ياسين الشعري (كاتب وناقد من المغرب)
يسلط هذا المقال الضوء على مجموعة من الأسئلة التي نرى أن إمكانية الإجابة عنها لا بد أن تسهم في تغيير وتبديل نظرتنا الموروثة للخطاب السجالي، كما بإمكانها أن تشرع الباب أمام الاهتمام به وتخصيص مزيد من الدراسات للكشف عن سماته الخطابية وآلياته البنائية المختلفة، لعل أهمها: أي دور للسجال في بناء المعرفة؟ هل يمكن أن نعد الخطاب السجالي خطابا لا معرفيا، يتوخى فقط الإساءة إلى الخصم، وإدانته في المعركة الكلامية، دون أن يكلف نفسه عناء الانخراط في التفكير الابستمولوجي، الهادف إلى تطوير المعرفة، والمساهمة في بناء الثقافة، والانخراط الواعي في النهضة الفكرية؟ هل يمكن النظر إلى الخطاب السجالي بصرف النظر عن أهميته في الساحة الفكرية والثقافية، والاكتفاء بترديد تلك الكلمات الموروثة، التي تدين / تحرم الانخراط في السجال؟ ثم ألا يتطلب الانخراط في العملية السجالية من المساجل أن يكون مزودا بمجموعة من الكفاءات على رأسها الكفاءة المعرفية، حتى إذا ما لم يتحقق ذلك كان مصير الخطاب السجالي الانزلاق إلى حافة الخطابات التي يمكن نعتها بـ"الخطابات الفارغة"؟
1- بناء المعرفة في الخطاب السجالي
يمكن تقسيم الخطابات عامة إلى قسمين، خطابات مركزية، لقيت إقبال النقاد والباحثين، واهتموا بها اهتماما بالغا، فقد فرضت نفسها عليهم بفعل ما تمتلكه من سلطة فنية وجمالية، وأخرى هامشية، مقموعة ومنبوذة، يسم بلاغتها "جابر عصفور" بـ"بلاغة المقموعين"، وهي بلاغة «أنتجتها المجموعات الهامشية التي لعبت دور المعارضة، والتي كانت على خلاف مع سلطة "الدولة" القائمة، ابتداء من الدولة الأموية، وانتهاء بالدول المتأخرة التي صحبت انهيار الحضارة العربية»(1). وتتسم الخطابات المنتمية لهذه البلاغة بانزياحها عن تلك القيم التي تحملها الخطابات المركزية، لذلك عانت ضروبا من الإهمال والمنع والمحاربة، وتعرضت لأشكال من التضييق والإبعاد عن ساحة الدراسة والنقد، ونُظر إليها بأنها خطابات فاقدة للمعايير التي يكتسب من خلالها كل نص نصيته(2). وفي صلب هذا الصنف من الخطابات يندرج الخطاب السجالي، الذي لطالما أدين بفعل طبيعته القائمة على الصراع والمواجهة والعنف اللفظي، وتم حذفه من المقررات الدراسية، بسبب أنه يعلم الناشئة حب الصراع الخطابي والمواجهة، وينمي فيهم مشاعر العنف والعدوانية. غير أن هذا المنع لم يكن مستوعبا للعلاقة الجدلية ما بين السجال والفكر، «فعن طريق السجال يمكن للعقل أن يعي ذاته، ويطور أفكاره بتواصله مع الآخر»)3). وتتمثل إشكاليتنا في التعامل مع الخطاب السجالي أساسا في «فهمنا السلبي لمعنى الملفوظ، وقصد