سردية الأرض في روايات غسان كنفاني

د. نادية هناوي
أكاديمية وباحثة عراقية
مدخل
للأرضِ معانٍ مباشرة وحقيقية كالثبوت والارتكاز والقوة والحرارة والدوران كما أنّ لها معانيَ غير مباشرة تدل على قيم معنوية كالارتباط بالوطن والانتساب إلى رحم ودم والالتصاق بأطلال وآثار.. ولعلَّ أول شاعر ذكر الأرض في شعره هو أمرؤ القيس في بيت اغتر فيه أنّ ذيل فرسه ليس بالقصير ، ووظف الشاعر الحديث مفردة الأرض باستعمالات شتى حقيقية ومجازية، واشتهرت قصيدة (الأرض اليباب) لـ ت. س. اليوت المنشورة عام 1922 كواحدة من أهم قصائد القرن العشرين، كما أنّ شاعراً كان الأكثر إحساساً بجسامة فقد الأرض هو محمود درويش، فناداها سيدتي في رائعته( قصيدة الأرض) . ولعلَّ أول عمل روائي حمل عنوان( الأرض) كان( اليد والأرض والماء) 1948 لذي النون أيوب و( الأرض ) 1954 لعبد الرحمن الشرقاوي.
وعلى الشاكلة ذاتها اُستعملت مفردة الأرض في الآداب الأخرى قديمها وحديثها، ومن قصة هبوط آدم وحواء إلى الأرض بدأت علاقة الانسان بالأرض، واستعملها "فولتير" كمرادف ضدي لمعنى الجنة( بعد أن طرد كانديد من الجنة على الأرض مشى طويلاً من دون أن يعرف إلى أين يذهب باكيًا ورافعًا عينيه إلى السماء.. ونام وسط الحقول بين خطي محراث)
وأعطى المفكرون والفلاسفة للأرض اهتمامًا خاصًا في كتاباتهم، ومنهم "غاستون باشلار" الذي وجد أنَّ للأرض في أشعار "نوفاليس" دلالة حرارية وأنَّه كمهندس وشاعر لبّى( نداء الأعماق المنبعث من الأرض لكي يعود إلى الحرارة الصميمية .. يتغنى بالأرض: بها يحسُّ ارتباطه واتحاده.. يحسُّ الشغف نفسه الذي يحسه نحو خطيبته) والأرض عند "ادجار موران" رحم الحياة وفيها تاريخ البشرية ومنها النشأة الذاتية التي منها الكائن الحي .
ويتأصل معنى الأرض عند أغلب المفكرين العرب كثنائية مع مفردة السماء، فمحمود أمين العالم يرى أنَّ هذه الثنائية متوازية ومتوازنة متجاورة في أغلب روايات نجيب محفوظ، بل يكاد عالم محفوظ أن يكون عالم الثنائيات المتوازنة وتكاد المأساة في هذه العالم أن تكون في الخروج من طرف هذه الثنائية المتوازنة . ووجد في هذه الثنائية وغيرها مواقف مزدوجة بسببها صار سؤال النهضة العربية مجهضًا (هل استطيع أن أقول إنَّ مستقبل العالم العربي وإمكانية تحريره من التخلف والاستقلال والتبعية رهن بحسم هذه الثنائية المزدوجة في الواقع العربي والفكر العربي على سواء ؟ )
وقد يغدو معقودًا عليها حسم سؤال النهضة ذاك، نظرًا لما تحمله من أدلة وما تعكسه من محصلات هي أكيدة إن لم نقل قاطعة. أولاً لأنَّ هذه الاستثناءات خرجت من شرنقة الثنائيات الضدية التي شغف الفكر العربي المعاصر بالانقياد إليها، وثانيًا لأنَّ هذه الاستثناءات نماذج صالحة لأن تكون أمثلة يمكن تعميمها على القضايا العربية كلها. ومن هذه الاستثناءات غسان كنفاني(1936ــــ1972) وما مثلته أعماله السردية الستة عشر من مشروع فكري مغاير، بسبب ما تمتع به من سيماء فكرية، فلم يكن من( المكترثين بزج شخصه في صورة المناضل والسوبرمان والأسطورة والتمثال، بل كان العكس هو الصحيح قولًا وفعلاً وكتابة) .
