مجدي ممدوح
فلسفةُ التاريخ بالنسبة للمفكر خليفات هي فلسفة الحضارة والثقافة والمدنية معًا. وبهذا المعنى، فإنَّ أولى فلسفات التاريخ وأكثرها بدائيّة هي الفلسفات اللاهوتية، حيث تكون حركة التاريخ عبارة عن تجليات لإرادة الإله الواحد أو الآلهة المتعددة. مثال ذلك أنَّ المصري القديم كان يعتقد أنَّ الملك هو الابن الجسدي لإله الشمس "رع"، ما يجعل مصر تصبح مشمولة برعاية "رع" وعدله. وكذا كان يعتقد البابليون أنَّ الأرض تُدار من قبل برلمان من الآلهة.
مع انحسار الحقبة اللاهوتيّة، انبثق التصوّر المثالي للتاريخ، والذي يقوم على تفسير تطوّر التاريخ من خلال تطور الطبائع والأفكار والآراء. وهذا يستتبع القول إنَّ تطوّر الرأي العام هو السببُ الأساسُ والعميق لحركة التاريخ. وهذا النزوع نحو تمجيد العقل ودوره المركزي نجده واضحًا لدى الفيلسوفين "هيجل" و"شيلنج". يعتقد خليفات أنَّ التصوّر المثالي للتاريخ فيه جزءٌ من الحقيقة، فلا خلاف حول حقيقة أنَّ الرأي هو الذي يحكم العالم، ولكنَّه يتساءل: هل أنَّ الرأي شيء مستقل أم يحكمه شيء آخر. إنَّ الرأي ليس فطريًّا بحسب الفلاسفة التجريبيين وعلى رأسهم "جون لوك" الذي أوضح أنَّ المبادئ والمفاهيم تُستمد جميعها من الواقع نفسه. فالآراء لا يمكن أن تتشكل إلا بما يصب بفائدة ومصلحة منتجي هذه الآراء.
يشير خليفات إلى أنَّ الانبثاق المفاجئ للثورة الفرنسية بوصفها حدثًا مفاجئًا خارج التنبؤات، وغير قابلة للتفسير وفق التصورين السابقين- اللاهوتي والمثالي، أدى لبروز التصوّر الحيوي للتاريخ. وقد كان "اشبنجلر" و"برجسون" من أبرز الممثلين لهذا التيار. يعتقد "اشبنجلر" أنَّ الحضارة كائنٌ عضويٌّ يمتلك كل صفات الكائن العضوي، ولكل حضارة طفولتها وشبابها ونضجها وشيخوختها، أو أنَّ لها ربيعها وصيفها وخريفها ثم أخيرًا شتاءها. ويشير "اشبنجلر" إلى أنَّ الحضارة تذوي وتموت بعد أن تكون قد حقّقت جميع ما بها من إمكانات على هيئة شعوب ولغات ومذاهب دينية وفنون وعلوم ودول. ويذهب "اشبنجلر" للقول إنَّ لكل حضارة شخصيتها وفرادتها التي تميزها وتعزلها عن الحضارات الأخرى، والحضارات برأيه تنشأ وتنمو باستقلالية تامة عن بعضها البعض، ولا يمكن لحضارة أن تؤثر بأخرى إلا فيما يتلاءم مع جوهرها. أمَّا "برجسون" فيعدُّ أكثر تفاءلًا، حيث يؤمن بتقدمية التاريخ. وحركة التاريخ عنده لا تحكمها قوانين حتمية، بل هي حركة حرة في جوهرها. يشير سحبان خليفات إلى أنَّ هذه التصوّرات الحيويّة قد انبثقت من نظرية داروين في التطوّر، ويرى أنَّها كانت أقرب لفلسفات العلم منها لفلسفات التاريخ. أمَّا تصورات "اشبنجلر" حول استقلالية الحضارات وانعزالها وصراعها، فإنَّ خليقات يرى أنَّ ظروف الصراع في الحرب العالمية هي التي قادت "اشبنجلر" إلى هذه الرؤية التشاؤمية. أمَّا تصورات "برجسون"، فإنَّ خليفات يرى أنَّها لم تكن علمية، لأنَّه لم يقدم تصورًا علميًّا حول انبثاق الحياة من المادة الجامدة.
أمَّا التيار الوضعي في فلسفة التاريخ، فإنَّ خليفات يشير إلى حقيقة أنَّ جذور هذا التيار نجدها في فلسفة أرسطو السياسية، والتي قرّر فيها أنَّ دستور بقاء أي نظام وعلته هو المساواة التامة بين المواطنين. وفيما يتعلق بالعصور الحديثة، فإنَّ أفكار "أوغست كونت" الوضعية قد مثلت تصورات هذا التيار خير تمثيل. يشير "كونت" إلى أن تطور التاريخ يمرُّ بمراحل ثلاث: اللاهوتية والميتافيزيقية والوضعية. والوضعية عند "كونت" مرتبطة ارتباطًا كاملًا بالعلم منهجًا وموضوعًا. وتصبُّ نظرية "أرنولد توينبي"، والقائمة على التحدّي والاستجابة، في هذا التيار الوضعي. يقدم خليفات شواهد عديدة لا تؤيد نظرية توينبي، فليس بالضرورة أنَّ الاستجابة للتحديات هي التي تقود حركة التاريخ، وليس بالضرورة أنَّه كلما زاد التحدي اشتد الحافز. لقد فشل إنسان أوروبا الشمالية في التحدي لظروف البيئة القاسية، وفشلت قرطاجنة في مواجهة التحدي القادم من روما. والتحدي الإيجابي برأي خليفات يجب أن يكون متناسبًا مع قدرات المجتمع وإلا تحوّل لكارثة حضارية.
