"العوديسا الفلسطينية"؛ السطرُ الأخيرُ في تراجيديا الشاعر الراحل "خالد أبو خالد".

عمر محمد جمعة
كاتب وناقد فلسطيني.
في "العوديسا الفلسطينية"، التي تضمُّ الأعمال الشعرية الكاملة التي صدرت عام 2008 عن بيت الشعر الفلسطيني في رام الله، وتجمع بين دفتيها كلّ قصائده، كتب الشاعر الفلسطيني المحارب خالد أبو خالد (1937- 2021) بخطّ يده على الغلاف الخلفي للأجزاء الثلاثة: "القصيدة مفتوحة.. القصيدة مقفلة.. في الحالتين، لتؤكّد أنَّها غير قابلة للتأويل الغريب أو المتغرب. فإمَّا فلسطين وإمَّا فلسطين، وإمَّا أن نكون أو نكون، تلك هي المسألة.. تأسيساً على الحياة وهي كونية دائماً.. تأسيساً على جوهر الشعر.. إذ كيف لأحد أن يبرّر كونيته.. خارج الصراع.. إنَّه تواصل الأجيال في الشعراء كما في المقاتلين، وهذه فلسطين شاسعة.. وواسعة.. وهي هي بلادنا التي نعطيها.. فتحملنا إلى الكون.. مذكرة أنَّها الاسم الحركي له وللوطن العربي.. بالدم نكتب.. وإليه نعود.. اللهم فاشهد.. إنَّي قد بلغت وأسلم الراية للجدير.. يصعد.. إنَّه الآن إلى فلسطين الأقرب".
عودة أوديسيوس
أمَّا لماذا العوديسا؟ فيقول أبو خالد: "لأنَّ ملحمة الأوديسا التي تروي سيرة عودة أوديسيوس إلى أيثاكا لإنقاذ بينلوب هي المعادل الهوميري لعودة الفلسطيني إلى فلسطين.. فركّبت العنوان من العودة والأوديسا، وهذا التركيب لم يغيّر كثيراً في الجملة".
يعرّف النقّادُ ومؤرّخو الآداب الملحمةَ بأنَّها قصة شعرية طويلة مليئة بالأحداث غالباً ما تروي حكايات شعبٍ من الشعوب، بأسلوبٍ قصصيٍّ شِعريٍّ طويل مشبع بالأحداث التاريخية والتفاصيل التي تحمل دلالاتٍ كثيرة، وتستند معظم الملاحم إلى الأساطير، وقد حفظ التاريخ العديد من الملاحم التي تخطّت شهرتها حدود البلد المكتوبة فيه لتصبح إرثاً عالميّاً.
ولئن كانت الشعوب تفتخر بملاحمها، كالأوديسا (هوميروس) التي تبدأ بنهاية حصار طروادة وبدء عودة المحاربين إلى بيوتهم، و"المهابهارتا" الهندية (فياسا) التي تُشكّل جزءاً مهماً من الميثولوجيا الهندوسية، وتعدّ أطول قصيدة ملحمية في العالم باحتوائها على أربعة وسبعين ألف سطر شعري وقطع نثرية طويلة، و"الشاهنامة" (ملحمة الملوك) التي ألفها الفردوسي، وهي الملحمة الوطنية لبلاد فارس والتي تجمع القصص الإيرانية القديمة والحقائق والخرافات التاريخية؛ فإنَّ الشاعر الراحل خالد أبو خالد قد اقترب كثيراً من فضاءات تلك الملاحم التاريخية والإبداعية الكبرى في "العوديسا" التي مجّدت مسيرة المقاومة للإنسان الفلسطيني في طريق عبوره من الموت إلى الحياة، ونزعم هنا أنَّها ستغدو إحدى هذه الملاحم الكبرى، ولاسيّما إذا عرفنا أنَّ أبا خالد، قد بوأ العائدَ مكانة تليق بالقديس، وهو القويُّ الشجاعُ بإرادة الرغبة بالعودة.. يحمل دمه على كفه ويدفع روحه من رهبة الموت إلى رعشة الحياة، يقول في مطلع القصيدة:
"عائدٌ من مساءِ الحروبِ..
ومن نجمةٍ في شمالِ الغروبِ
ومن جمرةٍ في رمادِ الجنوبْ..
عائدٌ من رحيلي.. ومن طرقٍ لا تؤوبْ".
فأية مقاربةٍ أرادها الشاعر خالد أبو خالد في مماهاته بين شخصية "أوديسيوس" العائد من الحرب بعد عشر سنوات، واللاجئ الفلسطيني المشرَّد المنفيّ الذي يواجه حروباً بوجوهٍ وأشكالٍ مختلفةٍ تستهدف هُويته وتشتيته بعيداً عن الأمكنة التي تؤكد حقيقة وجوده، وتاريخيته وما زال يعارك، ومنذ أكثر من سبعين عاماً لإثبات هذا الحق والدفاع عنه؟.