المتكلم من خلال الركون إلى المرجعية اللغوية للفظ، وليس المرجعية الإبستمولوجية التي تفتح المعنى على آفاق جديدة غير تقليدية، وهذا الفهم الحرفي لم يتعد السياق التاريخي والمرجعية الثقافية للملفوظ، الأمر الذي جعلنا لا نضيف جديدا إلى معنى هذا الخطاب على مدى أزمان متباعدة؛ لأننا انحدرنا من تصور سلبي حصر أفقنا النقدي حول هذا الخطاب في ملفوظات السب والقذف المتبادل بين طرفي الخطاب، واكتشاف خطر هذا الخطاب على عقول النشء في المدارس!!».)4)
أما نحن فلسنا نبخس في هذا المقال من قيمة الخطاب السجالي، ولا نتوخى أن نقلل منه، واتهامه بأنه خطاب غير بان للمعرفة، كشأن أحد الباحثين الذي رأى أنه «خطاب توجهه الرغبة في إبطال رأي الخصوم أكثر من أي شيء آخر. [..] وبالتالي فهو لا يبني معرفة ولا يبرهن على حقيقة»)5)، وإنما ننطلق من تصور يؤمن بأن الخطاب السجالي هو خطاب يسهم في بناء المعرفة، ويدل وجوده في بيئة ما على الفعالية الابستمولوجية لهذه البيئة. فتاريخ الفكر - إذا جاز لنا ذلك - تاريخ سجالي، بدءا من العصور اليونانية حتى عصرنا الحاضر، إذ لطالما لعب دورا في تقدم المعرفة وفي تجاوز الأنموذج القديم والموروث، ليعلن الأنموذج الجديد بديلا عنه. إنه تاريخ صراع وسجال لا يستقر إلا ليستيقظ من جديد، فكل فكر جديد يحاول أن يستوعب القديم ثم يتجاوزه معرفيا، إلى أن يستقيم فكرة فكرة، ويفرض ذاته، إلى أن يأتي فكر آخر يتجاوزه ليقدم أنموذجا معرفيا آخر مختلفا عنه... لذلك فاعتقاد أن الخطاب السجالي خطاب غير معرفي هو قول يُناقض تاريخ الفكر، الذي يشهد على أهمية هذا النوع من الخطابات، فقد كان الفلاسفة يدخلون في سجال مع بعضهم، حتى وإن لم يفصحوا عن ذلك، إذ لم تتطور الفلسفة في نظرنا إلا في ظل هذه العملية الخطابية، فهو «منزع وسم منذ القديم كثيرا من الآثار الفلسفية والفكرية، وأسهم من ثم في تغذية الفكر وتطوير المعرفة»)6). ويشهد التاريخ الحديث على ما كان بين الفلاسفة من سجالات أغنت الفكر الحديث وساهمت في تطوره. فقد كانت بين شوبنهاور وهيجل)7)، وبين سورل ودريدا، وبين دريدا وهابرماس؛ سجالات حادة لا يمكن أن نصفها إلا بأنها أغنت حقل المعرفة الإنسانية، وساهمت في زعزعة الأفكار وتغيير التمثلات والتصورات... لذلك فالسجال فضاء لتوالد الأفكار وبناء المعرفة، تزدهر بسببه، وتنمو في أحضانه، كما كان الشأن في القرن العشرين عند العرب، لما اشتدت المعارك والصراعات الفكرية والأدبية بين الباحثين العرب، وكان لها دورها في ازدهار العلم والأدب(8). وبخفوت السجال - حتما - سينطفئ بريق التفاعل بين الباحثين، وبالتالي سيؤثر الأمر سَلْباً على العلم والمعرفة.
