شوقي بدر يوسف
كاتب وناقد مصري
الإسكندرية
في روايته الأخيرة "راكب الريح" دار الشروق، عمان/الأردن 2015 التي فازت ب"جائزة كتارا" عام 2016، يشتغل الروائيُّ الفلسطينيُّ يحيى يخلف على نصٍّ روائيٍّ يمثّل نقلةً روائيّةً نوعية، وجملة اعتراضية سردية غير مألوفة في مسيرة عالمه الروائي والقصصيّ الذى وظفه منذ روايته الأولى "نجران تحت الصفر" وحتى هذا النص الروائي الأخير المتماهي بكل حمولته مع فتنة التاريخ وأسطرة الواقع، والرامز إلى صفحة جديدة من صفحات المقاومة الفلسطينية الحاضرة بكل قوة في منظومة الكاتب الروائية، وموظفًا هذا النص الروائي في أمكنة متنوعة، تنتشر وقائعها وأحداثها في ميادين وفضاءات فسيحة ما بين يافا الفلسطينية، ودمشق في سوريا، وأضنة في الأناضول، وفضاءات عجائبية أخرى في الهند، وفي عوالم سردية متنوعة الشكل والمضمون تتأرجح في فعلها الروائي بين الواقع والخيال، والأسطورة ودلالات ترميزها، ووقائع تاريخية متخيلة لما تمرُّ به المنطقة العربية عامة والفلسطينية بصفة خاصة من مؤامرات ودسائس تحتاج إلى راكب لريح الخلاص لينقذها مما تمرُّ به، ويفعل ما فعله يوسف اليافاوي "راكب الريح" في هذا النصِّ الروائي لينقذ محبوبته "العيطموس" الرامزة إلى فلسطين من هذا السحر الأسود الجاثم على صدر الأرض العربية منذ زمن النكبة وحتى الآن.
فمن محاور التاريخ، واستلهام مجرياته، وعجائبية المشهد الناطق بمحاولات البحث عن الحكمة، وعن "اليوتوبيا" التى تجمع الشرق بالغرب، وتلم شمل الإنسان والإنسانية، ومن خلال البحث عن المدينة الفاضلة المفقودة دومًا في هذا العالم المليء بالصخب والعنف السائد فيه منذ قابيل وهابيل، تسير وقائع هذه الرواية في أحداثها الأسطورية، ووقائعها التاريخية المتخيلة في القرن الثامن عشر، قبل وصول نابليون بونابرت إلى الشرق بثلاثة أعوام، أي في عام 1795، من هذا المنطلق التاريخي والعجائبي ينسج الروائي الفلسطيني الكبير يحيى يخلف هذا النصَّ الروائيّ الشجي القادم إلينا من مشهد مدينة فلسطينية ساحرة هي مدينة "يافا" عبر منعطف تاريخي مهم، له أبعاده الرامزة للواقع العبثي الذى يعيشه الواقع الفلسطيني نفسه الآن، والذي عاشته هذه المدينة خلال ثلاث سنوات تبدأ من 1797 حتى 1800.
فمن جماليات المكان، وفتنة التاريخ، وروعة الأنثربولوجي، وعجائب المتخيل المتشابه في أحداثه ومتخيله، ومع محكيات ومرويات لها وقع محكيات ومرويات "ألف ليلة وليلة". من هذه الفضاءات الساحرة، استلهم الكاتب التاريخ والأسطورة وهذه الحشد المتناسل من المرويات والمحكيات العجائبية المتواترة الأحداث والوقائع في روايته، بحيث بدت رواية "راكب الريح" وكأنَّها محكية سردية لها سطوة سحرية جاذبة، تبدو في سردها، وشعرية لغتها، وجماليات أبعاد كتابتها، وطبيعة شخصياتها، والتيمات الغرائبية التي تحملها في نسيجها اللغوي، أيقونة حكائية لها مفرداتها الفنية الخاصة، بحيث تجعل سطوة تأويلها تحجر على قارئها، وتسحب متلقيها إلى هذه الهوة العميقة من السحر والسرد المتخيل في فتنة التاريخ الذى استلهم منه الكاتب هذا الحشد الطويل من متواليات نصية تتناسل منها محكيات سردية متنوعة، في داخل كل حكاية حكاية مستأنسًا في ذلك بموروث تخييلي عربي طويل.
