الثورة الحاسوبية والصحة


الثورة الحاسوبية والصحة
د. عمار خالد يوسف داود
جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية
لعلَّ أهم تغيَر حضاري شهدته في حياتي شخصيّاً هو ثورة استخدام الحاسوب في مناحي الحياة كافة. عندما كنت طالباً في كلية الطب في جامعة الكويت في القرن الفائت كان الحاسوب جهاز يصل حجمه لحجم ثلاجة هائلة والتعامل معه صعب، وأدخلت بياناتي فيه على الأوراق المثقبة وخرجت نتائج الدراسة ورقياً من طرفه الآخر. والآن يدخل الحاسوب الذكي في كل شيء، فكما يقال؛ فإنَّ قدرات الحاسوب في الهاتف الذكي بحجم كف الواحد منا أقوى بأضعاف من الحاسوب الذي أوصل الصاروخ إلى القمر وأصبح الهاتف يحلُّ محلاً ليس أقل من عشرين جهازاً كنّا نحتاجها، فأصبح وسيلةَ اتصالٍ صوتي، ومنبهاً للوقت، ومصدراً للضوء عند انقطاع الكهرباء، وخريطة للطريق الموصل للهدف ووسيلة مهمة للتواصل الاجتماعي ونقل الأخبار، ومذياعاً وجهازاً مرئياً، وفيه مكتبتي المتنقلة ومراجعي للدراسة والعمل وغيرها كثير. الحاسوب هو فقط امتداد لقدرات الإنسان فعندما تكون قادراً على أداء معادلة رياضية معينة فإنَّ هذا الجهاز سيجعلك قادراً على أدائها ملايين ومليارات المرات؛ بحيث قبل استخدامه احتجت أعماراً إلى عمرك لعمل هذه الحسابات مع احتمال الخطأ البشري الوارد، وعلى هذا دخل الحاسوب حياتنا مختارين ومجبرين وفي مناحيها كافة؛ وليس الصحة والطب عن هذه المجالات ببعيدين.
يشتكي بعضُ الأطباء في ممارسات الطب الحديث في أنَّهم يقضون وقتهم أمام شاشات الحاسوب أكثر من وقتهم مع المرضى، ففي مستشفيات متقدمة ومراكز صحية كثيرة يكون التاريخ المرضي ونتائج الفحص السريري. وقد سجلت من قبل أحد أفراد الفريق هي المرجع الذي يكاد يكون وحيداً للمعلومات وعلى هذه الشاشة نفسها نتائج الفحوصات المخبرية والشعاعية؛ بحيث أصبحت الحاجة للعودة للمريض أقل. ولو تغير الوضع في أنَّ إعطاء الدواء بشتى أشكاله يتم بطريقة آلية لانتفت الحاجة لرؤية المريض ومعرفته، كما يشتكي حالياً أطباء الأشعة الذين يقوم كثير منهم بالتشخيص الطبي فقط. ولو تخيّل الواحدُ منا نفسه مريضاً في مستشفى يمرُّ على محطات حاسوبية متتالية (فتح الملف والتأكد من البيانات الشخصية ثم معلومات التأمين الصحي، ثم عمل الاستقبال للطبيب المعالج الذي يقرّر له الفحوصات المطلوبة والأدوية الضرورية حاسوبياً، وليقوم بعدها بتنفيذ هذه التوجيهات في المواقع المتعددة). قد يكون المريض قد أخذ موعداً مع الطبيب اللازم بواسطة تطبيق حاسوبي وأتته رسالة تذكير مبرمجة، واستخدم تطبيقاً ليقود سيارته لموقع المركز أو المستشفى إن كان يجهله. وكل هذا يذكرني بالدعابة التي تكاد تكون حقيقة من أنَّك عن اتصالك مع مركز طلبات "البيتزا" تجد نفسك تتواصل مع جهة تعلم عنك أدق التفاصيل من تفضيلاتك في الطعام حسب آخر طلباتك، وتقدم لك نصائح حول الطعام بسبب أمراضك وحالتك الصحية ونتائج فحوصاتك المخبرية وآخر الأدوية الموصوفة لك بسبب تواصل هذه الجهات مع بعضها البعض!
كنَّا سابقاً نعطي الملف الطبي الورقي أهمية كبيرة (وما زال كثير من المرضى يحضرون ملفهم الطبي الورقي بيدهم كأنَّه ملك لهم؛ مع أنَّه ملك للمستشفى ولا يحق لهم أخذه بأكمله وإنَّما يجوز له طلب صورة ورقية عنه– وما زلت أستمتع شخصياً بتدوين إجابات وتفاصيل المرضى خطيّاً على الورق كما تعلمت مبكراً في تدريبي الطبي). والآن؛ فإنَّ المعلومات المطلوبة هي على النظام الحاسوبي؛ لأنَّ علاج المرضى يعتمد على معرفة التاريخ المرضي الكامل وتشارك المعلومات الصحيحة والدقيقة بين مقدمي الخدمة كافة. ومن الطموحات المرجوة إمكانية هذا التشارك بين مقدمي الخدمات الطبية في الأردن؛ من وزارة الصحة والخدمات الطبية الملكية والمستشفيات الجامعية والقطاع الخاص. فالحاسوب عند تطابق الأنظمة عند المؤسسات يستطيع مشاركة كل من يحتاج للوصول للمعلومة وتوفيرها ضمن إطار معين؛ مثلاً الرقم الوطني المميز لكل فرد منا. ولك أن تتخيل الوفر المتحقق من خلال تقليل الهدر في الفحوصات والأشعات والاستشارات الطبية لو تحقق هذا التكامل الحاسوبي على مستوى الوطن؛ وهي أمنية أظنّها قريبة وممكنة.
