د. أمينة الحمد
كاتبة وناقدة سورية
تبدو قضيّة حرّيّة المرأة من القضايا التي تشغل الكاتبات النسويات بشكل أساسيّ وهذا ما وجدناه عند "غادة السمّان" في رواية "الرواية المستحيلة"، كما وجّهتها هذه القضيّة في رسم الملامح الفكريّة والنفسيّة لشخصيّاتها النِّسويّة وبعض شخصيّاتها الذكوريّة أيضًا. إنّ هذه القضيّة الفكريّة مرتبطة بالواقع الاجتماعيّ المتردّي الذي يفرض على المرأة قيودًا وأثقالًا ناءت بحملها، وقد سبّب لها هذا الواقعُ والتجربة الخاصّة التي تخوضها آثارًا نفسيّة خاصّة. وتمثِّل كلّ من "هند" و"فيحاء" و"زين" نماذجَ للمرأة المتمرِّدة الباحثة عن حرّيّتها في هذه رواية.
تكرّرَ مفتاح "الحرّيّة" (31) إحدى وثلاثين مرّة، جاء مفردًا ومركّبًا تركيبًا إضافيًّا في (28) موضعًا: "حرّة 7، تحرير المرأة، الحرّيّة 13، حرّيّة 3، الحرّيّة الفرديّة، مساحة الحرّيّة، طعم الحرّيّة، حرّيّتها". وتكرّرت المفردات والعبارات: "الخصوصيّة، تمشي بلا رسن في عنقها، صار بوسعها أن تمشي وحدها" التي تحمل دلالة تحرّر المرأة (3) ثلاث مرّات.
تمثِّل شخصيّة "هند" في هذه الرواية رمزًا فهي غنيّة بالدلالات، وهي شخصيّة إشكاليّة لمن حولها من شخصيّات الرواية، وقد كانت الشخصيّة النِّسويّة الروائيّة الأولى التي تثور على التقاليد المجحفة بحقّ المرأة، وقد صارعت – بقدر ما تسمح لها قوّتها- كلّ من اعترض طريقها لتحقيق استقلالها والحصول على حرّيّتها، كانت "هند" بنتًا لأسرة غنيّة من اللاذقية لم تُرزق إلا بنتين، وكان هذا أحد أسباب صراعها مع ما ومن حولها فقد واجهت ابن عمها زوج أختها الذي حاول السيطرة على ثروتها وسلبها استقلالها الإنسانيّ، فمرجعيّته الذكوريّة والمنظومة الاجتماعيّة السائدة تعطيانه الحقّ في الوصاية الاجتماعيّة عليها كونه ذكر العائلة، تقول الراوية: "وحدها لبابة كانت تعرف أنّ أختها هند طالما مرّت بفترات تقاوم خلالها وتتجلَّد وفترات أخرى تضعف فيها وتمرض داخل القصر اختناقًا، وصهرها ابن العم يريدها مريضة ومقعدة كي ينجح في السيطرة على مالها وعلى روحها الجامحة القلقة الهائمة... والحفاظ على الثروة الكبيرة للجَدّ، وهو أمر أفسده عمّه حين وهب أملاكه قبل موته لابنتيه كما أفسده زواج هند من (الغريب) أمجد بعدما غادرت اللاذقية لتعمل بسلام في دمشق كأستاذة بدلاً من الزواج من شقيقه عفيف لحفظ الثروة ضمن الأسرة ".
نلاحظ أنّ الهرب المكانيّ كان خيار "هند" في الرواية "غادرت اللاذقية لتعمل بسلام في دمشق"، نلاحظ المتقابلات (تقاوم، تتجلَّد) و(تضعف، تمرض، اختناقًا) التي تحمل بعدًا دلاليًّا نفسيًّا يبيِّن الحالات المتناقضة التي يمكن أن تمرَّ بها المرأة من قوّة وضعف ومع ذلك تبقى تقاوم ولا تستسلم.
يظهر الرجل –الصهر- مناوئًا للمرأة النموذج "هند"، وهذا ما يجعل الصراع أقوى وأعنف، وقد كان له أكثر من دافع للوقوف بوجهها ومحاولة تقييدها، فالطمع بالمال كان دافعه الأوَّل، لكنَّه كأكثر الرجال الشرقيّين يرفض جموح المرأة وقلقها الذين سببا بحثها عن موقع لنفسها في هذا العالم.
