طقوسُ العبور والتبدلات النفسيّة في رواية/ الإيبس: طائر الآشمونين المضيء؛ مقاربة نقدية من منظور نفس_ أنثربولوجي

د/ رشا الفوال
أكاديمية وباحثة مصرية
إذا افترضنا أنَّ فهم شخصية الإنسان يتم من خلال فهم السياق المجتمعي السائد في فترة تاريخية محددة، وملاحظة التناقضات السلوكية، وتحولات الأهداف، وبالتالي اختلاف وسائل تحقيقها تبعًا لتعدد الأطر الثقافية، فإذا كانت"الشخصية" دالة على التنظيم الدينامي الذي يتسم بقدر كبير من الثبات، ويحدّد استجابات الأفراد للمواقف توافقًا مع البيئة من المنظور السيكولوجي، فإنَّ"الشخصية" دالة أيضًا على نسق الاتجاهات، والقيم، والمعتقدات المشتركة بين أفراد المجتمع الواحد من المنظور السوسيولوجي؛ ولأنَّ الأنثربولوجيا في أبسط معانيها هى علم دراسة الإنسان؛ فإن الأنثربولوجيا النفسية تهتم بالبحث في إدراك الإنسان_ككائن اجتماعي عبر الأزمان وفي سائر الأماكن_ ومعتقداته في إطار مفهوم"الوحدة النفسية" المشتركة بين البشر وما يتلقاه من تعليم وتنشئة اجتماعية.
في رواية: الإيبس طائر الآشمونين المضىء الصادرة عام 2021م عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يسرد لنا الكاتب: سفيان صلاح الدين متاهات"الذات" و"الصراعات الوجدانية"؛ لنجد أنَّ حياة الشخوص داخل الرواية عبارة عن حلقات متقاطعة فكريًّا واجتماعيًّا، وإذا كان علم النفس الفردي موضوعه الأول هو الفرد، والطرق التي يسلكها من خلال"المناورات النفسية" وصولًا لتلبية رغباته واشباع حاجاته؛ فالجماعة السيكولوجية لها دورها الدائم والمستمر في حياة الفرد وفقًا لطبيعة العلاقات القائمة _تلك العلاقات التي يمكننا النظر إليها من خلال المكان الروائيّ_ والطقوس المجتمعية، ولغة الحوار بين الشخوص، وحتى على مستوى المونولوجات الذهنية التي أسهمت في التداخلات الزمنية من خلال آلية"الاسترجاع"(1)
أولًا: المكان الطقسي ومناورات الذات.
"الأفكار تدور في كل أرس، أمَّا الأماكن في دماء أهلها"
تصدير الرواية بهذه الجُمل يدفعنا لافتراض أنَّ المكان الروائي هو المنتج الأول لهُوية التناول النقدي، ومنهجيته، لذا نسعى في هذه القراءة لاستلهام التراث الأنثربولوجي لفهم"الممارسات الطقسية المكانية"، فإذا كان المكان أنثربولوجيًا هو" الفضاء الذي ينشغل بواسطة الجسم، ويُفهم ويُجرب ويتم وعيه وإدراكه عن طريق اقرار العقل وإحساس النفس وعاطفة الأفراد"(2)، فتعريف المكان للمتلقي تم في الرواية الحالية من خلال وصفه، ووصف رموزه، وقيمه، وأيضًا من خلال الاتكاء على مفهوم "الطقس" الذي استُخدم في ميدان علم الاجتماع، والأنثربولوجيا، والميثولوجيا، والأدب" وأحداث الرواية تدور في فلك"المكان الطقسي" وثنائية"القبول/ الرفض"، وإذا كان الزمان في الرواية يرتبط بالإدراك النفسي والمكان يرتبط بالإدراك الحسي، يمكننا اعتبار المكان الذي تدور به أحداث الرواية فضاءًا جغرافيًا يصلح للدلالة على هُوية الأفراد، خاصةً أنَّ الكاتب برع في"اسقاط" المنظومة"الثقافية/ الاجتماعية" على المنظومة البيئية؛ يقول الراوي العليم" بلد لا يفوتها شىء من دين أو دنيا، وهم المرجع لمن حولهم في الزراعة، وكتابة العقود، وتوزيع الميراث، وحل بعض المشاكل القانونية".