ولا غرابة في أنَّ تشكل الأرض مركزًا وحدها في أعمال غسان كنفاني السردية، وبداخلها تتبأر الثيمات كلها ومنها تنطلق التحليلات وعليها تتوقف التأويلات ومن خلالها تتمرأى التجارب والمحصلات. فالأرضُ بالنسبة إلى كنفاني هي الغاية وهي الأداة، وهي الحياة التي يصنعها سرًا وعلانية، وهي الوظيفة التي يؤديها حبًا وواجبًا، وهي الحق المستلب لا العيش المخترع.
فسرديةُ الأرض عند كنفاني متسعة اسمًا ومسمّى، ومتمركزة حدودًا وأطرًا وموضوعاتٍ وأشكالاً، فهي الخصوبة والعشق والهُوية والانتماء والكيان الذي فيه تتجلى الام والحبيبة والبوصلة التي تهدي إلى الحقيقة، والنواة التي منها تخرج الأطراف وعندها تلتم الحدوس والانبجاسات، والعنوان الذي فيه يتمظهر الجمال وتتضح المنابع وتتحدد المعالم والأرجاء.
تمفصلاتُ سردية الأرض
يرى "تيري ايغلتون" أنَّ المعاني لا تكمن في الأشياء كما يتواجد الحبر في الزجاجة، بل قد يكون هناك مقصد ذو دلالة في مكان ما من العالم لا نعرفه، فالمعاني المتأصلة هي ببساطة أجزاء اللغة التي تستهدف إدراك ما هو قائم. والحديث عنها هو الحديث عن محاولة وصف ما هو قائم بالفعل في الواقع . وتتعدد معاني الأرض في روايات غسان كنفاني لكنها بمجموعها تشير إلى معنى إجمالي وتأصيلي واحد هو الوطن. ومن هذا المعنى الإجمالي تتفرع جزئيات هي بمثابة تمفصلات معنوية، وكل تمفصل هو تأصيل لذلك الإجمال وترسيخ له. وعادةً ما تكون التمفصلات مركزية في محتوياتها ومتنوعة في جزئياتها ثقافيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا وميتافيزيقيًّا.
1ـ التمفصلُ الوجودي
فيه الأرض ليست اسمًا لمكان أو صفة لمكين، بل الأرض كائن هو المكان والمكين معا. وإذا كانت للكائن صفات بها تُعرف فعاليته ويتحقق وجوده، فإنَّ الأرض كائن موجود حقيقة وفاعل بفاعلية الكائنات بكل ما لها من إحساسات وتماهيات. وأول تلك الكائنات فاعلية وأكثرها صلة بالأرض هو الإنسان( الذي يعبر عن حضوره في العالم باعتباره..صانعا لتاريخ فردي وجماعي) .
ويحضر هذا التمفصل الوجودي للأرض بقوة في رواية (رجال في الشمس) ونلمسه في مفتتح الرواية وقد وجد البطل راحته في الأرض التي رآها شاخصةً من لحم ودم تخفق وترتجف، منغرسة في كل خلية من خلاياه، فهي قلبه الذي لا حياة له من دونه( أراح أبو قيس صدره فوق التراب الندي فبدأت الأرض تخفق من تحته: ضربات قلب متعب تطوف في ذرات الرمل مرتجة ثم تعبر إلى خلاياه. في كل مرة يرمي بصدره فوق التراب يحسُّ ذلك الوجيب كأنَّما قلب الأرض ما زال منذ أن استلقي هناك أول مرة يشق طريقًا قاسيًّا إلى النور قادمًا من أعمق أعماق الجحيم حين قال ذلك مرة لجاره الذي كان يشاطره الحقل هناك في الأرض التي تركها منذ عشر سنوات أجابه ساخرًا: هذا صوت قلبك أنت تسمعه حين تلصق صدرك بالأرض) . وبسبب هذه الشخصانية تغدو الأرض جزءًا من كيان أبي قيس وهو جزء منها، يشعر بشعورها، ويتألم لفقدها.