النصُّ والشخصيّة
الشخصية المحورية في هذه الرواية هي شخصية يوسف، يوسف أحمد الأغا، أو يوسف اليافاوي كما أطلق عليه. تحتل هذه الشخصية المحور المهم في نسيج الرواية، وتتنقل بنا عبر تواتر عجيب لنشأتها وسماتها الذاتية، وما تحمله داخلها من عجائبية خاصة متمثلة في جنّيٍّ قرين، له سطوة التحكم في مواقفها الذاتية منذ نعومة أظفارها، لذا كان محاولة رسم هذه الشخصية بهذه التمرس الفني، ومحاكاة تاريخها، وتنقلها بين جنبات النص قد جاء من خلال رؤية سردية جعلت من هذا النص وكأنَّنا أمام فنٍّ تراثيٍّ له لغته وشعريته الخاصة. ففي هذا النص يصوغ الكاتب شخصية بطله المتحقق الذي يأمله، الفلسطيني الباحث عن الحقيقة حتى يتعرف على الطريق الذي يصل منه إلى بر الأمان. إنَّ يوسف اليافاوي الذى توصل إليه الكاتب وجعله نصب عينيه في مخاطر حياته، وركوبه الريح هو الذي دونه في وقائع الأحداث وجعله يجمع كل الشخصيات حوله، ويمسك كل الأطراف بيد واحدة، الكاتب لم يكتب رواية تاريخية موثقة، إنَّما هو كتب التاريخ ذاته في صورة سردية ذاتية متخيلة، لذا كان طموح هذه الشخصية فوق العادة بحسب كتابتها، وصوغ أحوالها طبقًا كما جاءت في أحداث النص؛ ومن ثم ولهذا السبب منحه الكاتب قوّةً خارقةً أرادها تنمو وتترعرع في جنبات الرواية لتخلق النموذج المستهدف للشخصية الفلسطينية التي تركب ريح المغامرة والمخاطرة للوصول إلى تحقيق الحلم الفلسطيني المأمول، يوسف كان الابن الوحيد لوالديه، ولد في تلك الأيام العصيبة إبان غزو القائد المصري محمد بك أبو الدهب لمدينة "يافا" التي شهدت في تلك الآونة الكثير من الفظائع والخراب على يد جيوش المماليك، وعلى الرغم من ذلك:" ربته أمه بهانة وأحسنت تربيته، ونبغ مبكرًا، إذ أرسله والده إلى حلقات الدراسة في الجامع الكبير الذي كان يشهد حلقات تدريس كبار العلماء والفقهاء ورواة الحديث، فتعلم الفقه واللغة والعلوم، كما أرسله إلى مدرسة الراهبات، لتعلم اللغة الفرنسية". (راكب الريح ص5) ويحتضن يوسف غنى المعرفة، ويصل إلى أفق رحيب ثمنه جهد وإرادة ومثابرة. ولعلَّ غرائبية هذا القرين المتلبس لشخصيته قد مهّد له الطريق في كلِّ أحواله، حيث جعله وهو في بواكير صباه يعشق الخط العربي في حلقات التدريس، وحبب إليه روح هذا الفن بجماليات تكويناته، وكانت هذه هي البداية، ففي زمن قصير وعجيب واظب على دروس معلمه الشيخ خليل الداري، وتعلم منه الخط الثلث، وبقية الخطوط الأخرى، وكانت تبهره زخارف المساجد ومكتباتها، وحركة رسم الآيات وتشكيلها وغير ذلك من أنواع الرقش والنقش المزينة للمحاريب والقباب والأروقة في المساجد. وعندما وصل إلى مرحلة الشباب اكتسب جسده لياقةً وجسمًا مفتول العضلات، وكانت جرأته مضرب الأمثال بين قرنائه من شباب يافا، خصوصًا في ركوبه الريح من خلال رياضة القفز من أعلى أسوار المدينة إلى مياه المتوسط العميقة. وكان قرينه الجنّي هو أيضًا السبب في هذه الجرأة العجيبة التى تلبست الفتى يوسف، ومنحته روح المغامرة والمخاطرة في ممارساته لهذه الرياضة الخطرة، فكان