الخطابُ السينمائيّ وتشكيلُ الوعي؛ (أستديوهات الأردن "أوليفوود ") وإرادةُ التغيير.

د. مارغو حداد
أكاديمية وفنانة أردنية

أضحى الخطابُ البصريُّ مصدرًا أساسيًّا لإنتاج القيم والرموز وتشكيل الوعي والوجدان والذوق والسلوك وتكريس السلطة والنفوذ، ونتيجةً لكلِّ ذلك أصبح الاهتمامُ كبيرًا بالفنِّ السينمائيّ كونه نظامًا متكاملًا ومؤثّرًا في المتلقي، ويمكن من خلاله خَلْق التأثيرات المختلفة ورؤية جديدة للعالم. الخطابُ السينمائيُّ يشكّل اليوم سلطةً تُحرِّك قيمنا وأذواقنا واختياراتنا؛ وهنا تكمن خطورةُ الخطاب السينمائيّ، خاصةً أنَّه يستعمل اللغة والموسيقى واللون والإيقاع والصورة لمداعبة خيال المتلقي، والتأثير فيه لاقتناء المنتج وترسيخ سلوكياتٍ ما؛ وهكذا تتشكّل الإرسالية بتآلف الأشكال اللغويّة والأشكال البصريّة التي تقدّم نفسها بوصفها تمثيل وضعية إنسانيّة يحقّ لكلِّ فردٍ التماهي فيها وإدراكها. وعبر الخطاب البصريّ السينمائيّ تصبح الصورة تكثيفًا لمجمل العلاقات الإنسانيّة، وهي تكشف مواقع الأفراد من القضايا التي تحيط بهم، ونظرة كلٍّ منهم إلى معاناته الشخصيّة، ومعاناة الآخرين، ورؤيتهم إلى الطرائق التي يمكن أن يعالجوا بها مشكلاتهم، وتأثير الحياة العامة في الحياة الخاصة، والمشاعر الآنية التي يمرُّ بها الأفراد، وعلاقتها بمجمل مسيرتهم الذاتية؛ وهنا يكمن إبداع تشكيل الخطاب البصري الذي يقترب تارةً من مفهوم الشِّعرية، وتارةً أخرى من التحليل النفسيّ.
كثيرٌ من صانعي الدراما ونجوم التمثيل تحديدًا، باتوا خارج الحقل المعرفيّ للفن والوعيّ في الخطاب السينمائيّ، وبعيدين عن أيِّ وظيفةٍ مفترضةٍ يؤدونها، في إثارة أسئلة كبرى في عقولنا لا بدَّ من الوقوف عندها؛ فمَن يمتلك رؤية الماضي بوعي الراصد، يحوز ثقافة الحاضر، وذلك امتثالاً لمنطق أنَّ حاضرنا إنَّما هو طفلُ ماضينا.
إنَّ أغلب ما يصلنا عبر بعض الأفلام أو الدراما التلفزيونية اليوم هو مزيجٌ من ضحالة الفـكـرة وركـاكـة الأداء والـتـنـفـيـذ الاستهلاكي وسـيـادة التهريج والاستظراف الممجوج، وإفساد ذائقة الجمهور والتشويش عليها. هناك محاولاتٌ عديدة ومستمرة لصناعة سينما أردنية؛ لكنَّها ما تزال مجرد إرهاصات سينمائيّة، في غياب منظومةٍ متكاملةٍ لدعم هذه الصناعة؛ والسببُ في ذلك يكمن في افتقار مخرجي بعض هذه الأعمال "لعلم الدراما"، والقصور الواضح في الخبرة والقدرة والخيال والرياضة الذهنية في مجالات الدراما وصناعة الجمال.
فالتفسيرُ العميق لكلِّ ما تتضمنه العملية الفنيّة في الأردن سواءً في صناعة الأفلام أو الدراما التلفزيونية، يخلق وحدةً متسقةً مع المنتج الإبداعيّ، وعلى قاعدة إدراك ضرورة فهم الدراما في بنائها وأثرها الفني. مثلاً؛ إنَّ استخدام فكرة تأكيد ما يتضمنه العملُ والنصُّ بين السطور هو ما يتيح للمخرج أن يعبر عن تناولٍ إخراجيٍّ يضيف الكثير إلى مستوى أداء عناصر العملية الفنية كافة؛ من ممثلين وتقنيين وصناع الفنون المجاورة في صياغة المشهد. والكتابةُ الدراميّةُ وحدها لا تكفي للتعبير عن الأحاسيس، كونها تطرح أفكارًا عميقة مجردة، وهنا لا بدَّ من تدخل فعل الإخراج، وفق مدى أصالة فكرة المخرج الذي يكتفي بإجادة الحرفة، والمخرج الجيّد، والمخرج العظيم عميق الرؤيا. إنَّ الوعي بمهمة المخرج هي نقطة البداية لتطوير العملية الإخراجيّة ومنجزها الفنيّ؛ فالمخرجُ الحرفيُّ يكتفي بأن يعثر على طابع واحد للسيناريو الذى يخرجه، أمَّا المخرج الجيّد فإنَّه يقدّم رؤيا أكثر تعقيداّ للنصِّ تحتوي على تراكيب فنية عبر عدة طبقات من التفسير. بينما يحوّل المخرج المحترف نصَّ السيناريو إلى مستوياتٍ تفكيكيّة من الإيحاءات العميقة والمدهشة، يتجاوز فيها النصَّ نفسه ليجعل التجربة متعددة المعاني، تدعونا جميعاً للوقوف ومراجعة الأداء لما ننتجه أو نسهم فيه. الخطابُ السينمائيُّ جزءٌ لا يتجزأ من الثقافة؛ لذا لا يمكن الإحاطة به إحاطة فعلية من منطلقات أحادية الجانب كتلك التي ترتكز على الجانب الفنيّ أو الجماليّ أو التقنيّ من دون ربطه بالإطار السوسيو-حضاري الذي يُنتج فيه، ودراسة الأبعاد والدلالات المكانيّة المُجسَّدة في الصورة السينمائيّة.
محزنٌ جدًّا.. هو واقعُ دورِ العرض السينمائيّة في عمان، وفي محافظات رئيسة كبرى في الأردن، ثمة حوالي 15 دارًا قديمة للسينما أُغلقت معظمها بما تمثّله من إرثٍ تاريخيٍّ يتجاوز الترفيه والاستثمار التجاري إلى الاستثمار الثقافي. إنَّ غياب التخطيط المناسب لعروض الأفلام أسهم في الفشل، وفي تراجع الأعمال الدراميّة والسينمائيّة. ومع افتتاح (أستديوهات الأردن) المتخصّصة الأولى في صناعة الأفلام (أستديوهات أوليفوود)، ما تزال لدينا إرادة تغيير في مراحلها الجنينية نتأمل بها خيرًا، وهو إنجازٌ لأحد أهداف قطاع الصناعات الإبداعيّة في رؤية التحديث الاقتصادي، وهي أول أستوديوهات أفلام في المملكة بمعايير عالمية، تحاول بقدر ما تستطيع الخروج إلى الحياة بجمالياتٍ جديدةٍ ومبتكرة، أكثر عمقًا من حيث الرؤيا، وأكثر إقناعًا من حيث الأداء والسويّة الفنيّة. لتؤكد وبحماسة عالية، أنَّ وظيفة الفن تكمن في الوصول إلى مبتغاها الأول: إمتاع الإنسان وتهذيب غرائزه وذائقته الجمالية، وإثراء معارفه الحياتيّة الخلّاقة.