بهذا المعنى، يروم الخطاب السجالي إحداث تغيير في المنظومة الإبستمولوجية والمعرفية، وإحلال تصور جديد بديل عن القديم والموروث والمتداول. فهو يحركه سؤال الانزياح عن السائد والمألوف، وبالتالي الرغبة في تقويضه وتجاوزه وإحلال وعي جديد محل وعي قديم يدعي أن من صفاته الزيف والتبعية للموروث والمتقادم. إنه يفكك نسقا، ويبني نسقا آخر يراه بديلا ابستمولوجيا للأول، تقوده في ذلك رغبة تحويل الوعي الثقافي القائم إلى وعي جديد، يدعي التماهي في الأنساق الجديدة، التي يفرضها تطور الثقافة، وعدم استقرارها واستنادها إلى أنموذج واحد وأوحد، ويجد له في الجديد سندا يعضده، ويجعل منه سؤالا راهنيا، لا ينقاد للتقاليد وإنما يعلن عن تمرده عليها وتجاوزه لكل ما هو نمطي اتباعي. لذلك يمكن وصفه بأنه خطاب ناسف للأنساق المعرفية والثقافية السائدة ومحاولة لبناء أنموذج ابستمولوجي أو ثقافي جديد، ينطلق من القديم في محاولة لتجاوزه والبناء عليه، أي إن السؤال الذي يحركه ليس كشف زيف القديم فقط وإنما أيضا محاولة بناء بديل له، من خلال عملية ابستمولوجية تكشف عن قدرة الذات على «الاستيعاب والتحول؛ ومن ثمة قدرتها على إعادة تنظيم العلاقات والفكر على أسس جديدة تستوعب فيها "الأنا" "الآخر" في صيغة اجتماعية حضارية فعالة وبناءة»(9).
بهذا، لا يمكن لأي ثقافة من الثقافات أن لا يوجد فيها سجال بين أفرادها، فهو منتشر في كل المجتمعات على حد سواء، المتحضرة منها والبدائية، فما دام هناك تفاعل ما بين ذوات المجتمع هناك سجال ورغبة في تجاوز الآخر. يثبت ذلك أن السجال خاصية من خصائص اللغة البشرية، لا يمكن أن ينفك عنها، وبالتالي فإن النظر إليه بوصفه خطابا لا يساهم في بناء المعرفة؛ هو نظر قاصر ولا طائل من ورائه سوى إقصاء هذه الوسيلة من وسائل اللغة. وقد رأى أحد الباحثين أن المقصود بإدانة الخطاب السجالي «نوع من السجال تقوده نوازع غير معرفية وتحرك أطرافه رغبة في إظهار البراعة في الاحتجاج وحب في إفحام الخصم والتفوق عليه»(10). يكشف لنا هذا القول أن الأصل في الخطاب السجالي ليس هو القهر والتسلط وقمع الآخر المخالف وشتمه والتحريض عليه، وبالجملة فهو لم يوجد لأجل ممارسة العنف والعدوانية فقط، وإنما ذلك ناتج عن عملية تحويل خاضعة لهوى النفس البشرية التي تقودها الرغبة في التملك والسيطرة. إن الأصل في السجال - بالمعنى الابستمولوجي - القيام بــ «تنظيم حوار مثمر وفاعل بين الـ"أنا" و"الآخر"، استنادا إلى قواعد ابستمولوجية تفرضها طبيعة الحوار ونوعيته»(11).
2- الكفاءة المعرفية في الخطاب السجالي
هل يمكن أن ننتصر في الخطاب السجالي دون أن نكون مزودين بخلفيات وكفاءات معرفية تخول لنا أن نفحم الخصم ونسكته؟ ألا تتطلب العملية السجالية من المتساجلين تزودهم من معين المعرفة الخاصة بالمجال الذي يخوضون فيه بل وبمجالات أخرى، لاسيما أن الخطاب السجالي غالبا ما يعرف استطراد الأطراف المشاركة إلى مواضيع أخرى وانزياحهم عن الموضوع الرئيس؟ ثم هل يمكن أن نحقق نجاح العملية التواصلية السجالية بمعزل عن فكر ومعرفة تؤطرها؟