يساعده على ركوب الريح في قفزته الرائعة التي ينتظرها الجميع من على أسوار قلعة يافا، كان مشهد يوسف في ركوبه هذه المخاطرة مضرب الأمثال؛ حتى أنَّ الوالي استدعاه إلى مجلسه للتعرف عليه، والثناء على بطولته التى شهد له بها الجميع، من هذا وذاك، يحصد يوسف ما تنشره الحياة أمامه على طريق العمر. وكان اكتشافه لهذا الجني القرين وهذه الطاقة الطاغية الغريبة لأول مرة، يوم أن حاولت إحدى الفتيات غوايته، وكانت تجربته الجسدية الصاعقة التي فعلها قرينه هي أول الطريق الذي بدأ به يوسف حياته ": أغوته جارية حسناء بالدخول إلى الغابة معصوب العينين في لعبة صبيانية معروفة، فتجاوب معها، وظلّت تستدرجه في بساتين البرتقال ثم توقفت، و... وفكت العصبة عن عينيه...". (راكب الريح ص13).
كانت هذه التجربة الحسيّة هي التي نبهته لأول مرة في حياته إلى وجود هذه الطاقة الغريبة داخله. ويمر يوسف في حياته بكل ما يمر به الشباب، فبعد فترة يرسله أبوه إلى دمشق لدراسة هندسة العمارة وتزيين القصور، فتعلم هناك في مدرستي "مملوكي سلطاني" على يد كبار المهندسيين والمعماريين فنون العمارة وهندسة بناء البيوت والقصور حتى صار من أمهر الصناع في هذا المجال.
ويتواتر فعل المغامرة والمثابرة والإرادة في حياة يوسف ما بين الصعود والهبوط والحلم والواقع والسفر والتنقل في أرض الله للدراسة والعلم والعمل. كان راكبًا للريح في كل ما كان يتعرض له، يساعده في ذلك الجني القرين كما حدث مع الفرنسيين والجندرمة حينما حاولوا تدمير بازار تجارته في المخطوطات واللوحات الفنية. كذلك حين أنقذ غزالاً صغيرًا من بين براثن فهد مفترس أثناء ترحاله، وكان يخاف على هذا الغزال وكأنَّه وليده الصغير.
وفي محطته الأخيرة، يتوقف عند التأمل والحكمة وبلاغة الرسالة، رسالة الشرق إلى الغرب من أجل التعايش والسلام، والمساواة، واحترام كرامة الإنسان، فهل تصل الرسالة؟ هل يلتقي كتاب الحكمة الشرقي الذي يعده الحكيم برهام ويكتب يوسف مخطوطته، مع مدونّة الثورة الفرنسية التنويرية؟ هل تتقلص الفجوة بين الأنا والآخر؟ أم تتسع حتى اللاتلاقي؟، هذه الأسئلة أجابت عنها الرواية في الجزء الأخير منها، حين أوفد الحكيم الهندي برهام رجلين من أتباعه لطلب يوسف لنسخ مخطوطة السلام والحكمة المزمع تقديمها إلى نابليون بونابرت؛ مقابل مساعدته في التحكم بطاقة الجني القرين الذي كان يتلبسه، وكان حوار الحكيم باهر معه حول هذا الجني له دلالات تفصح عما هو عميق في التكوين البشري، والصراع الداخلي بين الخير والشر في الإنسان، حين ينصحه الحكيم فيقول: "الطاقة قوّة مغناطيسية داخل الإنسان مرتبطة بالدماغ، وعليه أن ينقيها من مظاهر العدوان والكذب والنفاق". (راكب الريح). وكانت النساء في حياته أيقونات مختلفة ومتنوعة، فقد كان مثقلًا بالمغامرات النسائيّة التي علمته صنعة الجنس ومعاملة المرأة بحسب طبيعتها الذاتية، وعرفته أيضًا مكائد وغوايات النساء ومكرهن؛ حيث كانت إحدى هذه المكائد سببًا في اعتقاله وإهانته من قبل الإنكشارية وجندرمة المدينة.