تبدأ ملحمة "الأوديسا" بنهاية حصار طروادة وبدء عودة المحاربين إلى بيوتهم، لكن بسبب غضب إله البحر بوسايدن على أوديسيوس، تمتلئ رحلته بالمشكلات التي يضعها في طريقه بوسايدن أو بسبب تهور بحارته. يبقى في رحلته مدة عشر سنوات يواجه خلالها الكثير من المخاطر، وطوال هذه الفترة تبقى زوجته بينلوب بانتظاره، ممتنعةً عن الزواج، رغم العروض الكثيرة التي تتلقاها، لا سيّما بعد وصول أغلب المحاربين في حرب طروادة عدا زوجها.
إذن تركزُ الملحمة على قصة "بينلوب" التي قام بعض النبلاء بمحاصرة قصرها، ومطالبتها بالزواج من أحدهم، وعرضوا الكثير عليها، لكنَّها قامت بإقناعهم بالانتظار حتى تنتهي من خياطة ثوب العرس، فكانت تقوم بحياكته في النهار أمامهم، أمَّا في المساء فتقوم بحلّ ما حاكته، منتظرةً عودة زوجها "أوديسيوس"، والذي عندما عاد قامت بإعطائه قوسه، ليجمع النبلاء إلى وليمة ويقتلهم في إيثاكا انتقاماً من الذين اضطهدوها في تلك الفترة.
سيرة وطن
فيما تبدو ملحمة "العوديسا الفلسطينية" سيرة وطن تتقاذفه الآمال والوعود، وقد غدا وحيداً في معركة الدفاع عن ترابه، وحكايةً مثقلةً بالعشق والانتظار، يعبر الشاعر فيها من الموت إلى الحياة، يتكئ كلما أضناه الشوق على ذكرياته التي لا تنتهي عن فلسطين ودروبها المخضرّة بالأمل، معبّأً بالحنين إلى "سيلة الظهر" التي شهدت فجر طفولته، وخطواته الأولى في دروب الحياة، وقد صار الأبُ شهيداً، فصول حنين موجع تترى إلى أمّه، تلك المرأة التي استدفأ بحضنها يوماً، قبل أن يخطفه صقيع المنافي ويرميه وحيداً على أرصفة الغربة مع آلاف اللاجئين، حفاةً إلا من غبار وتعب حملوه من تلك القرى والبلدات البعيدة، يقول:
"وجسدي عائدٌ في موكبهِ
إلى المنحنيةِ على نوْلِها.. وحجارتها
ولدها الوحيدُ محاصرٌ في المداخلِ.. والممراتِ الصعبةِ
بينكمْ.. وما هو بينكمْ
مِنْكُمُ هو.. وليس معكمْ
محاصرٌ بالأبيض والأسود
في غياب قوسِ قزحْ
وحضورِ كوفيةٍ.. وضفائرْ
حلمٌ طالعٌ من فوهة بندقيةٍ صدئةٍ
ومِنْ فوهةِ بندقيةٍ جديدةٍ
ومن حجر صوان..".
غير أنَّ هذا العائد، إلى فلسطين (المعادلة لـ بينلوب الأوديسا) ورغم الحصار والخذلان وعتمة الزنازين والمعتقلات وبرودة المخيمات وشقائها، سيرى في دروب عودته أملاً ومطراً وطرقاً وشجراً وغيوماً خبأت رعدها، وثوباً فلسطينياً يرتفع رايةَ أملٍ ولحنَ غناءٍ حزينٍ:
"عائدٌ في الصخورْ..
وننتظرُ كلٌّ على حافة..
أنتِ تطرزينَ ثوبكِ الفلسطينيَّ.. وأنا أغنّي
وعلى قلبي تصحو الكتبُ الثلاثةُ..
كتابُ النيلِ
وكتابُ البحرِ والأرضِ
وكتابُ الحروب القادمة".
لقد أسهبَ الشاعر واسترسل كثيراً في نبش دواخل الإنسان الفلسطينيّ المشرّد في أنحاء الأرض باحثاً عن أقصر طرق العودة إلى الفردوس المفقود، متجاوزاً الجراح التي أنهكته، والعالم الرمادي الذي يفتك بأحلامه، متحديّاً غيابه، أو تغييبهُ، لا فرق، يقول في ذلك:
"إنّي أرى طالعي.. في إناءٍ من الدمِ والزيتِ
في الرقصِ والموتِ..