كانت "هند" تطالب بالحرّيّة والمساواة الجمعيّة مع الرجل لها ولغيرها من بنات جنسها، وكانت "فيحاء" - ربيبة "هند" ووارثة أفكارها- يتيمة تعيش في بيت جدّها، وقد غذّتها "هند" زوجة عمِّها بأفكارها التحرّريّة وضرورة تعلُّم المرأة وعملها واستقلالها الاقتصادي ّالذي يجعلها ملك نفسها. لجأت "فيحاء" في بداية مسيرتها التحرّريّة إلى مسايرة المجتمع المتمثِّل بالرجل عمِّها "عبد الفتاح" الذي كان يكره جنس النساء ويتعصّب ضدّ عملهنَّ وعلمهنَّ ولا يرى فيهنّ إلّا همًّا ثقيلًا، ينقل الراوي الخارجّي حوار فيحاء مع "زين": "قالت فيحاء: كنت أضع المنديل على شعري ليتركني عمّي عبد الفتاح وشأني كي أتعلَّم وأعمل وأكون حرّة كما أنا اليوم... (حرّة... ما معنى حرّة؟) سألتها زين. أجابت فيحاء ضاحكة: حرّة يعني صبي ".
تشكلّ عبارة "حرّة يعني صبي" مفتاحًا في تحليل الشاهد، فالحرّيّة تعادل الذكورة في رأي المرأة "فيحاء"، هذا لأنَّ الصبي وحده كان يتمتّع بالحرّيّة الكاملة، في حين تُحرَم منها البنات، ممّا جعل الأنثى تسعى سعيًا حثيثًا للحصول عليها. وقد ارتبط مفهوم الحرّيّة بجنس الذكور في أكثر من موضع من الرواية، مثل تجربة استرجال "زين" .
ربّت "هند" ابنتها "زين" تربية مختلفة عمَّا كان سائدًا في بيئة الأسرة الكبيرة – أسرة زوجها- وتمسّكها بالتقاليد، فعلَّمتها اللغة الفرنسيّة وأصبحت تثرثر بها ولمَّا تبلغ الثالثة من عمرها، وأنشأتها على حبّ القراءة والمطالعة في بيئة كان العلم محرَّمًا على الإناث ومباحًا فقط للأولاد الذكور، توفّيت "هند" وكان عمر ابنتها "زين" خمس سنوات لذا فقد ظنَّ كلّ من في البيت أنّه مسؤولٌ عن تربيتِها وصياغتها وفق منظومته وممارسةِ وصايته الاجتماعيّة عليها، ممّا جعلتها تضطرّ لمواجهة قسوة المجتمع وهي ما تزال طريّة العود، فقد كانت "زين" تشاكس وتعاند كلّ ما لا يروق لها من أفكار خارجيّة مفروضة، وكانت المرأة – المتمثِّلة بعمّتها بوران- أولى العقبات التي واجهت "زين" وأقساها، فتنهض مرّة وتتعثّر مرّات لكنّها تتابع طريقها، تقول "زين" في حوار داخليّ: "هنا سجنتني مرّة عمّتي بوران لأجل (مصلحتي) ككلّ قمع آخر أواجهه ".
يقدِّم لنا الشاهد - رغم المساحة الصغيرة التي يشغلها- دلالاتٍ نفسيّةٍ واجتماعيّةٍ عميقة، يحمل الدالّ "كلّ" وحدة دلاليّة بارزة هي الكثرة، وارتباطه بالمفتاح "قمع" يعطيه فاعليتَه ضمن السياق، فهو يبيِّن كثرة القمع الاجتماعيّ الممارس ضدّ الأنثى. مجيء التركيب الإيجابيّ "لأجل مصلحتي" في السياق السلبيّ يجذب المتلقّي ويحمله على الوقوف عنده وتأمُّله لتَعَرُّف المنظومة الاجتماعيّة البالية التي تشير إليها الكاتبة والضغوط النفسيّة التي تتعرَّض إليها المرأة باسم مصلحتها، ونلحظ هنا التناقض في المنظومة الذي حمل الكاتبة على السخرية بجمع الدالّين "سجنتني، لأجل مصلحتي" فكيف يكون السجن والقمع لمصلحتها؟. ويحمل الفعل المضارع "أواجهه" قيمة تعبيريّة قيِّمة فهو يشير إلى وجود صراع متجدّد ومستمرّ تخوضه المرأة، وبالتالي تجدّد القمع واستمراره ضدّها. نرى أنَّ ندَّ المرأة هنا هي المرأة نفسُها، وذلك بسبب تغذيتها بالمنظومة الاجتماعيّة السائدة وتمسّكها بالتقاليد البالية التي تربّت عليها.