المرأةُ والنصُّ
وعلى ذلك كان للمرأة في هذا النصِّ دورٌ حيويٌّ فاعلٌ من خلال علاقتها مع يوسف الشخصية المحورية للرواية، فكانت المرأة هي الشخصية المحورية الثانية التى تجمع من متناقضات الحياة ومفارقاتها، مثل الاختلاف الجنسي ببن النساء وهو يعتبر من الأمور المهمة في تحقيق السمات التي تتحلى بها المرأة، فمنها العنصر الأنثوى القائم على المحاورة والمكر والغواية، والسادية المتحكمة والمتأصلة في بعض النساء؛ وتمثّله في النصِّ المرأة ذات السنة الذهبية التى أرادت إغواء يوسف بشبقيتها وقتله عن طريق ساديتها في ممارسة الجنس، أمَّا العنصر الثاني من النساء القائم في نسيج الرواية كانت هى "العيطموس" المرأة التى شاءت الأقدار أن تدخل حياة يوسف من أوسع الأبواب، فهي المرأة كاملة الأنوثة، كاملة الأوصاف، السيدة ذات العزبة، أو سيدة القصر كما كان يحلو ليوسف أن يطلق عليها، فكانت هي رمز الفتنة والسحر الباحثة عن مواطن الجمال في هذا العالم، كانت هي الطفلة الصغيرة التى اختطفها القراصنة، وبيعت كرقيق إلى البشاوات، وتنقلت كجارية مستعبدة في رواق الحرملك، وعايشت مكر الدسائس، واغتصاب الأمراء، ووحشية الانكشارية، ثم وجدت الرأفة عند السلطانة "نخشديل" التى وفّرت لها الحماية، والعناية عند زوجها السلطان "جركس باشا" الذى بنى لها قصرًا في يافا وأكرم وفادتها ومنحها وصيفة صارت كاتمة أسرارها وصديقتها وهى (أسرار). وفي النهاية تعثر على بر الأمان المتمثل في هذا اليوسف الذي عشقته عشقًا روحيًّا، عندما شاهدت صورتها التى رسمها بقوة روحه وبواسطة الطاقة الخلاقة الكامنه داخله. وتمثل "العيطموس" الذى تعلق بها يوسف شخصية الوطن فلسطين فتنة التاريخ بكل أبعاد عبقرية المكان، ولكونها مهبط الأنبياء، ولؤلؤة الزمان وجوهرته، لذا كانت "العيطوس" بصبرها الطويل وجمالها الأسطوري، التي عانت بسببه الكثير، وما تزال تعاني العزلة والوحدة في حياتها، هي الوطن والصدر الحنون والعشق الذى لن ينتهي، وقد ساق لها ربها يوسف الأغا الذى تعلّق بها منذ الوهلة الأولى، وأصبحت هي كل كيانه من خلال استدعائها له لرسم لوحة لها بعد معرفتها مهنته التى يجيدها وهى مهنة الرسم والرقش والتزويق والتذهييب، وخلال الفترة التى عايشت فيها هذا الشاب الذي منحها الحنان والحب الذى وصل إلى حدِّ العشق، كان هو شغلها الشاغل تعمل على راحته ومحاولة إسعاده بشتى الطرق، وعندما وقعت "العيطموس" فريسة لمرض الطاعون بعد غزو نابليون يافا وحيفا وعكا. قيد لها الله حبيبها يوسف وبمساعدة المرأة الهندية "فيديا" التي وقعت هي الأخرى في حبِّ يوسف، برأت "العيطموس" من مرضها المميت وعادت مرةً أخرى معافية.