مررنا جميعاً (على مستوى العالم) بتجربة قاسية في جائحة "الكورونا كوفيد 19"، ونتج عنها تطوير وتغيير في الطب والعلاج عن بعد (كغيره من تعليم وتواصل اجتماعي وحتى عبادة عن بعد) لهذه الضرورة؛ تطورت وسائل التواصل من استشارات ومعالجات عن بعد بحيث اضطرت أنظمة التأمين في دول كثيرة لمعاملة التواصل مع الطبيب صوتياً ومرئياً منزلة الزيارة الجسدية في العيادة؛ وذلك بالتعويض والمكآفأة. وألاحظ زيادة الاعتماد في علاج بعض المرضى على وسائل التواصل الاجتماعي؛ مثل مرضى الجلطات الوريدية التي يحتاجون فيها لأدوية مميعة للدم، وتُحددُ كمية العلاج وجرعته بدرجة التميع في الفحص، فكثير من هؤلاء المرضى يتواصل معي بنتيجة الفحص المخبري وجرعة دوائه الحالية لأعطيه القرار بالنسبة لتعديل الجرعة إن كان هناك داع لتغييرها. وقس على ذلك؛ فهناك أنماط كثيرة من المعالجات الطبية من خلال العلاج والاستشارة عن بعد، وهذا ناجح في تخصصات وأنماط دون أخرى، وما زلت أذكر أول محاضرة عن بعد حضرتها بواسطة الأقمار الصناعية مع جامعة مرموقة في أمريكا في الخدمات الطبية الملكية منذ سنين كثيرة، وخصوصاً حول تطبيق أحدث البروتوكولات في علاج مرضى السرطان. وفي هذا أصبح العالم مثل القرية الصغيرة من ناحية سهولة نقل المعلومة وتوصيلها لمحتاجها، فبعد أن كانت كتب دراسة الطب مثل الجبل، وبطول قامة الواحد منا من كتب وملخصات ونشرات؛ إلى أنَّها اليوم بأكملها في جهاز واحد. وبعد الجهد البدني وتقليب الصفحات ذوات العدد للوصول للمعلومة أصبحت على بعد بضع نقرات على لوحة المفاتيح، وبغير إكمال السؤال يعطيك اقتراحات مكملة لأسئلة سؤلت من آخرين قبلك. ومن أحدث الخبرات العالقة لي هو ذلك المريض الذي يعاني من مرض نقصان مناعة أولي نادر للغاية لم أر مثله من قبل (وأنا الخبير والمرجع في أمراض المناعة ونقصانها) من شدة الالتهابات والعدوى في الجلد، ونقص في بعض أنواع الخلايا المناعية في الدم، وفشل أدويتنا المضادة الحيوية في علاجه رغم تعددها وطول استخدامها؛ ليكون الحل في فحص التركيب الجيني له بالكامل الذي عمل في مختبر في الولايات المتحدة الأمريكية؛ ليتم اكتشاف مرض لم أسمع عنه من قبل هو GATA2 Deficiency وأنَّ العلاج الوحيد والأمثل له هو في نقل نخاع عظم له متطابق، ويقوم أطباء الأورام وأمراض الدم في مستشفى الملكة علياء بمحاولة القيام بذلك (أسأل الله تعالى له الشفاء التام والعاجل) ليكون مثالاً على فائدة وضرورة التواصل مع العالم أجمع في القطاع الصحي لخير البشرية.
يدور الحديثُ عن المستقبل بحيث سيكون لمبادئ الذكاء الصناعي والتعليم الآلي اليد الطولى؛ وهناك مؤشرات على نجاح هذه المساعي في مجالات مثل الأشعة التشخيصية وقراءة أفلامها وصورها كمثال لاستخدامها في التشخيص العام. يمكنك تجربة برامج للذكاء الصناعي مثل ChatGPT للمحادثة الشيقة وللتفاعل بشكل قريب جداً مع شخص ذكي وعاقل وموسوعي، وللآن عندما تم استخدام هذا الذكاء في مهام معقدة مثل الطب ثبت فشله في الإحلال محل البشر في علاج مرضى السرطان، وأنَّ قرارات وتوصيات هذه البرمجيات كانت خاطئة في تجارب حتى الزمن القريب. ولكن حتى هذا الفشل في العالم لا ينفي الحاجة لأن نكون مشاركين وفاعلين في هذه الجهود، وأن نكون متنبهين لخواص مجتمعاتنا وثقافتنا وحضارتنا، وأن نستفيد منها لخير وطننا وأهله، وألا تكون هذه العلوم حكراً على غيرنا لنكون عالة ومتلقين فقط للنتائج دون دور حقيقي في بنائها واستيعابها؛ وخصوصاً أنَّها سهلة وميسرة لمن يشارك في تطويرها واستخدامها كما نستخدم الأنظمة الأخرى من أنظمة في المستشفيات والصحة وقطاعات الحكومة والقطاع الخاص في مناحي كثيرة لا تخفى على أحد. لدينا -وبحمد الله - مصادر كثيرة في هذا البلد وأهمها العنصر البشري المثقف والمتعلم تعليماً عالياً يشارك في البناء في العالم بأكمله البعيد والقريب، والحصول على مصادر مادية وقدرات حاسوبية، وليس صعباً لنكون جزءاً من هذه الثورة الحاسوبية ومشاركين ومستفيدين منها.