تتمكَّن "زين" من الوصول إلى ما تريده بعد طول صراع مع كلّ ما ومن حولها، وتمتاز بتمتّعها بمساحة من الحرّيّة - لم تنلها أيٌّ من بنات أسرتها- بعد طول صراع، ممّا جعلها تضيق ببيئتها المتمسّكة بالتقاليد البالية ومنظومتها الاجتماعيّة الرجعيّة، فتبحث عن مجالٍ حيويٍّ رحب يتّسع لأحلامها وطموحاتها ويتيح لها التعبير عن نفسها وممارسة حرّيّتها، تقول الكاتبة حكايةً عن "زين": "قالت: أريد أن أزور الكرة الأرضيّة... لم أعد أرغب في الرحيل فوق الخارطة التي أعلّقها على جدار غرفة نومي.. أريد أن أرى القارات كلّها.. واندفعت تطير وهي تمزِّق الخرائط في كتاب الجغرافية التي طالما حلمت أمامها، وكذلك الخارطة الملصقة على جدارها، وترمي بمجسِّم الكرة الأرضيّة من شاهق على مجرى نهر بردى تحتها. ما لك وللطيران يا زين؟ أحببت دائمًا كلّ ما يطير حتى ولو كان دبورًا! قال لها النسر: ولكنّك بنت ولستِ طائرًا. حين يهبط الليل ستأكلك الجوارح. قالت: سأدافع عن نفسي.. ستنوح البومة وتخيفك... إنّها صديقتي.. سآنس بها ونطير معًا وتدافع عني. ستحرقك الصواعق والأعاصير وتشتعل النار في شعرك.. لماذا لا تنامين في سريرك الحريري بأمان؟ لا أعرف... لا أعرف.. أريد أن أطير ".
يشكّل الدال "طيران" واشتقاقاته ومرادفاته والدالّ "الجناح" رمزًا خاصًّا عند الكاتبة، وقد جاء دائمًا عندها معادلًا لحرّيّة المرأة في سياق حرّيّتها وبحثها عنها ورغبتها في الحصول عليها، وقد تكرّر وروده (76) ستًّا وسبعين مرّة ، وقد جاءت بصيغ صرفيّة مختلفة غلبت عليها صيغ الأفعال التي تكرّرت (35) خمسًا وثلاثين مرّة: "تطير 16، أطير 7، نطير، تحلّق 7، أحلِّق 4".
والمصدر: "طيران، طيراني، تحليق"، والاسم: "جناحيها، جناحين، جناحيَّ المقصوصين، جناحك المقصوص، طائرة، زيّ الفراشة".
الشاهد مثقل بالصور التي تحمل أبعادًا رمزيّة عميقة، إضافة إلى الحضور الكثيف للرمز الخاصّ "طيران" باشتقاقاته ومرادفاته الذي يجذب ذهن المتلقّي لتأمُّل الدلالات المرتبطة للوصول إلى وعي الكاتبة والبنى الذهنيّة التي أرادت إيصالها إلى المتلقّي. فـ"الطيران" مرتبطٌ بالفضاء والحرّيّة والتحليق وهو ما تسعى إليه المرأة التي أضناها القيد والعيش في الجحور.
لم تعد امرأة "غادة السمان" شهرزاد القرون القديمة تكتفي بوصول العلم إليها في قصرها "أريد أن أزور الكرة الأرضيّة... لم أعد أرغب في الرحيل فوق الخارطة التي أعلّقها على جدار غرفة نومي.. أريد أن أرى القارات كلّها"، إنَّ تكرار الأفعال مسندة إلى ضمير المتكلّم العائد إلى المرأة "أريد3، أزور، لم أعد أرغب، أرى" يحمل دلالات فكريّة ونفسيّة هي بروز شخصيّة المرأة وتفرّدها وانتقالها من الصراع مع ما ومن حولها إلى اللغة للتعبير عن نفسها بعد أن كان محرَّمًا عليها التعبيرُ عن رغباتها كما تبيِّن الكاتبة في موضعين آخرين .