فاذا اعتبرنا أنَّ قراءة الحدث تعتمد على المعطيات المكانية التي يسردها لنا الكاتب من خلال الوصف، والتفاعلات بين الأفراد، وإعادة كتابة البعد الأثاري الخاص ببنية المجتمع، كان علينا إعمال العقل في الجانب التأويلي الخاص بعلاقة الثقافة بالمكان، لنجد أنَّ أحداث الرواية قائمة في مجتمع صغير محدد مكانيًا" بلدة الآشمونيين"، لذا قام الكاتب بسرد تأثيرات المكان على الأفراد.
ولأنَّ "طقوس العبور" نعني بها تغيير الوضع الاجتماعي للفرد، والانتقال من طور إلى آخر، فكل انتقال هو تحول من حال إلى أخرى، هنا تبزغ مناورات"الذات" الناتجة عن تحولات"الأنا الراغبة" إلى"أنا مصدومة"، لنجد أنفسنا أمام شخصية "عادل" وثنائية الأنا"الطامحة/الرافضة" لكل مظاهر التبعية والخضوع من خلال"العبور الاندفاعي" كمناورة تعالج بها(الذات) وضعها المأزوم في العلاقة بالأب أولًا، يقول: "رغم أنَّ عمي من عشاق صحبة المتصوفة ويصطحبني معه إلى حلقات الذكر، أبي لا يطيق هذه الفئة من الناس! لا أعرف لماذا؟ وحين شاهدني وكنت طفلا نادى علىّ وسحبني إلى المنزل وصاح بعصبية: لو رأيتك مرة أخرى بدون قسم سوف أطلق النار عليك".
ثم العبور من حال الفرقة إلى حال الاجتماع ولم الشمل ثانيًا، يقول البطل الهارب من بطش أبيه؛ ليقوم بدور الراوي العليم، ويحدثنا عن التحوّل النفسي لــ"كمال" من الإنسان الطموح_ الراغب في دخول كلية الصيدلة_ إلى كتلة اضطراب نفسي متراكمة بعد دخول كلية الآثار، ثم التحوّل مرةً أخرى إلى بهلول هائم على وجهه بعد موت حبيبته"نادية" وفي هذا دليل على قسوة الصدمات.
ونجد "تحوّل الذات" من التوهج وحياة الاستقرار إلى الخفوت في شخصية"تينا" المسيحية خاصةً بعد تحوّل زوجها"لبيب" إلى الإسلام، هذا التحوّل الذي يسمى أنثربولوجيًا "طقس الشروع"، حيث عبر الكاتب هُنا عن ثنائية"المباح/ المحظور" في طقوس الزواج أيضًا، تقول"تينا" عن طقوس زواجها: "روح العذراء ترعاني من السماء، وأحبة كثيرون يحيطونني على الأرض، لم تكن أم محمود وحدها معي، فهناك أم موريس، وسارة، وفاطمة، وأم جمال، وراعوس، ونفيسة، وأم رمسيس"، وطقس"الإنجاب"، وطقس"الموت"، فنلاحظ أنَّ "المشاهد الطقسية" الملاحقة لذهن الكاتب جعلت من الخطاب السردي مؤشرًا على الجوانب المشرقة للمجتمع في" الآشمونين" خاصةً على مستوى استرجاع تعاضد المسلمين والمسيحين.
نجد أيضًا تحولات شخصية "سامية" والعبور من الحياة الفوضوية إلى الحياة المقيدة المنضبطة أولًا، ثم العبور من التحرر الزائد إلى معاناة فتور العاطفة وتأزم العلاقة مع"كمال" خاصةً بعد عبور حبيبته "نادية" من الحياة الدنيا إلى الآخرة، يقول الراوي: "سكنت نادية مقابر العائلة، وسكن كمال الغيبوبة".
تتضح لنا أيضًا من خلال أحداث الرواية الذات المتأرجحة في شخصية"رضا"، وأزمة العبور الحضاري من المكان البدائي إلى المكان المتمدن في شخصية"خليفة الخواص"، يقول الراوي: "خليفة الخواص نموذج للإنسان الأول الهابط من السماء، وأول من يكسر إطار هذه المنطقة ويخرج للفضاء الرحب، فيدخل كلية الآداب ثم يغير مساره لكلية الحقوق".
ثانيًا: الكثافةُ الوجدانيةُ للشخصيات والمراوحة بين الأنساق السردية.