على النقيض كانت المرأة الثانية في حياة يوسف هي المرأة الشبقية الساحرة التى تشبه امرأة العنكبوت في سحرها وممارساتها الجنسية، كانت تحاول أن تسحبه في شباكها بكل الوسائل الممكنة ": هي نفسها، بجاذبيتها، برقتها ومكرها الذي أوقعه في ورطة عندما واعدته في بيتها، وخالفت الميعاد، ثم أبلغت الجندرمة عنه بغوايتها، بغموضها، بنارها، بهدوئها بسطوة عنفوانها، وفجورها، بإنسانيتها ووحشيتها..". "بادرها بالكلام قبل أن تبادره، متسائلاً: من أنتِ، إنسيّة أم جنيّة؟ نظرت إليه كأنَّها تحاول اختبار قدرته على التحدي، ولاحظت أن... يلفت نظره، وأنه يختلس النظر إلى...، فأفسحت له مجالًا للمزيد من "البصبصة"، وصمتت قليلًا، وبعد ذلك أجابت: الاثنان معًا، في النهار إنسيّة، وفي الليل جنيّة. وأضافت: في النهار أكون سلسلة، وفي الليل متوحشة. صمتت وهي تنشب مخالب عينيها في عينيه من جديد: أنا قاتلة الرجال، لا أذبحهم بالسكين، إنَّما أذبحهم بسلاح المتعة واللذة...، فهل أنت مستعد للموت اللذيذ؟ قالت ذلك، وافتر فمها عن ابتسامة ملتبسة، فبانت سنها الذهبية، وبدت إذ ذاك مثل ناب حية رقطاء، داهمه وجل، وبدت له قبيحة". (راكب الريح ص 194). كانت هذه الغواية من امرأة السحر الأسود التي أنهى يوسف مشهدها بقرينه الجني الذي يسعفه في مثل هذه الظروف الصعبة، فعندما تعرت له أنقض عليها بجسد قرينه حارقًا جسدها، بعد أن كادت أن تفتك به بلسعات النحل التى كانت تتشدق بها في مجلسها معه. كانت تقول له: "أنا في النهار (أندروميدا)" وأندروميدا هذه هي أميرة يافا المسلسلة التى حاول أبوها أن يفدي بها المدينة في الميثولوجيا الأغريقية القديمة، وكانت تقول له: "أنا في الليل (ميدوسا)"، وميدوسا هذه هي المرأة البشعة التي حوّلتها الإلهة "أثينا" إلى هذه الصورة لممارساتها الجنس في معبدها. هكذا كانت هذه المرأة، حاولت أن تغريه بأميرة يافا أندروميدا التى تسقيه من عينيها خمرًا، وميدوسا التي تحوّله في الليل إلى حجر، قالت له أيضا: "أنا ساحرة ومشعوذة أعلم ما في الغيب وأكون قبيحة وشريرة أحيانًا، وأحيانًا أخرى أكون مثل قطعة نقود ذهبية سكّها الحاكم الأغريقيّ "سكاريوس" الذى حكم بلدكم يافا. أمَّا أنت في منزلة بين منزلتين، من جهة جميل ومذهب، ومن جهة ثانية قبيح وكاذب، يتعين أن تكون غامضًا ومختلفًا مثلي، نهارك أسود، ومساؤك أبيض" (راكب الريح ص196). كانت هذه متناقضات الأنثى ومفارقاتها التي واجهت يوسف في حياته.