يحمل الفعل "اندفعَتْ" دلالة القوّة والانطلاق بعد القيد، وتركيبه مع الفعل "تطير" يدعم فاعليّته ويقوّي المعنى، تتّسع المساحة الدلاليّة للفعل "تمزِّق" لتشمل دلالة الثورة والتمرُّد على كلّ ما يحدُّ من حرّيّتها ويحاول تقييدها، وتؤكِّد عبارة "ترمي بمجسَّم الكرة الأرضيّة من شاهق على مجرى نهر بردى تحتها" الدلالة السابقة وتعمِّق مدلولها.
تشترك العبارات "ستأكلك الجوارح، ستنوح البومة وتخيفك، ستحرقك الصواعق والأعاصير وتشتعل النار في شعرك" بوحدة دلاليّة بارزة هي كثرةُ العوائق التي تقف في طريق المرأة نحو تحرّرها وتنوّعُها، جاء الدالّ "النسر" من دائرة الطبيعة في العبارة "قال لها النسر" رمزًا للسلطة الأبويّة التي تحاول منع تحرّر المرأة بشتّى الطرق.
تشترك العباراتُ "سأدافع عن نفسي، إنّها صديقتي، سآنس بها وتدافع عني" بوحدة دلاليّة بارزة هي قدرة المرأة وتمكِّنها من مواجهة الصعوبات التي تعترض طريقها للوصول إلى هدفها والتغلّب عليها بعد أن وعت ذاتها، وأثبتت مكانتَها وقدراتِها في المجتمع.
يحمل الاستفهامُ "لماذا لا تنامين في سريرك الحريريّ بأمان؟" دلالة اجتماعيّة عميقة؛ إذ يلجأ الرجل إلى الحيلة وتخدير المرأة للتراجع عن مشروعها التحرريّ للبقاء تحت سلطته.
وتحمل الأفعال "لا أعرف... لا أعرف.. أريد أن أطير" دلالات نفسيّة، فقد بدأت النموذج النسويّ "زين" بعد صراع طويل مع المجتمع والعادات تعي وعيًا مبهمًا حاجتها إلى الحرّيّة لتحقّق ذاتها، تقول في موضع آخر: "لا أعرف ما هي الحرّيّة. ولكنّني أعرف أنّها مثل أمّي، تنقصني... وأنا أحبّ الحرّيّة وأعرف أنّها مثل أمّي تنقصي ".
على الرغم من تكثيف الأفكار الرجعيّة في بيئتها فإنَّ صوتًا داخليًّا يجرُّها نحو عالم آخر تريده ولا تعرفه تمامًا، تحمل العبارات "لا أعرف ما هي الحرّيّة. ولكنّني أعرف أنّها مثل أمّي، تنقصني" بعدًا نفسيُّا يبيِّن أنَّ حاجة النموذج "زين" للحرّيّة كانت حاجة غريزيّة، ويؤكِّد المشبه به "أمّي" في ذهن المتلقّي مدى حاجة المرأة للحرّيّة، وتظهر هنا أهميّة اللغة واختيار الكلمة في إيصال فكر الأديب إلى المتلقّي، ويضيء الطباق "لا أعرف، أعرف" عالم التناقضات الذي تعيشه بين ما هو ضرورة تبحث عنها ولا يمكنها الاستغناء عنها وبين حجب المجتمع هذه الضرورة عنها وتغييبها حتى التبس مفهوم الحرّيّة عندها وإمكانيّة تطبيقها، ويؤكِّد تكرار العبارة "أعرف أنّها مثل أمّي تنقصني" إلحاح "زين" - كنموذج نسويّ - في طلب الحرّيّة وحاجتها إليها، فالتكرار "من تلك الوسائل التي نشأت في اللغة الانفعاليّة، ثم يعدُّ استعماله في اللغة المنطقيّة، مجرد سياسة نحويّة، أمّا أصله فيجب البحث عنه في الانفعال الذي يصحب التعبير عن عاطفة قد دفعت إلى أقصاها، وهو وسيلة لإعطاء العبارة زيادة في القوّة ".