في خطوتي.. عائدٌ.. في غيابي الأليمْ
عائدٌ في صباح الترابِ الحميمْ
ولستُ بميْتٍ.. ولا مستحيلْ
ولا أنتَ راوحتَ بينَ الرحيلِ.. وبينَ الرحيلْ
عائدٌ.. ولدي الآن في عرقِ الضوءِ
يركضُ في صحوةِ الشمسِ
هاجسهُ كحنينِ السهولِ إلى الغيمِ في القحطِ
أو كجنونِ الصحارى لوهمٍ من الظلّ.. والماءِ
أو كاشتعالِ الذهولِ قبيلَ اليقينْ".

شعريّة الأمكنة
في "العوديسا" لم يكتفِ خالد أبو خالد بالتأريخ للتراجيديا الفلسطينيّة، واستعادة فصولها المستمرة حتى اليوم، ليطلق آهاً طويلة وهو يرى سكاكين ذوي القربى وسيوفهم كيف تمزّق سيدة الزيتون الكنعانيّة، وأكفّهم تطعن حزن الربابات والزعتر، وتغتال في كل فجر آلاف الفراشات، بل سنمرّ في قصائده برمتها بأمكنة هي في وجدانه كما في وجداننا: (المخيمات.. مدارس الأطفال.. المدن التي تحاصره وقد أخلفت وعدها.. الخليل.. الجليل.. أوجاع يافا.. جنين.. دير غسانة.. السيلة.. مقام النبي لاوين.. قبر أبي.. البراري.. الشواطئ والمرافئ...)
كما يمكن القول إنَّ أبا خالد ليس شاعر الصور المؤلمة والقرى والبلدات المهجّرة والمدن المدمّرة، والأشجار المقتلعة، والبيوت التي تعصفُ بها الريح، وذكريات المشردين المبعدين قسراً عن أحلامهم المشتهاة، وحسب؛ بل هو المبدعُ الخلاّقُ الذي فتح أمداء القصيدة من أقصاها إلى أقصاها لتستوعب التراجيديا الفلسطينية، بأحداثها وأناسها، برموزها وشهدائها، ببطولات شبابها وشبانها المستمرة حتى اليوم أيضاً.
ذاكرة الموروث الشعبيّ
على أنَّ المعادل الجمالي الأبلغ الذي يمكن الوقوف عنده في هذه الملحمة الزاخرة، هو توظيف الشاعر للذاكرة والموروث الشعبي، واستلهام تفاصيله ومطالعه المعروفة لجميع الناس، وتجسّدت بصورة أوضح في أكثر من عشرين قصيدة لحنتها وغنّتها فرقة الجذور للأغنية الوطنية الملتزمة، من بينها: "زغردي يا أم الجدايل زغردي- سبّل عيونه ومد ايدو يحنونه- هلي علينا يا بشايرنا هلي- فلسطين مزيونة- البطل نادوا عليه... وغيرها".
أمَّا في قصائد "العوديسا" فقد قدّم هذا الموروث الشعبي بصورة مغايرة مختلفة، إذ ذهب إلى طقوس الجنازات وأغاني الزفاف والمواسم وقطاف الزيتون والحصاد، يقول في حواريته الشعرية "المشرّد والحصاد" التي كتبها عام 1966 على لسان الحادي:
"الحادي: "احنا زرعنا وما خسرنا زرعنا..
يا ميجنا..
هيا عتابا ظلي عمري وانجلي
تا يصير صدري من همومه منجلي
وأنزل على الزرعات وأسحب منجلي
وأحصد منايا ومين يغمّر بعدنا"..
فيردّ عليه الحصادون: "يا منجل الحصاد هذي حصتكْ
الواد والمعناة* وأنا زلمتك
والهيش* والبيّاض تحت رحمتك
والجمل والبيدر بدهم همتك
والصاج والطابون*
والأم والأولاد
فرحتهم فرحتك
يا منجل الحصاد".
وفي استدعائه للمفردات التراثيّة الفلسطينيّة، ركّز الشاعر خالد أبو خالد على الزغرودة و"أبو الزلف" والعتابا والميجانا؛ حتى باتت ألفاظاً تعبّر عن رغبة محمومة لديه للدفاع عن هذا الإرث اللغوي المرتبط بحكايات يعرفها الفلسطينيون وحدهم، فالميجانا التي تعدّ نوعاً من الشعر العامي في بعض اللهجات العربية، كما جاء في المعاجم وكتب التاريخ، هي لدى الفلاح الفلسطيني العصا الغليظة التي كان يستخدمها في دقّ القمح، وتثبيت أعمدة الخيمة، ويستخدمها أيضاً في الدفاع عن النفس حتى أصبحت رمزاً للرجولة والكرامة، يقول في قصيدته "يا ميجانا صبراً.. يا ميجانا يا ريم":
"وأنا أحبُّ الميجانا
وأنا الترابْ..