ومن تلك الجزئيات النداوة التي ذكَّرت أبا قيس بأرض تركها وراءه مرغمًا وأرض يسكنها الآن، فتساءل( نحن في آب إذن لماذا هذه الرطوبة في الأرض؟ إنَّه الشط) فللأرض رائحة ولترابها نداوة، وهي معادل موضوعي للوطن والزوجة. وتغيرت أحاسيس أبي قيس مع تغير لون التراب( فارتمى ملقيًا صدره فوق التراب الندي الذي أخذ يخفق تحته من جديد بينما انسابت رائحة الأرض إلى أنفه وانصبت في شرايينه كالطوفان) .
ولا مفر لأبي قيس من الغربة والوحشة إلا باسترجاع مشهد زوجته وهي تضع وليدها، وحاله وهو يسمع صوت الوليد لأول مرة وفجأة صدمه الحاضر فـ( قام ونفض التراب عن ملابسه ووقف يحدق إلى النهر، أحسَّ أكثر من أي وقت مضى بأنَّه غريب وصغير. وراء هذا الشط وراءه فقط توجد كل الأشياء التي حرمها هناك، توجد الكويت الشيء الذي لم يعش في ذهنه إلا مثل الحلم والتصور)
وتراود مشاعر الحنين للأرض أبا قيس فيرى نفسه في صحراء بعيدة كل البعد عن أرض البرتقال( أحسَّ أنَّه وحيد في كل هذا العالم..اجتاز بقاعًا صلبة من صخور بنية..ثم صعد كثبانًا واطئة ذات قمم مسطحة من تراب أصفر ناعم كالطحين.. الصحراء موجودة في كل مكان)
وفي رواية (ما تبقى لكم) تعتري السارد الذاتي حامد مشاعر مخيفة من خطر غامض يترصده، فلم يجد كيانًا به يحتمي وإليه تطمئن نفسه غير الأرض( سيطرتُ تمامًا ودفعة واحدة على أنفاسي وحركاتي ورأسي واستلقيتُ على الأرض شادًا نفسي إليها قدر ما في جسدي بأجمعه أن يفعل .. فها أنذا أشد جسدي إلى الأرض وما وسعني ذلك كي لا اُكتشف..) فالأرض وحامد كيان واحد، بلحمة أحادية ورابطة مصيرية فيها يتمفصل الواحد في الآخر وجوديًّا، كمعادلة فيها الطرف الأول (الذات) وفي الطرف الثاني(الأرض) وأي اختلال في طرف يعني اختلالًا في الطرف المقابل.

2 ـ التمفصلُ الفكريّ
وفيه الأرض باعثة على التأمل ومولدة للأفكار، لا من ناحية ما يواجهه البطل من مصير مجهول، بل من ناحية المؤلف أيضًا وما يسعى إليه من مركزة الأرض كشكل ومحتوى. فليست الأرض بالنسبة إلى الروائي مجرد فكرة يريد أن يكتبها، ومن بعد ذلك يبحث عن الكيفية التي بها يقول ما يريد، بل هذه الكيفية هي الغاية وهي الوسيلة أيضًا. ولقد انتقد "الآن روب غرييه" من يعتقد أنَّ الكيف تأتي بعد الفكرة. وعدّ هذا الاعتقاد من الأخطاء المناقضة للحقيقة، لأنَّ (هذه الكيف هي بالضبط مشروع الكاتب، هذا المشروع الغامض الذي يصير بعد ذلك المضمون المبهم الذي يحتويه الكاتب.) .
ومشروع غسان كنفاني السردي هو مشروع فكري فيه فلسطين "هتروتوبيا" كأرض مغايرة لأي أرض، فلا هي الجنة الموعودة ولا هي جهنم المنبوذة.