"منها خلقناكم للعمل والجهاد، وفيها نعيدكم للدود والتراب، ومنها نخرجكم للعرض والحساب"
مفهوم"الشخصية" من أكثر المفاهيم الاجتماعية تعقيدًا، فالشخصية القومية تعني الخصائص العامة لدى الأفراد والتي تجعلهم يسلكون سلوكًا موحدًا في مواقف مجتمعية معينة، على ذلك فالطابع القومي الاجتماعي للشخصية اتضح في الرواية من خلال العلاقة بين بناء الشخصية والبناء الاجتماعي، من خلال رصد الكاتب للظروف الاقتصادية، والأيديولوجية، والسياسية، والثقافية، هنا لاحظنا أنَّ شخصيات الرواية قادرة على دفع الكاتب إلى مغامرات سردية، نذكر منها على سبيل المثال رد الفعل الهروبي لــ"عادل"، وتمرده على"المكان الطقسي" في أول الأحداث، وانسياق زوجته"هويدا" خلف طقوس الأم البدائية من أجل الإنجاب في نهاية الأحداث، لا غرابة في ذلك لأنَّ الطابع القومي يمكننا استنتاجه من خلال تقديس الطقوس الموروثة.
نلاحظ أيضًا عجز الأفراد عن التعبير عن رغباتهم في تغيير أي جمود فكري يخصُّ المجتمع الإقطاعي؛ فــ"عادل إسماعيل صار مزارعًا، ورشدي سالم صار علامة"، ثم يأتي التعبير السردي عن الإيمان بقيمة العلم والاعتراف بسيادة العقل والطموح من خلال النمط الرأسمالي، وإقبال"نادية" المسيحية على"كمال" المسلم أثناء فترة دراستة في الجامعة، وجرأتها معه، لتتجلى طاقات الحب والغضب، والإحساس بالعجز في المناقشات الفكرية التي اتّخذت الطابع الفلسفي التوليدي عن ثنائية"الحرية/ العبودية"، "التسامح/ العنف"، "الأنا/ النحن"، تلك الطاقات التي أبرزت دواخل النفوس المعذبة. ولأنَّ الطقوس والمعتقدات بينهما علاقة اعتمادية تبادلية، نجد أنَّ"الطقس" الذي يأتي كناتج لمعتقد معين يعمل على خدمته، ما يلبث حتى يعود إلى التأثير على المعتقد فيزيد من قوته وتماسكه(3)، نلاحظ ذلك في إطار الخصائص الجديدة التي طرأت على الشخصية المصرية، والتي هدف الكاتب من خلالها إلى القاء الضوء على علاقة الأفراد الجدلية بالتحولات المجتمعية"الطبقات/القيم" وما أدت إليه هذه التحولات من تناقضات وجدانية، وكأنَّه يقول للمتلقي إنَّه لا وجود لثبات مطلق في الحياة، ولا وجود لتغير مطلق أيضًا، إنَّما هناك تغيرات نسبية.
اتضح ذلك من خلال رصد الكاتب التعلق بالعلم، مقابل التعلق بالمعتقد أو الطقس الشعبي، لندرك أنَّ الطابع القومي للشخصية متغير أيضًا، خاصةً مع الانفتاح الاقتصادي الذي أدى إلى عدد من التغيرات في النسق القيمي منها: تدهور أوضاع الطبقة الوسطى والدنيا، والتوجه من أجل تكوين الثروات مع انتشار قيم الفساد، وقيم الفردية، واللامبالاة، يقول الراوي: " الجامع يغلق بعد العشاء مباشرة ولا تقام حضرة المتصوفة، والمساحات الواسعة تحولت إلى عمارات بالمسلح، ومدرسة الأشمونيين أصبحت مدرسة خالد بن الوليد".
ولأنَّ الخطاب في الرواية يمثل موقفًا من ثقافة المجتمع وطقوسه ويترك المتلقي للاحتمالات، جاء النسق السردي الخاص بالراوي الذي عليه أن يترك سلطته السردية، ويمنح الشخوص فرصة الحكي والإفصاح وتداعي المعاني أولًا؛ وهو نسق السلطة المبني على التوافق في النسب/ الجاه/ الكرم/ الشجاعة، مقابل نسق السلطة المبنية على الأسس الدينية في العلم/ الشرف/ الأئمة.
ثم النسق السردي الذي نهض بعبء الأبعاد الأنثربولوجية على لسان"تينا" القادرة على مسرحة الحدث ثانيًا، ربما لذلك كانت اللغة السردية التي رصدت الوضع المجتمعي لغة "تراثية طقسية" تلامس الأرواح.