طفلي على قلبي.. وقلبي لا يموتْ
يا ميجانا.. الكتبُ التي احترقتْ
يا ميجانا.. الصّوانْ
يا ميجانا.. الشبلُ الفلسطينيُّ.. والنيرانْ
وأنا أحبُّ الزعترَ الأخضرْ
وأنا أحبُّ رغيفنا الأسمرْ
وأنا أحبّكِ لو شقينا.. أو سعدنا
وأنا أحبّكِ لو رحلنا.. أو بقينا.. أو قُتلنا
أو...
أحبّكِ.. في المساءِ
وفي الصباحْ
وأنتِ نجمتيَ الشريدةُ.. أنتِ وجهي
والدليل إليكِ.. ورحبة مثل السماءْ
إني أحبّكِ... مثلما أحببتني
يا ميجانا..".
السير الشعبيّة
ولعلّ الملمح الجمالي الموازي للذاكرة والموروث، واستحضره أبو خالد من وقائع التاريخ وأحداثه وعِبَرِهِ الكثيرة، ليضيف إلى قصائده عوامل نجاح تجعلها أكثر خلوداً في روح المتلقي ووجدانه، وهو المؤمن بأنَّ كل شيء لا بدَّ من مقاربته وربطه بالواقع الفلسطينيّ، هو سعيه إلى ابتكار نصٍّ شعريٍّ يعصرن السيرة الشعبية العربية لبعض الشخصيات التي أَثْرَتْ التاريخ وأَثّرتْ فيه تحت العناوين التالية: المهلهل- سيف بن ذي يزن- عنترة- هلال- شهرزاد في الليلة الثانية بعد الألف. وهنا على سبيل المثال يتقمّص الشاعر شخصية عنترة بن شداد وسيرته الذي اغتيل من الخلف لكنَّه لم يسقط عن جواده الأبجر، بل ظلّ واقفاً ليفوّت على الأعداء فرصة تمزيق بقايا القبيلة التي افتداها دائماً بنفسه، ورفض سادتها بالمقابل أن يعترفوا بأنَّه أحد أبنائها، يقول في قصيدة "عنترة":
"وفارسُ عبسٍ لها
واقفٌ.. واقفٌ
حدّهُ قلبها
قمرٌ
صارَ أبعدَ عن ناظريهِ
وأقربَ من قَلبهِ
ظلّ
أسخنَ من كلِّ ما ينزفُ الجرحُ
أكثرَ حُزناً من الحزنِ
ما زالَ
يا وجهَ عبلةَ لم نفترقْ
خبّري الحيَّ أنّي هنا
أو هناكَ
فحيثُ تكونينَ
إنّي أكون...".
لقد برعَ الشاعر خالد أبو خالد الذي عاش في عمان والكويت وبيروت في شعره قبل أن يرحل في الليلة الأخيرة من العام المنقضي (2021) في دمشق، وتعدُّ "العوديسا" السطر الأخير في تراجيدياه، ففيها حشد مكوناتٍ جماليّةً جمّة، سمت بملحمته وارتقت في خطابها الشعري ودلالاتها لتقف بثقة إلى جانب الملاحم الإبداعيّة الكبرى، عمادها وعمودها الأساس الإنسان الفلسطيني الحالم دائماً وأبداً بالتحرير والعودة.
كلمة أخيرة
بقي أن نقول: إنَّ "العوديسا الفلسطينية" تضمُّ في جزئها الأول أربع مجموعات شعرية هي (وسام على صدر الميليشيا- نقوش محفورة على مسلة الأشرفية- تغريبة خالد أبو خالد- أغنية حب عربية إلى هانوي). واشتمل الجزء الثاني خمس مجموعات شعريّة هي (الجدل في منتصف الليل- شاهراً سلاسلي أجيء- بيسان في الرماد- أسميك بحراً.. أسمّي يدي الرمل- دمي نخيل للنخيل).
أمَّا الجزء الثالث والأخير فيضمّ (قصيدة "العوديسا"- وثلاث قصائد جديدة هي: تفصيل آخر من لوحة الصعود إلى العراق، تقاسيم عصرية على مكابدات المعري، نداء الجنوب. إضافةً للمجموعات الشعريّة: (فرس لكنعان الفتى- رمح لغرناطة- معلقة على جدار مخيم جنين- فتحي.. مسرحية شعرية- وقتلنا الصمت- الرحيل باتجاه العودة).

هوامش:
_____________
*"المعناة": الأرض المستطيلة الشاقة.
* "الهيش": الأرض الجبلية الوعرة. "البياض": الأرض ذات التراب الأبيض.
* "الطابون": فرن بيتي يشبه التنور.