وفي رواية(رجال في الشمس) تغدو الأرض "هتروتوبيا" حين يصبح كل مكون أرضي- كالطريق والقيظ والهواء والتراب - فاعلاً سرديًّا، يتعاون على رسم فضاء أرضي جهنمي. فترتجف السيارة وتزأر( من قال إنَّ محرك السيارة يتحمل مثل هذه السرعة في مثل هذا الجو وهذه الأرض) و( هدر المحرك ومضت السيارة الكبيرة ترسم في الصحراء خطًّا من الضباب يتعالى ثم يذوب في القيظ) ويتوهج الزجاج ويحرق العرق العينين وتذوب أجساد الرجال تحت الشمس فتتداعى الأفكار، وتتأزم الحبكة ويتغير مجرى الأحداث، ويستبطن السارد ما دار في خلد أحدهم، متعجبًا من قسوة هذه الأرض الصحراوية، قائلاً:( كيف يمكن لقمة هضبة ما، أن تعني كل هذه المشاعر التي تموج في شرايينه وتصب لهبها على جلده الملوث بالوحل عرقًا مالحًا؟) .
ولا يعكس هذا المشهد الهتروتوبي حالة إنسانية حسب، بل يعكس أيضًا تفكيرًا في الحالة نفسها، وتتأزم حبكة الرواية في فصل( الصفقة) وفيه يقرّر الفلسطينيون الثلاثة الهرب سرًّا عبر الصحراء، تنازعتهم مشاعر فقد الأرض؛ فيتذكر أبو قيس عائلته ويفتقد أسعد والدته ويفتقد المهرب أبو خيزران رجولته التي هي وفقد الأرض حالة واحدة( وما النفع لقد ضاعت رجولته وضاع الوطن وتبًّا لكل شيء في هذا الكون الملعون)
وهذه هي "هتروتوبية" فلسطين كأرض تتغاير لكن النتيجة واحدة وهي أنَّها الموطن الذي فيه يجد الفلسطيني العيش الرغيد. ولهذا انتهى الثلاثة الذين أرادوا تغيير هذه المعادلة نهاية مأساوية، وتحوّل حلمهم اليوتوبي إلى دستوبيا قبر لا مفر منه( مضى يتدحرج في طريق رملي داخل الصحراء لقد قرّ قراره منذ الظهيرة أن يدفنهم واحدًا واحدًا في ثلاثة قبور..لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟ دار حول نفسه دورة لكنَّه خشي أن يقع.. لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ لماذا وفجأة بدأت الصحراء كلها تردد الصدى: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا، لماذا، لماذا؟.)
وهذا البعد الرمزي الذي حملته رواية( رجال في الشمس) المنشورة عام 1963 كان البداية وستتبعه روايات لاحقة وبها يكتمل المشروع الفكري الهتروتوبي عند غسان كنفاني. ويمكن أن نصف هذا المشروع بأنَّه (الحق في الأرض) تيمنًا بمشروع المفكر "لوفيفر"( الحق في المدينة) ويعني جماعات( المستأجرين وذوي الدخول المنخفضة من مجتمعات الملونين الذين يناضلون من أجل نوع من التنمية قادر على تلبية احتياجاتهم ورغباتهم والمشردين الذين ينظمون أنفسهم للدفاع عن حقهم في السكن والخدمات الأساسية) ، وإذ شبه "لوفيفر" السعي وراء هتروتوبيا( الحق في المدينة) بالعنقاء في إشارة إلى خرافية هذا المشروع، فإنَّ غسان كنفاني جسّد مشروعه الهتروتوبي من خلال أبطال رواياته.