تصل المرأة النموذج "زين" بعد كلّ الصراعات التي خاضتها إلى هدفها، وتفلح في إثبات ذاتها وقدراتها، وتحقّق عدّة انتصارات وخاصّةً على الرجل ذاته وفي مجالاتٍ كانت حكرًا عليه كالسباحة والكتابة والصيد والقيادة، لتؤكِّد "السمَّان" أنَّ قدرة المرأة لا تقلُّ عن قدرة الرجل إذا أخذت فرصتها وحرّيّتها، يختم السارد الخارجيّ الرواية بمشهد دراميّ نرى فيه الكابتن "شيللر" يصارع الموت بعد إقلاعه بالطائرة الشراعيّة و"زين"، فترتبك "زين" في البداية إذ عليها قيادة الطائرة والهبوط بها وحدها، فتتغلّب على ذعرها وتتمكّن من الهبوط بسلام، يصف لنا السارد شعور "زين" بعد تغلّبها على خوفها وانتصارها في إثبات قدراتها بقوله: "بيسر وحبور تستخرج زين جناحيها وتستحيل نورسًا أبيض محلِّقة إلى جانب البومة والنسر. تسمع صوتًا نائيًا يقول: "(الفصعونة العصموصة تقصيرة الجن النص نصيص، كيف تهبط بالطائرة وحدها؟). وتضحك للصوت بلا حقد وهي تهبط بالطائرة على المدرج على حافة الارتطام. وتعود فجأة بنتًا لا نورسًا، ستحتفل بعد أشهر بعيد ميلادها السابع عشر دونما غصّات... حين غادرت زين الطائرة، شعرت للمرّة الأولى بأنّ الأرض صلبة تحت قدميها والفضاء أقلُّ عدوانيّة تحت جناحيها ".
يحوي الشاهد حضورًا كثيفًا للرمز والدلالات العميقة، فشخصيّة "زين" هنا نموذجٌ للمرأة المستلَبة التي تصارع قوى المجتمع القمعيّة بضعفها لتصل في النهاية إلى تحقيق ذاتها وحمل مجتمعها على الاعتراف بوجودها وملكاتها التي لا تقلُّ عن ملكات الرجل، الفعل "تستحيل" في العبارة "بيسر وحبور تستخرج زين جناحيها وتستحيل نورسًا أبيض محلِّقة إلى جانب البومة والنسر" يحمل دلالة التحوُّل وهو تحوُّلٌ إيجابيٌّ هنا، و"النورس" رمزٌ للحرّيّة التي حصلت عليها المرأة النموذج "زين" بعد عناء طويل، واستخدمت الدال "محلِّقة" بصيغة اسم الفاعل لتبيِّن أنَّ صفة التحليق والطيران الرامزة للحرّيّة صارت ثابتةً وملازمةً لها، وتحمل شبه الجملة "إلى جانب البومة والنسر" دلالات فكريّة واجتماعيّة توحي بوصول المرأة إلى مكانة توازي مكانة الرجل ونيلها حقوقها ومساواتها معه.
ما تزال نظرة المجتمع تنطلق من مرجعيّته الذكوريّة في دونيّة المرأة وضعفها وعدم قدرتها على إنجاز ما هو خارج أعمال المنزل وتربية الأولاد، تحمل العبارات "الفصعونة العصموصة تقصيرة الجن النص نصيص، كيف تهبط بالطائرة وحدها؟" دلالات اجتماعيّة توحي باستنكار بعض أفراد المجتمع لفكرة قدرة المرأة وتمكنِّها من القيادة، وقد يحمل الدال "الطائرة" هنا رمزًا لمصير المرأة وصورتها في البنى الذهنيّة للمجتمع اللذين تتقاذفهما الريح وعليها أن تركّز وتستجمع قوّتها وملكاتها لتصل بهما إلى أرض صلبة تستطيع أن تثبِّت عليها قدميها.
إنَّ انتصار المرأة ونجاحها في تحقيق ذاتها جعلها تتصالح مع ما حولها "تضحك للصوت بلا حقد وهي تهبط بالطائرة على المدرج على حافة الارتطام" والفعل "تهبط" هنا يحمل دلالة إيجابيّة توحي بالرسوخ والثبات الذي تستمدّه من الأرض الصلبة تحتها، وتحمل شبه الجملة "على حافة الارتطام" دلالات فكريّة ونفسيّة واجتماعيّة توحي بالصراع القويّ الدائر بين المرأة وكلّ ما حولها الذي يمكن أن تكون نتيجته ضدّها عند أي حالة ضعف أو استسلام من قِبلها.
"زين" التي كانت تعيش الوهم وتهرب إليه لأنَّ الواقع لا يفسح لها إظهار ملكاتها تعيش أحلامها وتحقّقها على أرض الواقع بعد أن تغلّبت على خوفها أوّلًا وعلى كبت المجتمع وقمعه ثانيًا "تعود فجأةً بنتًا لا نورسًا، ستحتفل بعد أشهر بعيد ميلادها السابع عشر دونما غصّات".
