د. سهام الفريح
أكاديمية وباحثة كويتية
عاش العلَّامة الأسدُ حياةً حافلةً بالعطاء العلميّ والفكريّ، وهو من رُوّاد الحركة الفكريّة والثّقافيّة في وطنه الأردنّ، وقد خدم التَّعليم خِدمةً جليلةً، فقد أسَّس أوّل جامعةٍ في الأردنّ ورَأَسَها، وكان أوّل وزير للتّعليم العالي، ونال العديد من الجوائز بجدارةٍ، وأعلاها وسامُ الاستقلال من الدَّرجة الأولى.
ولد الأسدُ عام 1922، بمدينة العقبة في الأردنّ، لأبٍ أردنيٍّ وأمٍّ لبنانيّة، وعاش طفولته متنقِّلًا بين المدُن الأردنيّة الجنوبيّة، ولعل حياة البادية في طُفولتِه وصِباه غرست الكثير في وجدانه، فكانت المؤثِّر الأكبر في تعلُّقه بشعر ما قبل الإسلام، لذا خصَّ أهمّ نِتاجِه بالشِّعر في هذا العصر (مصادر الشِّعر الجاهليّ وقيمتها التّاريخيّة).
أمّا اهتمامه بالتعلُّم، فالفضلُ فيه يعود إلى والده الّذي دفعه إليه يافعًا، فكانت هدايا الأب لابنه دائمًا هي الكتب، وكان لهذه الرّعاية الخاصّة تأثيرٌ بالغٌ في تملُّك لغةٍ عاليَةٍ في مفرداتها، رفيعةٍ في صياغاتها.
عانى الأسد مطلع حياته، وكان لتلك المعاناة انعكاساتُها الإيجابيّة، فقد تُوفِّيت والدته سنة 1936، ولم تَمضِ ثلاثُ سنوات حتى وافتِ المنيّة والده، فعانى من ضِيق العيشِ في مراحل مبكِّرةٍ من حياته، واضطُرَّ للعمل في مراحله التّعليميّة الأولى، وكانت أقرب مهنةٍ لقدراته هي التّدريس، وقبلها عمل كاتبًا في ديوان قاضي القضاة في المحكمة الشّرعيّة.
ولعلّ التحاقه بالبعثة الدراسية في الكلّيّة العربيّة عام 1939، فتح له أبواب التّعلُّم والعمل، ومنحَتْهُ الأجواءُ الجديدةُ في القُدس فُرصةَ التَّعرُّف على الموروث الفكريّ والأدبيّ للأمم الأخرى، بجانب موروثه العربيّ الإسلاميّ، إضافةً إلى أنّ الدّراسة باللُّغة الإنجليزيّة أمدَّته أيضًا بأساليبَ جديدةٍ للتَّعلُّم.
كان الأسدُ متميِّزًا، ويحتلُّ المركز الأوّل بين أقرانه. ولم يستقرّ طويلًا في الأردنّ، إذ غادر إلى القاهرة لاستكمال دراسته بجامعة فؤاد الأوّل (القاهرة حاليًّا)، وكانت المدّةُ التي أمضاها فيها أزهى مراحل حياته العلميّة، لِما شهدَه من حياةٍ فكريّة زاهرةٍ في مصر حينَها، هيّأت له التّعرُّف على قاماتٍ فكريّةٍ وأدبيّةٍ من أمثال: طه حسين، وأمين الخولي، وشوقي ضيف، ومحمود محمّد شاكر. وقد تلقّى علومه على أيدي نفرٍ منهم، وارتادَ حلقاتهم الفكريّة الممتدّة التي مثّلت صراعاتِهم واختلافاتِهم في الفِكر. وقد تركت هذه الحقبةُ في الأسد أثرًا جليلًا، ومنحتْهُ خبراتٍ عاليةً، وأهّلهُ تميُّزه حينها لنَيل جائزة طه حسين عند تخرُّجه عام 1947.
لكنّ ضِيق ذات اليَد لازَمه، معَ ما كانَ عليه من ثراءٍ علميٍّ زاخرٍ، فعمل مترجمًا ومراسلًا لجريدة (الوحدة) التي كانت تصدر من القدس، وكانت له كتابات فيها.
