د. إبراهيم بدران
أكاديمي وباحث أردني/ عضو هيئة تحرير مجلة أفكار.
من منظورٍ عمليّ يمكن القول إنَّ الثقافة المجتمعيّة هي تلك الرؤى والمفاهيم والمقاربات التي يصنع المجتمع من خلالها، أو انطلاقًا منها مواقفه وقراراته. وهذا يعني أنَّ الثقافة الأكثر أهمية على الصعيد العملي هي ليست ثقافة النخبة بقدر ما هي ثقافة المجتمع التي يجب أن تسعى الدولة ومؤسساتها ومثقفوها إلى تحريكها على مسار الارتقاء والتقدم والتناغم مع المستقبل. وهذا ما يبرر اهتمام الدول بمؤسساتها الرسمية والأهلية بالثقافة وسعيها الدائب إلى تشجيعها ومن ثم الإنفاق عليها والاستثمار فيها. ونلاحظ أنَّ الدول الأكثر تقدمًا هي الأكثر إنفاقًا على الثقافة المجتمعية بكلِّ مكوناتها؛ ابتداءً من الكلمة المكتوبة والمنشورة في كتاب أو صحيفة، والكلمة المسموعة والمرئية بكل الوسائل المتاحة، مرورًا بالنشاطات الثقافيّة من موسيقى ومسرح ومتاحف ومعارض، وانتهاءً بالصناعات والبرامج الثقافية على كل صعيد. وتلعب النخبة من المثقفين الدور البارز في إغناء هذه الثقافة والإضافة إليها.
غير أنَّه منذ القرن السادس عشر حين انطلقت الثورة العلمية لتتبعها الثورات الصناعية والتكنولوجية المتتالية انخرط العالم في فضاء العلم والتكنولوجيا؛ لتصبح جميع مفردات الحياة الإنسانية متأثرة أشدَّ التأثر بما يكتشفه العلم وتنجزه التكنولوجيا وتقدمه منظومات الإنتاج. ومن هنا غدت مجتمعات العالم، وبدرجات متفاوتة، في احتكاك متواصل مع العلم والتكنولوجيا بكل إبداعاتها الحاضرة والمستقبلية. وغدا كلُّ فردٍ في مواجهة لحظية مع ما يحمله العلم من معارف وما تقدمه التكنولوجيا من تركيبات، سواءً في الغذاء الذي يتناوله أو الكلمة التي ينقلها من أقصى المعمورة إلى أقصاها من خلال هاتفه الجوّال أو من خلال الطائرة التي يقطع بها آلاف الكيلومترات في ساعاتٍ قليلة، أو من خلال الدواء، أو الماء... والقائمة لا تنتهي.
والسؤالُ: ماذا عن ثقافة المجتمع؟ وأين ستكون من كل المستجدات التي تغيّر من أنماط الحياة بكل تفاصيلها؟. هل يمكن اليوم أن يُتّخذَ قرارٌ أو يتحدد موقفٌ أو يوضع برنامج يمكن الاطمئنان إليه بعيدًا عن قواعد العلم؟ وبالتالي هل يمكن لمجتمع أن يتقدم إذا استمرت ثقافته بعيدة عن العلم بأساسياته لا بتفاصيله؟. وحتى نخرج من العموميات فإنَّ ثقافة العلم في أيِّ مجتمعٍ لها محركاتُها التي تتمثّل في التعليم ومقدار الإنفاق على البحث العلمي والتطوير التكنولوجي، والإنتاج الوطني من السلع والخدمات، والأوراق العلمية المنشورة، وحجم التوظيف في التكنولوجيا المتقدمة، والمعارض العلمية والتكنولوجية في المدارس والجامعات وخارجها، والمجلات والنشرات العلمية التثقيفية التي تصل إلى الإنسان العادي، وكتب الخيال العلمي والمتاحف العلمية، واهتمام الإعلام بالثقافة العلمية، والمسارح والفنون، واللغة الوطنية بمصطلحاتها العلمية، والمتاحف العلمية، والوثائقيات العلمية المقروءة والمكتوبة والمسموعة، والمؤلفات والكتب العلمية التي تدور بين أفراد المجتمع، وغير ذلك.