تمثِّل وقفة "زين" هنا مرحلة انتصار المرأة على القوى الرجعيّة والقمعيّة التي وقفت في طريق تحرّرها وحاولت تهميشها والتقليل من تقدير ملكاتها "حين غادرت زين الطائرة، شعرت للمرّة الأولى بأنّ الأرض صلبة تحت قدميها والفضاء أقلُّ عدوانيّة تحت جناحيها"، وتمثّل عبارة "الأرض صلبة" كناية لقوّة المرأة وثباتها، وبهذا يمكن أن ندرج هذه الرواية ضمن رواية التعلُّم أو "رواية البناء، رواية التشكّل، التي تتّخذ، بشكلّ عام، من شخصيّة الشاب، أو الصبيّ المتنامي، محورًا أساسيًّا لها، شخصيّة تعيش صيرورتها، ذاهبة إلى هدف معيّن، يعبّر عن مثال إنسانيّ منشود. أو شخصيّة ديناميّة يصوغ الزمن بشكل متصاعد عالمها الروحيّ والفكريّ، ويؤمِّن لها تجاوز حاضرها والذهاب إلى زمن يحقّق لها مثالها. والواضح في هذا إيمان بالتقدّم وبطاقة إنسانيّة ترى وراء الزمن المعيش زمنًا آخر، أو الإيمان بما ينمو ويصعد ويواجه، رافضًا السكون والثبات والقيم المسيطرة ".
وأخيرًا يمكننا القول: إنَّ أهمَّ ملمح نسويّ يظهر في رواية "الرواية المستحيلة" هو تمرُّدُ المرأة المثقّفة ونضالها في ظلِّ واقع ذكوريٍّ واجتماعيٍّ رجعيٍّ قمعيٍّ - في تعامله مع المرأة وحقوقها- غيرِ مستعدٍّ لإعطاء المرأة مكانتها الإنسانيّة اللائقة بها والاعتراف بخصوصيّتها وفرديّتها، ووصفُ نضالها والعقبات التي اعترضت طريقها للوصول إلى ذلك، وقد بيَّنت "غادة السمَّان" دور المرأة والرجل والتقاليد في الحدِّ من حضور المرأة في المجتمع وتكبيلها. ونجد ملمحًا نسويّا آخر هو التبشير والاستشراف المستقبلي لوضع المرأة وانتصارها باستنبات موقع لها في عالم متصارع متجدّد متغيّر. واستخدام الرمز في الشخصيّات النِّسويّة – والشخصيّة الرائدة بشكلّ خاصّ -، إذ تبقى النماذجُ النِّسويّةُ المطروحةُ نماذجَ لجنسها.
المصادر والمراجع:
1 السمَّان، غادة، فسيفساء دمشقية، منشورات غادة السمان، بيروت- لبنان، ط 4، 1997م: 20 (3)، 32، 128 (4)، 209، 408، 417، 442 (2)، 431 (3)، 432 (2)، 437 (2)، 441 (3) ، 442 (3)، 496 (2).
2 المصدر السابق: 32، 228، 381.
3 نفسه: 60 (6)، 75 ،105 (5)،151 (5)، 164 (3)، 166،170 (2)، 190 (2)، 205 (2)، 365 (9)، 366 (10)، 368 (9)، 369، 370،418 (4)، 435 (4)، 460،492 (2)، 496 (3)، 498 (3)، 499،500 (5).
4 نفسه،101.
5 نفسه،128.
6 نفسه، 218-230.
7 نفسه،394.
8 نفسه،368.
9 ينظر: نفسه، "صارت النساء كالرجال يردن ولا يردن واقترب يوم القيامة!،358. وتقول في موضع آخر: "تزجرها بوران: البنت لا تحبّ ولا تكره. تأكلّ ما يُقدَّم لها. هيّا كلي" 137.
10 نفسه،442.
11 اللغة، ج، فندريس، ترجمة: عبد الحميد الدواخلي ومحمد القصاص، مكتبة الأنجلو المصرية، مطبعة لجنة البيان، القاهرة، 1950م، 199-200.
12 الرواية المستحيلة،500.
13 الرواية تكتب صبيها الواعد، د. فيصل دراج، مجلة العربي، العدد 622، سبتمبر 2010،70.
14 رؤية العالم في روايات غادة السمَّان، رجب، نور عبد اللطيف، رسالة ماجستير، جامعة حلب، 2018،20.
15 في نظرية الرواية بحث في تقنيات السرد ، مرتاض، د.عبد الملك،35.