وجاء النسق السردي الثالث الذي سيطر فيه الراوي العليم كبطل ثانوي، يحكي لنا اللحظات النفسية القابعة خلف الأحداث المجتمعية والتحولات الشخصية الظاهرة، ربما لذلك لاحظنا الكثافة المشهدية لأحداث الماضي مع بطء السرد، والتسريع السردي بعد انتهاء المناورات النفسية، مع ملاحظة أنَّ إبطاء سريان الزمن أثناء وصف المشاهد الخاصة بالطقوس الشعبية أسهم في إمداد المتلقي بالمعلومات عن طبيعة المكان، لنجد أنَّ البعد القبلي متمثل في القيم"الخرافية/الأسطورية"، والبعد الآني يرتكز على الرموز"المكانية/الزمانية".
ولأنَّ الحوار يمكننا النظر إليه كمعيار نفسي دقيق يعطي للأفراد حرية"التداعي الطليق" وينقل السرد من المستوى الذاتي إلى المستوى الموضوعي، جاء دالًا على المستوى الفكري للشخوص.
فإذا افترضنا أنَّ الزمن الخارجي والزمن النفسي كلاهما يولد الآخر، نجد أنَّ الزمن النفسي للشخصيات المأزومة في الرواية جاء كانعكاس لتقلبات العناصر الزمنية الخارجية مثل: الاستعارات، ورموز تصوير الذات الإنسانية المرتبطة بالجماعة السيكولوجية خضوعًا أو هروبًا، اتضح ذلك أيضًا أثناء المونولوجات الذهنية حيث السيطرة للزمن النفسي وما يتضمن من هواجس وانفعالات قادرة على استبعاد الأفكار المنظمة.
ولأنَّ الرموز التاريخية والاجتماعية نعني بها الأنماط العليا للمجتمع، التي يحتفظ بها في ذاكرته الجمعية، ومدى انعكاسها على سلوكيات الأفراد، لجأ الكاتب في تمثيلها إلى توظيف الموروث باعتباره مخزونًا فكريًّا وروحيًّا، تم ذلك من خلال: المراحل الزمنية لطقس العبور، التي تمثلت في الزمن التمهيدي كمعادل موضوعي للانفصال عن المكان الطقسي، ثم الزمن الاستهلالي كهامش بين مرحلتين، وصولًا إلى الزمن الختامي الدال على العودة(4)، فالاستمرارية التراكمية التي اتسم بها الأفراد داخل المتن الروائي دالة على أنَّ الجديد من السمات تفاعل مع القديم تفاعلًا جدليًا.
خاتمة:
في رواية: الإيبس طائر الأشمونيين المضىء، يحدثنا الراوي العليم"عادل" من خلال لغة العلاقات المكانية، فمن خلال"المكان الطقسي" تم التعبير عن تحولات الذات ومناوراتها سرديًا، مع ملاحظة أنَّ التنقل بين الأماكن كان سببيًا، ومناسبًا لتقلبات الأحداث، وبالتالي منطقية التحولات، فإذا نظرنا إلى المكان الروائي بوصفه الحيز أو الحقل الدلالي المؤسس لهُوية الأفراد، أمكننا إدراك الربط بين المكان، والزمن الاجتماعي للأحداث، هذا الربط الذي أحدث تحولات حتمية في نسق الخطاب السردي.
إذا كانت الطقوس والممارسات البدائية الموروثة أنثربولوجيًا يمكننا النظر إليها كتنظيم لهُوية الأفراد، فهناك عدة آليات اعتمد عليها الكاتب منها:
أولًا: اختيار المكان الروائي كممثل للمجتمع ككل، والذي جاء عاكسًا لثقافته، ولدرجات التماسك نفسها السائدة تقريبًا في فترة زمنية محددة
ثانيًا: البداية من الحدث العام النمطي للتعبير عن تجربة بطل الرواية الخاصة، وصولًا إلى التعبير عن جوهر معتقدات الجماعة السيكولوجية.
ثالثًا: مارس الكاتب لعبته السردية بمخالفة دورة الطقوس الحياتية التي غالبًا تبدأ بالميلاد وتنتهي بالموت والانفصال، وينهيها بالعودة والميلاد، كأنَّ نسق الخطاب المضمر بدأ من الموت، والعجز عن مواجهة سلطة الأب، ربما لذلك عاد الرافض المتمرد العاجز عن المواجهة مرةً أخرى للمكان الطقسي كذات فاعلة قادرة دون تضخم.
رابعًا: الختام التعويضي كترميم لتصدعات البنية المجتمعية وتأزمات الشخوص؛ ذلك أنَّ مجرد رصد تصدع بنية المجتمع أو استقراره لا يفضي إلى خطاب سردي متسق انطلاقًا من مقولة "دوام الحال من المحال".