ثمة امرأة ثالثة جمعتها الظروف مع يوسف وهي "فيديا" المرأة الهندية المعاونة للفيلسوف الحكيم برهام، والتى رفضت أن تُحرق مع جثة زوجها فحلّت عليها لعنة قومها، فهربت والتحقت بجماعة الحكيم برهام في الأناضول، وكان استعدادها الإنساني قد أهلها لأن تتشرب الحكمة والفلسفة والرهبنة من هذا الحكيم وتعاونت معه لعلاج يوسف من الجني الذى يتلبسه من خلال أن يتحكم يوسف في قرينه الجني بدلًا من تحكم قرينه فيه، وقد نجحت هذه المحاولات معه عبر مجموعة من تمرينات "اليوجا" والتمرينات الروحية الأخرى، وكان لفيديا دورٌ كبير في هذا العلاج، فقد كان الحكيم برهام يوحى إليه بالنقطة الحمراء التي تضعها فيديا في منتصف جبهتها، في محاولة للتركيز على النقطة المهمة في الرأس، ومن خلال هذه النظرات التى كان يوسف يوجهها إلى وجه "فيديا" كانت كيمياء خاصة تنتقل إليهما معًا، ونشأ حبٌ خفيٌّ من جانب يوسف و"فيديا"، خلال تلك الفترة التى قضاها يوسف مع الحكيم برهام، تعلقت "فيديا" بحب يوسف هى الأخرى، وكان إخلاصها له نابع من تقاليد وعادات النساء في الهند، وقد قدمت له العديد من الخدمات حين عالجت الغزالة التى أنقذها يوسف من الفهد الذى كاد أن يفتك بها، كما أسهمت معه في علاجٍ روحيٍّ حين مرض، وبعد عودة يوسف إلى يافا، لحقت به مع الحكيم برهام وأسهمت إسهامًا فعالاً في علاج السيدة عالية المقام في قصرها من مرض الطاعون الذى كان منتشرًا كوباء في يافا خلال تلك الفترة.
ثمة رؤية شهرزادية استخدمها الكاتب في نسيج الرواية من خلال تناسل الحكايات التى كانت تطلقها السيدة ساكنة القصر، في لحظات السمر والمرح والمتعة، كانت الحكاية الشهرزادية هي التسلية المفضلة في هذه المسامرات، وفي لقاء حضره يوسف، أطلقت السيدة حكاية (إيمي وماري روز) بنات العم اللتين تعيشان في جزر الأحلام، وكانتا من عائلة ثرية وتدرسان في مدارس الإرساليات المسيحية الفرنسية، وكانت لكل منهما أحلام بعضها يتجاوز حدود الخيال، وبعضها لا يتجاوز حدود الواقع. كان والد إيمي من كبار ملاك الأراضي وقارئ نهم يحب قراءة كتب التاريخ والروايات الرومانسية، وقد حبب لابنته القراءة وكانت فائقة الجمال من جزيرة اسمها جزيرة (المارنتيك) وهي مستعمرة فرنسية قليلة السكان. الثانية ابنة عمها ماري روز كان والدها يحتكر زراعة قصب السكر، وهي وحيدة أبويها ومغرمة بجمع التحف والأساور والأقراط، كانت شديدة الذكاء. وفي نبوءةٍ لقارئ كفٍّ هندي، سبقته شهرته إلى جزر الكاريبي، قرأ لماري روز طالعها أنَّها ستعيش حياةً عاطفيّة شديدة الثراء، وستتزوج رجلًا عظيمًا يجعل منها سيدة الغرب بلا منازع. وقرأ لأيمي طالعها وقال إنَّ جمالها سيكون سببًا في فرحها أحيانًا وفي شقائها أحيانًا أخرى. وستتزوج من سلطان من بلاد الشرق سيجعلها سيدة الشرق كله. وتتواتر الأحداث والوقائع على الفتاتين وتصل بماري روز "بقدرة قادر" إلى أن تصبح زوجة نابليون بونابرت تحت اسم (جوزفين)، أمَّا إيمي فقد وصلت "بقدرة قادر" أيضًا إلى أن تصبح السيدة صاحبة القصر ومحمية السلطانة (نخشديل) والسلطان شركس.