في عام 1959 حين سبق الاتحاد السوفياتي العالم بالوصول إلى الفضاء الخارجي استدعى الرئيسُ "جون كنيدي" العلماء ليستشيرهم. وفي عام 1967 تألمت رئيسة وزراء الهند آنذاك "أنديرا غاندي" لحالة الجوع التي كانت تسيطر على الهند. فما كان منها إلا أن دعت مجموعة من العلماء، وليس السياسيين والإداريين، للبحث عن الحل. فكان الجوابُ "على الهند تطوير الزراعة بكل الوسائل التكنولوجية والعلمية الحديثة". فكانت الثورة الخضراء التي نقلت الهند من دولة مستوردة إلى دولة مصدرة للغذاء. والسؤالُ: ما الذي يجعل رئيس وزراء الهند يستدعي العلماء وليس السياسيين ليحلَّ مشكلة الغذاء؟ ويجعل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يستدعي العلماء لينظروا لماذا تقدم الاتحاد السوفياتي على أمريكا؟. وبالمقابل فإنَّ الأقطار العربية تنوء بالمشكلات المعقدة كالمياه والغذاء والتصحر وغير ذلك. ولكن المسؤول العربي غالبًا ما لا يستدعي العلماء لتطوير الحلول. قد تكون هناك أسبابٌ كثيرةٌ وراء ذلك، ولكن السبب الرئيس يتمثل في إشكالية تعمّق العقل العلمي والثقافة العلمية التي تجعل المسؤول يدرك بشكل قطعي أنَّ العلم والتكنولوجيا هما الطريق لحلِّ المشكلات أيًّا كان حجمها وشكلها. ولكن غياب الثقافة العلمية على مستوى المجتمع، ناهيك عن الإدارات وصنّاع القرار تدفع باتجاه البحث عن حلول تائهة بين الإداري والسياسي والشخصي والموضوعي. إنَّ واحدًا من أهم محصلات الثقافة العلمية تتمثل في الاهتمام بالرقم ومدلولاته، والتعرف على موقع الدولة أو المؤسسة من خلال الرقم، خاصةً وأنَّ العالم وصل إلى مرحلة جعل كل شيء فيها قابلاً للقياس وبالرقم. ليس هناك اليوم من ظاهرة اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو نفسية أو طبيعية إلا ولها مؤشرات رقمية.. هل يمكن للرقم أن تكون له قيمة أو تأثير أو صدمة في عقل الإنسان حين يكون بعيدًا عن ثقافة العلم والعقل العلمي؟ هل يمكن للرقم أن يغير من السلوك المجتمعي في غياب الثقافة العلمية؟ بالتأكيد لا. فعلى سبيل المثال نجد أنَّ دول مثل السويد وفنلندا وسويسرا تحتل المراتب الأعلى في ثقافة العلم، وهي دول في صدر قائمة الدول المتقدمة. وهذا يبيّن أنَّ العلاقة بين ثقافة العلم وبين التقدم هي علاقة ديناميكية طردية. وقبل85 عاماً قال "روبرت أينشتاين": " إذا كان للعلم أن يؤدي رسالته كاملة وتامة كالفنِّ؛ فإنَّ مفاهيم العلم بمعناها الجوهري وليس بشكل سطحي يجب أن تدخل في ضمائر الناس"؛ أي أن تصبح جزءًا من الثقافة المجتمعية.
ما الذي يدفع بعض الدول للإنفاق على البحث العلمي والتطوير التكنولوجي أموالاً طائلة قد تصل 5% من الناتج المحليّ بينما الأقطار العربية لا يتعدى الإنفاق فيها 0.6% من الناتج المحلي؟ قد يكون الجواب هو ضعف الإمكانات. لكنَّ "جواهر لال نهرو" حين سُئل: لماذا ينفق على البحث العلمي بدلاً من الإنفاق على الفقراء؟ أجاب: "أنا أنفق على البحث العلمي لكي انتشلهم من مستنقع الفقر، وإذا لم أفعل فسوف يبقون فقراء إلى الأبد".
وإذا نظرنا إلى المستقبل بما فيه من اختراعات وذكاء اصطناعي، و"روبوطية"، ورقمية وزراعة مائية، وتغيرات مُناخية الخ. فهل يستطيع المجتمع أن يواجه المستقبل بعيدًا عن العقل العلم والثقافة العلمية؟ بالتأكيد لا.
وقد آن الأوان أن يستعيد العرب مكانتهم، وآن الأوان أن تُعطى الثقافة العلمية على المستوى المجتمعي الاهتمام الكافي لنكون شركاء فاعلين في الحضارة الإنسانية لا مستهلكين لما ينتجه الآخرون.