خامسًا: الكثافة الوجدانية للمشاهد السردية التي تبدأ من النسق اللغوي الخاص بتهديدات الأب وسلطته الرمزية، وهروب البطل"عادل" من محاولة إثبات العلاقة الروحية التي تحكم توجهه الصوفي.
سادسًا: جاء تقسيم العلاقات بين الشخوص من"التسامي النفسي" البعيد عن التنافر كتمهيد للتصدع التدريجي في بنية المجتمع وما أدى إليه من سلوكيات دموية ورغبات تدميرية لكل من يخالف ممثلة في شخصية"رشدي سالم".
وإذا تحدثنا عن دينامية الرواية الحالية باعتبارها سوسيو ثقافية؛ لوجدنا أنَّها أبرزت العلاقات التناقضية بين التقليد والحداثة، مع ملاحظة أنَّ هذه العلاقات التناقضية لم تفرز صراعات ثقافية، إنَّما أفرزت ردود أفعال تلقائية دون إكراه انتهت باللجوء إلى القيم الأصلية، وللكاتب براعته هنا في ضبط"الصراع"، ربما لذلك سادت لغة الاعتزاز بالمكان السردي، وإظهار العلامات المجتمعية الدالة على التسامح، والتوحد الوجداني تجاه الذات الإلهية، وتكاتف الجماعة السيكولوجية للعودة بالذات الغائبة "كمال" من خلال تجاوز الصدمات، هنا "تحول سردي" أيضًا تم فيه الانتقال من رصد العلاقات المبنية على المنفعة المتبادلة، إلى رصد التلاحم للتصدى للمشكلات، تم ذلك من خلال السرد الضمني لأهم السمات البنائية للشخوص وفي مقدمتها التدين، والكرم، والرضا، ونبذ العنف وارتباط الأفراد بالأسرة والأرض، والالتزام بالطقوس الخاصة بالدفن، والزواج، وتقديم سلوك"النحن" على سلوك"الأنا".
الرواية الحالية هى رواية التحولات المجتمعية في تأثيرها على السمات البنائية للشخصية المصرية، مع ملاحظة أنَّ الكاتب لم يسعَ إلى استعراض مناورات الذات في الرواية بقدر ما سعى إلى رصد التحولات المجتمعية، ومدى تأثيرها على السمات الشخصية، مع إبراز الفكرة التي مفادها: أن استقرار وثبات المجتمع طريقة لمواجهة متطلبات أفراده، خاصة مع انتشار قيم البحث عن الكسب المادي السريع دون بذل جهد حقيقي، وسيادة حالة من العنف الديني والشكلي.
إلا أنَّ إشكالية الرواية الحالية تكمن في مدى استيعاب المجتمع للحداثة والتجديد، أو الانخراط في حال(الصراع)، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما الفائدة من إحياء الطقس المجتمعي البدائي وتصويره وتسليط الضوء على فاعليته الحاضرة؟
ربما نجد الإجابة إذا نظرنا إلى الحكاية بوصفها شكلاً من أشكال التأمل البدائي الفلسفي للمفاهيم الموروثة التي امتزجت بالحياة الاجتماعية للأفراد، وسعي الكاتب إلى المحافظة على الإرث الثقافي وتوظيفه سرديًا، لأنَّنا ببساطة وفقًا للتصور الأسطوري للمجتمعات والأفراد، نجد أنَّ العلاقات بين الأفراد قائمة في معظم الأوقات على التراخي وإعادة إنتاج القيم الموروثة، هذا على اعتبار أنَّ "الطقوس الدورية الكبرى" تخرج من الزمن الدنيوي، وتدخل في الزمن الميثولوجي، وكأنَّها إعادة إحياء للتجربة، وعليه يتحوّل الأفراد مهما كان مستواهم العلمي والثقافي إلى كائنات "طقوسيّة رمزيّة".
الهوامش:
1_ محمد الخطيب(2000)، "الإثنولوجيا: دراسة المجتمعات البدائية"، ط1، منشورات دار علاء الدين، دمشق، صــ13
2_ سوزان لانسر(2005)، "نحو علم سرد نسوي"، تر:أحمد صبرة، مجلة نوافذ، النادي الثقافي الأدبي، جدة، ع33
3_ فراس السواح(2001)، "الأسطورة والمعنى: دراسات في الميثولوجيا والديانات الشرقية"، ط2، دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة، دمشق، سوريا، صــ129
4_ فلاديمير بروب(1989)، "مورفولوجيا الحكاية الخرافية"، تر: أبو بكر احمد باقادر، وأحمد عبد الرحيم ناصر، ط1، النادي الثقافي بجدة، المملكة العربية السعودية، صــ51