وبعد تخرُّجه عاد إلى القدس ليعمل مدرِّسًا في المدرسة الإبراهيميّة، وبجانب ذلك عمل في الإعلام، وكان له برنامجٌ إذاعيٌّ في محطّة (الشّرق الأدنى) بعنوان (حديث الصّباح)، حتّى استيقظ العربُ يومًا من سنة 1948، على احتلال فلسطين العربيّة وتقسيمها، وبسبب هذا الاحتلال المشؤوم قامت الحربُ، وخيَّمَت الأحداثُ الجسيمة على جميع العرب، وكان الأسد قد تزوّج وأصبح ربَّ أُسرةٍ من زوجةٍ وطفلٍ، فانقطع عن العمل شُهورًا حتى تهيَّأ له العمل مُدَرِّسًا في المملكة اللِّيبيّة، فأنشأ حينَها مع زملاء مصريين أوّلَ مدرسةٍ ثانويّةٍ في العاصمة طرابلس. لكنّه آثرَ مواصلةَ تحصيله العلميّ، فسافرَ ثانيةً إلى القاهرة لاستكمال دراسته العُليا، والحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه في تخصُّص اللّغة العربيّة في الجامعة نفسها، فحصل على الماجستير عام 1951 برسالته (القيان والغناء في العصر الجاهلي)، وعلى الدّكتوراه عام 1955 بدرجة امتيازٍ مع مرتبة الشَّرف الأولى عن رسالته (مصادر الشّعر الجاهليّ وقيمتها التّاريخيّة). وكان الأسدُ أوّل دارسٍ أردنيٍّ يحصل على درجة الدّكتوراه في هذه الجامعة.
أمّا العروبة والإسلام، فلهما مفهوم متلاحمٌ في ذهنيّة الأسد، وقد نستدلُّ على هذا الأمر من كتابته المتّصلة بهذا الشّأن، فهو يؤكّد ذلك بقوله: "العروبة والإسلام أمران متلاحمان، حتى إنّهما يكادان يكونان أمرًا واحدًا". ويكمل قائلا: "ولا يجوز اصطناع هذه الخصومات المفتعلة بين الإسلام والعروبة، وأنا أعتقد أنّ كلّ مسلمٍ هو عربيّ، على الأقلّ من ناحية الثّقافة واللّغة، وأيّ مسلمٍ يَستهين بالعروبة يجرح إسلامَه في جانبٍ من الجوانب". وقد تجذَّرت هذه القناعاتُ في فكر الأسد؛ لأنّه يمتلك حسًّا عروبيًّا عميقًا، ونَقيًّا، بعيدًا عن الهوى، وتردفه معرفةٌ دقيقةٌ بتفاصيل العقيدة الإسلاميّة وتشريعاتها، كما جاء بها القرآن الكريم والسُّنّة الشّريفة، وإن دلّ هذا الأمر على شيء فهو يدلّ على صلابة انتمائه العَربيّ.
والأسدُ تتمثّل فيه أخلاق العلماء في الكتابة، وعلى عُلوّ شأنه بالعربيّة، لم يَتَعالَ على المتلقِّي، سواء أكان عالِمًا، أم فيلسوفًا، أم قارئًا عاديًّا. وهو بصفته هذه يذكِّرنا بأديب العربيّة الأوّل (الجاحظ)؛ يقترب من المتلقِّي حتّى تتغلغل مفاهيمه في ذهنيتّه بِيُسرٍ. وهكذا كان عالمنا الجليل الأسد، فتلك كانت السِّمة العامَّة في لغته وأسلوبه، وهي نابعةٌ من صفةٍ أخرى يتحلّى بها هي التَّواضُع الشّديد، فتجِدُه يتقبّل النَّقد حتَّى بعد بُلوغِه مكانةً علميَّة عاليةً، وحتَّى حين ينتَقِدُ عليه باحثٌ ناشئٌ. وهو في الوقت ذاته يقدِّم نقدَه للآخَرِ في منتهى اللّياقة والأدب، وبأسلوبٍ راقٍ، وعباراتٍ متَّزنة تجتَنِبُ الإساءة والتّجريح، وهذِه سِمَة الكبار مكانةً وعِلمًا.
وإن كنتُ لم أحظَ بشرف التَّلمذة للأسَد، فلقد نهَلْتُ من عِلمِه في مراحلي الأولى، عندما كنت أُعدّ رسالة الماجستير (الجواري والشِّعر في العصر العبَّاسيّ)، فكان لكتابه (القيان والغناء في العصر الجاهليّ) فوائدُ جمّة في إعداد رسالتي، وكذلك كتاب أستاذنا شوقي ضيف (الشِّعر والغناء في المدينة ومكّة لعصر بني أُميّة)، وبعد أن صدرت رسالتي فِي كتاب نُشِر في الكويت شرَّفني بمقالةٍ له عن كتابي، نشَرَها في مجلّة (البيان) الكويتيّة.
تُوفِّي الأسَد في 21 مايو 2015، ومَعَ رحيلهِ عن هذه الدُّنيا، فإنّه سيبقى حيًّا بمُنْجَزاته ونِتاجِه الفكريّ واللُّغويّ، وفي قوافل الأجيال التي تخرَّجتْ على يديه. رحمه الله، وجَعَله في عِليّين.