وتُعدُّ رواية( ما تبقى لكم) المنشورة عام 1966 مثالاً على "هتروتوبيا" الحق في الأرض. وفيها تقاسمت شخصية حامد هواجس متضاربة؛ فإمَّا يقبل بالهزيمة أو يصمد ويواجه الواقع، فاختار في البدء الفرار من واقع أجبره على الموافقة على زواج أخته مريم من زكريا. وهما أي حامد ومريم يعلمان أنَّ زكريا خائن يساعد العدو المحتل. وتشارك مريم أخاها حامد إحساسه بالهزيمة. ولكنَّ حامدًا بدلاً من أن يقاوم الواقع، يقرّر الهرب عبر الصحراء مشيًا على الأقدام. وتتصاعد حبكة الرواية باستعمال تقانة التداعي الحر، فتتراءى الأرض لحامد مثل طوق النجاة الذي سينقذه من الخوف واليأس( حدّق إلى السماء خيمة سوداء مثقبة وبدا له المدى غامضًا مثل هاوية.. ليس بمقدور أي شيء في هذا المدى المبسوط أنَّ يكون مفاجئًا، ليس بوسع أي شيء أن يكون إلا صفيرًا واضحًا وأليفًا في هذا العالم الواسع المفتوح) .
وما بين الوعي واللاوعي يكتشف حامد أنَّ الأرض صارت تضاده وترفض خوفه وهوانه(ربما كان أفضل لك أن تمضي عمرك راكعًا... بانتظار أن تركلك قدم ثقيلة فتنتصب واقفًا والذل يتآكلك في جسدك كالجرب) أمَّا مريم فتتحول إلى ساردة ذاتية وتبوح بكل خيانات زكريا عبر التداعي الحر لأفكارها، فيغدو زكريا كأرض جرداء لا تنتج إلا شرًّا( تتكسر كل أنصال الفولاذ في العالم إذا مرت فوق صدرك الأصفر العاري، كل أنصال الفولاذ في العالم ليس بمقدورها أن تحصد من فوقك عرقًا واحدًا ولكنَّها تتكسر واحدًا وراء الآخر أمام حصادك الصلب النامي أكثر فأكثر) وتنفرج الحبكة حين ينبثق الضوء ويسود الصمت وتبدو الأرض لا نهاية لها فتقرر مريم استرداد حقها من زكريا. وتنتهي الرواية ومريم تطعن زكريا، فيغدو شعاع الشمس كخيط من الدم وعندها ( دوّى صوت الصمت فجأة ) في إشارة إلى أنَّ الحق في الأرض لا يسترد إلا بالقوة وبإنزال القصاص بالخونة.
3ـ التمفصلُ الأنثوي
فيه تكون الأرض امرأة هي الأم والحبيبة، وتتجسد فيها القيم والمبادئ. وما من تناف بين تسريد الأرض كأنثى والالتزام الواقعي، بل قد يصبح التمفصل الأنثوي أكثر التمفصلات قدرةً على تمثيل التزام غسان كنفاني الواقعي بقضيته المصيرية. ليس لأنَّ الأرض مؤنثة وإنَّما هي متاحات الفن في التعبير عن الأيديولوجيا وتجسيد الثورة. ولقد جادل "لوي التوسير" في ماهية الفن والأيديولوجيا ورأى أنَّ الفنَّ ذو علاقة متميزة وخاصة مع الأيديولوجية مثلما هو ذو علاقة خاصة مع المعرفة لا كعلاقة تماثل بل كعلاقة اختلاف .
ولا يقوم الالتزام في الفن على اقتناص فكرة حياتية حسب، بل قبل ذلك وعي الكاتب بأهمية الالتزام و( بدلاً من أن يكون الالتزام ذا طبيعة سياسية يصبح بالنسبة للكاتب وعيًا تامًّا بالمشاكل الحالية للغته الخاصة واقتناع بأهميتها ورغبة في حل هذه المشاكل من الداخل)
وفي روايات غسان كنفاني لا يتعارض الالتزام مع العاطفة ومن ثم يكون التمفصل الأنثوي شكلاً من أشكال تسريد الأرض( استلقى على الأرض وأحسَّ بها تحته ترتعش كعذراء.. استدار ومرّر شفتيه فوق التراب الدافئ ليس بمقدوري أن أكرهك ولكن هل سأحبك؟ أنت تبتلعين عشرة رجال من أمثالي في ليلة واحدة..) ، وهذه التساؤلات التي يوجهها (حامد) للأرض تعبر عن تعلق وجداني، فيه تحولت الأرض إلى امرأة هي حبيبة ومن ثم لا مجال للافتراق عنها إلا إذا كانت الظروف قاهرة.