تبدو هذه الأسئلة بديهية، غير أننا أثرناها كي نؤكد أن العملية السجالية - ما دامت عملية تحتكم في أساسها إلى المعرفة، وتساهم في إنتاجها - ليست عملية سهلة يمكن أن ينجح فيها المرء، ويتفوق على خصمه بسهولة ويسر. وإنما هي عملية معقدة تتطلب من المساجل أن يكون ذا كفاءة معرفية، تؤهله لخوض المعركة الكلامية ضد خصمه، إذ لا يمكن للسجال أن ينجح دون أن يستند إلى مرجعية فكرية تؤطره، وتجعله ذا غاية ابستمولوجية. أما وأن يقوم بين أطراف، لا يمتلكون أي كفاءة معرفية، تخول لهم أن يقودوا السجال؛ فإن الأمر لا يعدو أن يكون ضربا من اللغو الذي لا طائل من ورائه، فتغدو العملية التخاطبية بناء على ذلك قائمة على رفع الصوت والمجابهة غير المحتكمة لأي مستند معرفي. ولتفادي الوقوع في مثل هذه العملية نرى أنه من الضروري أن يكون المتساجلون مزودين بكفاءة معرفية، إلى جانب كفاءات أخرى، لغوية وثقافية... تضمن لهم النجاح في عملية السجال، وهي كفاءات تتعاضد فيما بينها وتتضافر لتحقيق القصد من السجال، المتمثل في تحقيق الغلبة والانتصار. و«ترتسم الكفاءة المعرفية في قدرة المساجل واستعداده المعرفي للمواجهة والانطلاق مما يحوزه من معارف سابقة، تجعله محل قبول لدى الجمهور المتلقي»(12)، إذ بإمكان هذه المعارف أن تحدد الدور المنوط بفعل الخطاب السجالي، فاستدعاء النصوص للاستشهاد مثلا - كما يرى ذلك مانغنو - يكسب الخطاب قيمة حجاجية، انطلاقا من فكرة السلطة التي قد تكون دينية أو علمية(13). على هذا النحو، لا يكف المساجلون عن استلهام مجموعة من الاستشهادات من مجالات مختلفة للإعلاء من شأن خطابهم وخدمة وظيفته الحجاجية...
الهوامش:
1- جابر عصفور، بلاغة المقموعين، ضمن: مجلة ألف، ع 12، 1992، محور العدد "المجاز والتمثيل في العصور الوسطى"، ص 6.
2- لمعرفة هذه المعايير يمكن الرجوع إلى كتاب عبد الفتاح كيليطو: "الأدب والغرابة - دراسات بنيوية في الأدب العربي"، دار توبقال للنشر، ط 7، 2010، ص. ص 16- 20.
3- أحمد عبد الفتاح يوسف، الخطاب السجالي في الشعر العربي تحولاته المعرفية ورهاناته في التواصل، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط 1، 2014، ص 13.
4- المرجع نفسه، ص 25.
5- محمد عابد الجابري، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، لبنان، ط1، 1996، ص 7.
6- حاتم عبيد، في تحليل الخطاب السجالي: تعقيب عبد الرزاق بنور على كتاب: "أهم نظريات الحجاج..."، مجلة فصول، ع 75/ شتاء -ربيع، 2009، ص 158.
7- لمعرفة تفاصيل هذا الصراع بين شوبنهاور وهيجل ينظر: آرثر شوبنهاور، "نقد الفلسفة الكانطية"، تعريب وتقديم، حميد لشهب، جداول للنشر والتوزيع، ط 1، 2014، مدخل الترجمة، ص 21-24.
8- للاطلاع على على هذه السجالات يمكن الرجوع إلى كتابي أنور الجندي:
- المعارك الأدبية في مصر منذ 1914/1939، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط2، 1983.
- المعارك والمساجلات الأدبية في مجال الفكر والتاريخ والحضارة، مكتبة الآداب، القاهرة، مصر، ط2، 2008.
9- الخطاب السجالي في الشعر العربي، مرجع سابق، ص 11.
10- حاتم عبيد، في تحليل الخطاب السجالي، مرجع سابق، ص 159.
11- الخطاب السجالي في الشعر العربي، مرجع سابق، ص 8.
12- سعيدة بومعزة، آليات الاشتغال السجالي في رواية كريماتوريوم سوناتا لأشباح القدس للروائي واسيني الأعرج، حوليات جامعة قالمة للغات والآداب، ع 21، ديسمبر 2017، ص 154.
13- المرجع نفسه، هامش ص 173.