التيار الخامس في فلسفة التاريخ يقوم على التصوّرات الاقتصادية، حيث يعتقد طيف واسع من الفلاسفة أنَّ العامل الاقتصادي هو المحرك لصيرورة التاريخ. ويعرض خليفات لثلاث رؤى هي الماركسية والخلدونية بالإضافة لتحليلات "سان سيمون". فقد أكّد ابن خلدون على أهمية الوقائع الاقتصادية والجغرافية. وبالرغم من إدراجه للعوامل النفسية، إلا أنَّه كان يرى أنَّها نتيجة أو انعكاس للواقع الاقتصادي والجغرافي. والتاريخ برأي ابن خلدون لا يتحرك إلا تحت تأثير الحاجة الإنسانية لتلبية الاحتياجات والخيرات المادية، وأنَّ تشكّل المجتمعات قد جاء لخدمة توفير مستلزمات الحياة. ويشير خليفات أنَّ هذا التحليل الخلدوني سيكون في قلب التصورات الماركسية وتحليلات "سان سيمون".
يشير "سان سيمون" إلى أنَّ استشفاف المستقبل لا يتحقّق إلا من خلال معرفة التراكم التاريخي لنضالات طبقة الصناعيين والتي هي مزيج من البرجوازيين والفلاحين والعمال، ضد الطبقة الارستقراطية المتحالفة مع طبقة الإكليروس. ومن الواضح أنَّ تنظيرات "سان سيمون" مستوحاة من الثورة الفرنسية التي أسقط فيها الشعب بفئاته الثلاث الحكم الملكي المطلق.
على النقيض من التيار المثالي، يقرّر "ماركس" أنَّ وعي الناس ليس هو المحدّد لطبيعة معيشتهم، بل إنَّ معيشتهم هي التي تفرز وعيهم. وقد اعتبر "ماركس" أنَّ الجوانب السياسية والحقوقية هي عبارة عن بنى فوقية، في حين تتشكل البنى التحتية من البناء الاقتصادي. وقد شيّد ماركس فلسفته حول التاريخ من خلال المادية التاريخية والمادية الجدلية. تشير المادية التاريخية أنَّ الحياة المادية هي الدعامة الأولى لكل مجتمع، وأنَّ الحياة الفكرية هي مفرز من مفرزات الحياة الفكرية. ولكن لا بدَّ من الإشارة إلى حقيقة أنَّ "ماركس" لم يقرر أنَّ شروط الحياة المادية هي الوحيدة التي تملك التأثير، بل أنَّه أشار إلى أنَّ هذه الشروط هي الأشد أهمية ولها الأولوية القصوى في التحليل. ثمة إشارات في كتابات "ماركس" تشير إلى أهمية الفكر في تبديل الواقع.
يعتبر صراع الطبقات ركنًا أساسيًّا في بناء المادية التاريخية، وهو صراع بين القوى المستغِلة والقوى المستغَلة. كما أنَّ فائض القيمة يعد هو الآخر ركنًا أساسيًّا في المادية التاريخية. وتنصُّ نظرية فائض القيمة إلى وجود فرق بين الأجر المدفوع للعامل وقيمة الشيء المصنوع. وهذا الفرق أو فائض القيمة يستأثر به صاحب رأس المال كشكل بشع من أشكال الاستغلال. ويستنتج "ماركس" من ذلك أنَّ النظام الرأسمالي هو نظام استغلالي يعلي من قيمة رأس المال ويجعلها فوق سائر القيم الإنسانية. يشير خليفات إلى وجود إخفاقات متعددة في التصوّر الماركسي للتاريخ. مثال ذلك إهمال الماركسية للعامل القومي في الصراع، حيث أنَّ طبقة العمال ربما لا تصطف مع طبقات العمال من شعوب أخرى، وربما يفضلون التحالف مع صاحب رأس المال المنتمي لقومتهم ضد الدخيل الأجنبي. ويشير خليفات أيضًا إلى حقيقة أنَّ "ماركس" بنى تصوّره المادي التاريخي انطلاقًا من ظروف المجتمع الرأسمالي الغربي في القرن التاسع عشر، وهي ظروف ربما لا تنطبق على مجتمعات أخرى لا تعيش الصراع الطبقي.
خلاصة النظريات السابقة في فلسفات التاريخ برأي خليفات أنَّها تنقسم لفئتين: فئة تقول إنَّ الإنسان هو الذي يصنع حركة التاريخ، وفئة أخرى تقول إنَّ حركة التاريخ هي التي تصنع الإنسان. ويميل خليفات لتبني كل تصوّر علميّ يمنح الإنسان أملًا، ويستنكر كلَّ تصوّرٍ متشائمٍ ينظر للإنسان بكونه ألعوبةً بيد قوى غامضة لا حيلة له أمامها.