وقد لا نغالي إذا قلنا إنَّ رواية (أم سعد ) المنشورة عام 1969 هي أكثر روايات كنفاني تمثيلاً للتمفصل الأنثوي حيث الأرض هي أم سعد، وأم سعد هي الأرض) ومرةً ثانية في بسالة أفعال أم سعد التي فيها تتجلى بسالة الأرض( مثل دقات الساعة جاءت هذه المرأة تجيء دائمًا تصعد من قلب الأرض وكأنَّها ترتقي سلمًا لانهاية له) ومرةً ثالثة في إحساس أم سعد بالأرض وما فيها من حياة( إنَّها تأخذ ماءها من رطوبة التراب ورطوبة الهواء ثم تعطي دون حساب..والزيتون لا يحتاج إلى ماء أيضًا، إنَّه يمتص ماءه عميقًا في بطن الأرض من رطوبة التراب)
ومهما كانت الظروف قاسية فإنَّ أم سعد تظل تتابع أخبار ابنها المعتقل ورفاقه الأربعة تمامًا، كما تتابع عمليات المقاومة( يجمعون قطع الحديد بأيديهم العارية ويقذفون بها إلى الرمل وبسرعة انتشروا كالأشباح على طول الطريق)
وتنفرج حبكة الرواية بالكمين الذي نصبه المقاتلون لسيارة إسرائيلية فتهلل وجه أم سعد فأشرقت الشمس( وسط الغيوم الداكنة مثلما يشق المحراث ثلمًا في الأرض.. سقطت الشمس على وجهها.. لقد ابتسمت وبدت قوّية وشابة..)
وتنتهي الرواية وقد نما برعم الدالية الذي زرعته أم سعد( خطوت نحو الباب حيث كانت أم سعد مكبة فوق التراب حيث غرست منذ زمن...) فكان عطاء أم سعد هو عطاء فلسطين الذي يأتي بلا منة ولا ادعاء تعبيرًا عن طيبة الاثنتين المرأة والأرض.
وفي رواية( ما تبقى لكم) تغدو الأرض أنثى تنتقم ممن خانها وتخلّى عنها، وهو ما عبّر عنه السارد بمشهد الصحراء وهي تتحول إلى وحش مروّع( وفجأة جاءت الصحراء رآها الآن لأول مرة مخلوقًا يتنفس على امتداد البصر غامضًا مريعًا وأليفًا... في وقت واحد يتقلب في تموّج الضوء الذي أخذ يرمد منسحبًا خطوة خطوة أمام نزول السماء السوداء من فوق...)
وتغدو الأرض غريبة وبعيدة بالنسبة إلى سعيد بطل رواية(عائد إلى حيفا) كنوع من العتاب وربما المعاقبة على الانهزام( دخل إلى الطريق الرئيس انهار الجدار كله وضاعت الطريق وراء ستار من الدموع ووجد نفسه يقول لزوجته صفية: هذه هي حيفا يا صفية)
إنَّ أهمية التمفصل الأنثوي في تسريد الأرض تتأتى من أنَّ هذه الأرض هي الحاضن الأمومي الذي منه تخرج كل التمفصلات الأخرى؛ فيغدو السرد عميقاً بدلالاته، ورحباً في حرارة وجدانياته وقوة استعاراته تمامًا كما قال محمود درويش:
( لا أرضَ فوق الأرضِ تحملني، فيحملني كلامي
طائراً متفرعاً مني، ويبني عشَّ رحلته أمامي
في حطامي، في حطام العالم السحري من حولي،
على ريح وقفتُ. وطال بي ليلي الطويلُ.)