نكبةُ يافا والنكبةُ الكبرى
بعد أن أتم يوسف مهمته تجاه الحكيم برهام، بعد نسخ مخطوط السلام الذي كان يريد الحكيم تقديمه إلى نابليون بونابرت، وبعد أن علم بما حدث في يافا من مجازر ودمار، أراد الاطئنان على والديه، ترك القوم وسلك عدة طرق للعودة إلى يافا أثناء انسحاب جيوش نابليون المهزومة من الشام، بعد أن فتك الطاعون بجنوده، واستعصى عليهم فتح عكا لبسالة جنودها، وعندما وصل إلى يافا وجد الخراب قد عمَّ المدينة والجثث تملأ الشوارع والأزقة والساحات. لقد حدثت مجازر تقشعر لها الأبدان بعد غزو نابليون المدينة، وأعمل جنوده فيها الذبح والقتل والاغتصاب بعد أن قدموا لها الأمان، وعندما علم بوفاة أبيه وأمه، بهذه الطرق التى استخدمها معهم العدو المحتل حزن حزنًا شديدًا، وبدأ في التفكير في الانتقام والانضمام إلى المقاومة التي كانت تواجه الفرنسيين المنسحبين من المدينة والمدن المجاورة، كانت نكبة يافا الحادثة في هذا الوقت، مقدمة لنكبات عدة بدأت تحوم على هذه المدينة في هذه السنين المتعاقبة والتى انتهت بنكبة 1948، شارك يوسف مع مجموعة من الشباب الفلسطيني المقاوم في قتال الفرنسيين المنسحبين بقوة القرين الجنّي الذى استطاع أن يتحكم في قدراته، فكان يهجم على التلال التى نُصبت عليها مدافعُ الفرنسيين ويقوم بتدميرها وقتل جنودها، بينما زملائه يقضون على الجنود المنسحبين، كان الانتقام بحجم الدمار الذى سببه العدو.
ولعلَّ الدلالات التى لا يمكن نسيانها وإغفالها من أحداث ووقائع "راكب الريح" هي تلك الإسقاطات التي انسبحت وقائع الرواية بكل أحداثها المأسوية التاريخية المتخيلة والواقعية على الواقع الفلسطيني الآني، فاحتلال الفرنسيين ليافا ومحاولة تدميرها بعد فشلهم في احتلال عكا هي إسقاطٌ مهمٌ للمحاولات المستمرة والممنهجة من العدو الصهيوني لإفراغ فلسطين من أهلها وأصحابها الحقيقيين. ": أمَّا الإنكشاريون الذين يزعمون بأنَّهم حماة الدين والوطن فإنَّهم يرمزون بشكل أو بآخر إلى القوى الظلامية التى باتت تغزو فلسطين والعالم العربي هذه الأيام، بعضها يحمل فكرًا تكفيريًّا والآخر يستمريء القتل والتدمير والخراب". (يحيى يخلف ورواية "راكب الريح"، بديعة زيدان، ج الأيام الفلسطينية، ع 7347، 15 مارس 2016)
البناءُ الفنيُّ
تقوم الروايةُ في معمارها الفنيّ عبر ثلاثة وثلاثين فصلاً نصيًّا، يسرد الكاتب ويحكي وقائع فصول روايته المستمدة من تاريخ مدينة "يافا" لؤلؤة فلسطين وجوهرة البحر المتوسط في هذا الزمان، وابنها يوسف أحمد الأغا راكب الريح الذى خرج من أساطير المدينة وبحرها وأسوارها، كانت يافا في ذلك الوقت لؤلؤة البحر المتوسط، ونافذة الشرق على الغرب، وكان يوسف جوهرة المدينة، وفتى هذا الزمان، في روحه وفنه، رجل يسير بحثًا عن الحقيقة والحكمة وأسرار الحياة، ينتقل عبر الأمكنة مثقلًا بالحكايات والنزوات والمغامرات، حاملاً في قلبه وعقله مدينته المضيئة يافا، أيقونة تنوعها، وحنينها، وعبقرية مكانها، وتوحّش حكامها وغزاتها. سار فتى هذا الزمان في مسيرة حياته من عشق حارق، إلى عشق وحشيّ، ومن حلاوة الانسجام النفسي إلى مرارة القرين الذى يسكن داخله، ومن إبداع مهنة الرسم والرقش والتزويق والتزيين والتذهييب والتشجير، إلى حيوات أخرى متواترة الحكايات والأحداث تتناسل من حكايات ناره الملتهبة التى لا تنطفئ، وحول حكاية ركوبه رياح المغامرة وعصفها، تتوالد الحكايات وتتناسل، حكاية وراء حكاية، تراجيديا السيدة عالية القامة القادمة من حرملك السلطان، المرأة التي كان رسمه لصورتها والتقرب منها أمنية حياته، إلى المرأة الشبقية ذات السن الذهبية المسكونة بالشياطين والأبالسة، إلى المرأة الهندية ذات النقطة الحمراء على الجبين، تتغير الأزمنة والمُناخات والتضاريس والنهايات، من نبوءة العّراف التي تجعل إيمي سلطانة الشرق، وابنة عمها ماري روز أمبراطورة الغرب، إلى محاولات نابليون غزو الشام، إلى لعنة الطاعون التى أودت بحياة جنوده على مشارف عكا.
