتتكرس شيئاً فشيئاً وتصبح جزءاً من وجودنا. يشير "جاك دريدا" أنَّ الميتافيزيقي يقبع في قلب الاستعاريّ. إنَّ المجاز والاستعارة مناسبتان لأغراض التعبير الشعري، شريطة أن لا ننسى أنَّ العوالم الشعرية هي عوالم داخل اللغة فقط ولا يوجد مقابل لها في الواقع، وهي أشبه بالعملة الورقية التي لا تملك تغطية.
يشير خليفات إلى أنَّ علم الكلام الإسلاميّ قد ناقش هذه القضية من خلال الجدل الذي دار بين المعتزلة والأشاعرة حول طبيعة الكلام الإلهي. وبالرغم من أنَّ النقاشات اتّخذت في البداية طابعاً دينيّاً، إلا أنَّها تحوّلت لاحقاً لنقاشات حول طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر من منظور فلسفي. تبنّى المعتزلة رؤية تقوم على التوحيد بين اللغة والفكر، واعتبرتهما شيئاً واحداً بسيطاً لا يقبل القسمة. فالكلام برأيهم هو فكر منطوق، وكلُّ الفعاليات العقلية هي فعاليات لغوية. وبناءً على هذا التصوّر، فإنَّ من المستحيل، برأي المعتزلة، أن يوجد فكر سابق على اللغة. بالمقابل، تبنّى الأشاعرة رؤية مختلفة تقوم على التمييز بين اللغة والفكر، واستدلوا على ذلك من خلال ملاحظة أنَّ المعنى الواحد يمكن التعبير عنه بألفاظ متعددة. لا ينكر المعتزلة أنَّ جُلَّ الأفكار مصوغةٌ على شكل ألفاظ، ولكن ثمة- أيضاً- أفكار عارية لم ترتد ثوب اللفظ، وهي لم تزل المعاني النفسية التي لا وجود لها إلا في مخيلتنا.
يشير خليفات إلى أنَّ نشأة النحو العربي كانت مرتبطة بالفقه. ولهذا السبب؛ فإنَّ النحو كان هو المعوّل عليه في فهم النص القرآني وتفسيره. وقد كان المذهب النحوي للأصوليين يستند إلى تحديد المعنى استناداً للنحو. وهذا يعني بعبارة أوضح أنَّ قواعد النحو هي علل أو أسباب للمعاني. ولهذا السبب، فإنَّ الأصوليين رفضوا منهج القياس في القضايا الفقهية، لأنَّ القياس يتجاهل مبادئ النحو ويستند للعلة العقليّة. على نحو مغاير، دشن "الخليل" تياراً جديداً قائماً على أولوية المعنى، وأنَّ المعنى هو الذي يحدّد النحو وليس العكس. وقد توصل "الخليل" لهذا الاستنتاج من خلال دراسته المعمقة للغة العربية.
ينحاز خليفات لرأي "السيرافي" فيما يتعلق بالسجال الذي حصل حول صلاحية المنطق الأرسطي للنظر في قواعد الدلالة في النصوص العربية. وقد تجسّد هذا السجال في المناظرة الكبرى التي حصلت بين كبير المناطقة "متي بن يونس"، الذي كان يؤيد استعمال المنطق الأرسطي في فهم النصوص الدينية وتفسيرها، و"السيرافي" الذي كان يرى أنَّ المنطق الأرسطي هو منطق اللغة اليونانية، وهو ليس منطقاً كونيّاً يصلح لكل اللغات. كان "السيرافي" يرى أنَّ قواعد النحو العربي هي المعوّل عليها في سبر أغوار النصوص. ويشير "السيرافي" أنَّ الحكماء قبل "أرسطو" وبعده استدلوا على الحقائق دون منطقه، ما يعني أنَّ من الممكن الاستغناء عن المنطق واستحالة الاستغناء عن قواعد النحو التي بها يتحدّد الكلام. وبالرغم من قناعة خليفات بعدم كونية المنطق الأرسطي، إلا أنَّه لا يذهب لنهاية الشوط مع "السيرافي" الذي كان يرى أنَّ المنطق برمته صناعة فاسدة.
لم يكن "السيرافي" متفرداً في معاداته للمنطق الأرسطي، بل أن خليفات يورد العديد من أعلام الحضارة العربية الإسلامية ممن كان لهم تحفظاً حيال توظيف المنطق في الأمور الفقهية، وأهمهم الإمام الشافعي. يقول الإمام الشافعي: ما جهل الناس ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطوطاليس. والشافعي يشير هنا إلى الغلو الذي حصل في عهد المأمون حول قضايا مرتبطة بالعقيدة مثل قضية خلق القرآن ونفي رؤية الله. ويرى الشافعي أنَّ منشأ كل هذه البدع هو الجهل باللغة العربية وبأسرار البلاغة المبثوثة فيها.
في خضم السجال السابق بين النحويين والمناطقة، تبرز إشكالية لا يمكن تجاهلها، وهي الإشكالية المرتبطة بأمانة الترجمة من اليونانية ودقتها. كيف تأتى للمترجمين نقل المعاني من اللغة اليونانية للغة العربية بالرغم مما بينهما من اختلاف كبير؟ فلا يوجد لغة تطابق لغة أخرى من جميع الوجوه. وقد اتّهم "السيرافي" "متي بن يونس" بالجهل باللغتين اليونانية والعربية. إنَّ مختلف الترجمات التي ظهرت باللغة العربية لكتاب أرسطو في المنطق "الأورغانون" كانت ترجمات رديئة برأي السيرافي. ويشير خليفات إلى حقيقة أنَّ الترجمات الحديثة للأورغانون قد أثبتت صوابية ما ذهب إليه السيرافي حول رداءة الترجمات في العصر العباسي.