 


ضليع إذا استدبرته سد فرجه بضاف فويق الأرض ليس بأعزل
من سطورها: ( آذار يأتي من باطن الأرض/ يأتي،... / أنا الأرض والأرض أنت / خديجة لا تدخلي في الغياب /سنطردهم من إناء الزهور / وحبل الغسيل/ في شهر آذار قالت: / لنا الأرض أسرارها / في شهر آذار تنتشر الأرض فينا/ في شهر آذار تكتشف / الأرض أنهارها/ قالت لنا الأرض / أسرارها الدموية/ طفلتي الأرض/ أنا الأرض يا أيها العابرون/على الأرض في صحوها/ لن تمروا..)
كانديد أو التفاؤل فولتير، ترجمة انا ماريا شقير( بيروت: دار الهلال، 2005) ص38.
النار في التحليل النفسي، غاستون باشلار، ترجمة نهاد خياطة (بيروت: دار الأندلس، ط1، 1984) ص41 . عُرف نوفاليس باسم شاعر الزهرة الصغيرة الزرقاء.
تحديات القرن الحادي والعشرين، ادجار موران، ترجمة وتعليق حسين شريف( مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2001) ص219.
ينظر: الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر، محمود أمين العالم، pdf، ص724 .
المصدر السابق، ص737
غسان كنفاني اليوميات 1960ـ1965 ، تقديم صبحي حديدي( حيفا: دار راية للنشر ، ط1 ، 2018 )ص13.

معنى الحياة مقدمة قصيرة جدا، تيري ايغلتون، ترجمة شيماء طه الريدي( مصر: مؤسسة هنداوي، 2014 ) ص67 .
من الكائن إلى الشخص دراسات في الشخصانية الواقعية، محمد عزيز الحبابي( مصر: دار المعارف، 1968 ) ص21.
رجال في الشمس رواية، غسان كنفاني( قبرص: دار منشورات الرمال، 2015) ص7
الرواية، ص8
الرواية، ص20
الرواية، ص15
الرواية، ص25
ما تبقى لكم رواية، غسان كنفاني( قبرص: دار منشورات الرمال، 2013) ص58
نحو رواية جديدة، الان روب غرييه، ترجمة مصطفى إبراهيم مصطفى(مصر، دار المعارف، د.ت) ص126
رجال في الشمس رواية، ص78 و85.
الرواية، ص80
الرواية، ص68
الرواية، ص105
مدن متمردة، ديفيد هارفي، ترجمة لبنى صبري( بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، ط1، 2017 ) ص24 . وطرح لوفيفر هذا المشروع في( الذكرى المئوية لصدور كتاب رأس المال لماركس وأراد به استفزاز الفكر الماركسي التقليدي الذي لم يتفق قط على أهمية الحضر في استراتيجيات الثورة على الرغم من أنه صنع أسطورة من كومونة باريس) ص20.
ما تبقى لكم رواية، غسان كنفاني( قبرص: دار منشورات الرمال،2014) ص16.
الرواية، ص53
الرواية، ص31
الرواية، ص87
ينظر: النقد والايديولوجية، تيري ايغلتون، ترجمة فخري صالح( عمان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1992) ص.103
نحو رواية جديدة، ص47، يقول الان روب غرييه: ( النقد شيء صعب، بل اصعب من الفن) ص127.
ما تبقى لكم رواية، ص17
الرواية، ص8
الرواية، ص9
أم سعد رواية، غسان كنفاني( قبرص : دار منشورات الرمال، 2013 )ص11 و12 و15 على التوالي.

الرواية، ص44
الرواية، ص31
الرواية، ص75


ما تبقى لكم رواية، ص9ـ10.
عائد إلى حيفا رواية، غسان كنفاني( قبرص: دار منشورات الرمال، ط1، 2013) ص7.
من قصيدة "قافية من أجل المعلقات" لمحمود درويش.