كانت لغةُ السرد في نسيج الرواية لغةً طوّعها الكاتبُ لخدمة النص، كلغة تراثيّة تبتعد أحداثها عن وقتنا الراهن بثلاثة قرون؛ لذا جاءت لغتها الفنية شاعرية التعبير، طيّعة في الوصول إلى المتلقي من أقصر الطريق، كما احتفي أيضًا بخاصية الوصف الذي كان له محفزاته التعبيريّة في توصيل الواقع للمتلقي، وبلورة المشهد السردي وتحويله إلى حالة خاصة بالحدث أو الأحداث الواقعة فيه، وهو ما اهتم به الكاتب في مجريات الأحداث. وقد مثّل الوصفُ ومجرياته في النسيج السردي للرواية حشدًا لافتًا من الموصوفات والمعارف التى تعترض مسيرة الشخصية في كلِّ تجليات أحوالها، في مهنتها وهي مهنة الخط الذى تعلمه على يد أساتذة متخصّصين، ثم مهنة التزويق والترويق تحوّلاتها وتنقلاتها، وظفها الكاتب ليعبر عن مُناخ وطبيعة الموصوفات التى تعترض نسيج السرد ولتضع كمًّا كبيرًا من المعلومات والمعارف النوعية؛ ففي مجال الخط على سبيل المثال تنقل الكاتب بخطوط المكيّ، والشاميّ، والقيروانيّ، والكوفيّ، والفارسيّ، والمغربيّ، والأندلسيّ، والعثمانيّ، ومنه الديوانيّ، والرقعة وغيرها من الخطوط.
من خلال شخصية يوسف (رجل فوق العادة) يتميز بأنَّه أسطورة في بلده يسير وهو يبحث عن الحقيقة شأن كلِّ فلسطيني يعيش وطنه السليب.
الآن؛ فهو يبحثُ عن الحقيقة التي تعيده إلى أرضه ومفتاح بيته ما زال في جيبه حتى الممات. يسير يوسف في هذه الدنيا وهو يحمل مفتاح بيته في يافا في جيبه وكأنَّه لا يريد أن يفارقه؛ فهو الحقيقة الوحيدة التي يعرفها ولا يعرف غيرها. وتسير الرواية مع يوسف الفلسطيني راكب الريح والذي يغامر بهذه الركوب وتتولد الحكايات مع النساء من كلِّ البقاع وتتغيّر الأمكنة والأزمنة ويوسف ما يزال يبحث عند الحقيقة الكبرى، يتأمل نفسه ومن حوله في هذه الدنيا؛ هل ما يمرُّ به هو الحقيقة؟ أم أنَّه سرابٌ مثل كل السرابات؟!. يرمز الكاتبُ للحلم والحياة بيافا التى عاشها يوسف مغتربًا ومتجوّلاً وباحثًا عن الفنِّ والجمال والأساطير والغواية والتراث في كلِّ مكانٍ وزمان.