د. تيسير أبو عرجة
أكاديمي وباحث أردني
إنَّ الإعلام الذي نعايشه اليوم قد بلغ من التطور أشواطاً بعيدة، ووصل آفاقاً واسعة جعلت عصرنا هذا يحمل صفة عصر الإعلام والاتصال. والتصقت بهذا المرفق الحيوي المهم صفة الثورة فيقال ثورة الاتصال. ونظراً لما تشكله المعلومات من أهمية بالنسبة للاتصال يُقال أيضاً ثورة المعلومات.
إنَّ الإعلام اليوم يخضع لاستخدامات تفوق الحصر؛ فهو أداةٌ للتنمية وأداةٌ لصراع العقائد والمصالح، ووسيلةٌ للدعاية والحرب النفسية، والعلاقات العامة والإعلان. وكما أنَّه أداةٌ للتحوّل الديمقراطي فهو في الوقت ذاته أداةٌ في يد الدكتاتورية والتسلّطية. إنَّه دائماً سلاحٌ ذو حدين. هو في أحدهما إعلامٌ عن الحقائق التي تتصف بالصدق والدقة والموضوعية، وفي ثانيهما أداةٌ للتضليل والتزييف والتعمية. ومثلما هو أداة للتقدم ومحاربة التخلف؛ فإنَّه يمكن من خلال توجهات معينة أن يكون أداةً لتكريس التبعية والتخلف.
ولكن توظيفات الإعلام في إطارها الإيجابي يمكن أن تشمل اعتبار الإعلام وسيلةً في خدمة الاقتصادات الوطنية، وأداةً سياسيةً لجهة استخدامه سلاحاً في الرقابة الشعبية وحرية التعبير والحوار والنقاش، وأداةً تنموية لجهة دوره في التغير الاجتماعي والتحديث والتحضر. علماً بأنَّ حرية الصحافة والإعلام تقف دونها الكثير من العقبات والحواجز في كثير من البلدان؛ الأمر إلى أن تفقد أعدادٌ كبيرةٌ من الصحفيين حياتها أو عملها أو حريتها. ناهيك عن التناقص في حجم الحريات الصحفية وفرض المزيد من القيود بدلاً من فتح الأبواب المغلقة أمام الصحفيين. ومثال ذلك ما يعانيه المراسلون الصحفيون الفلسطينيون الذين يعملون لحساب عديد القنوات التلفزيونية العربية والأجنبية في قطاع غزة. الذين يتعرضون لأبشع صنوف العدوان والتضييق على مهمتهم الإعلامية. وقد عمدت قوات الاحتلال الصهيوني إلى اغتيال عدد كبير منهم وكذلك أفراد عائلاتهم. انتقاماً من هذا الدور المميز لهم في كشف جرائم الاحتلال وهمجيته ضد أطفال غزة ونسائها، بالكلمة والصوت والصورة؛ وذلك من أجل حجب الحقائق عن أعين العالم وإخفاء حقيقة ما يجري في غزة.
كما أنَّ هناك اعترافاً بالدور الكبير الذي يؤديه الإعلام والاتصال في ميدان التربية والتعليم والمساعدة في إيجاد بيئة تربوية وتعليمية مهمة. إضافةً إلى الوظيفة الثقافيّة حيث يتم النظر للاتصال باعتباره دافعاً للثقافة وخطراً يهدّدها في الوقت ذاته. ويمكن اعتبار دور الاتصال بمثابة الناقل الأساسي للثقافة؛ ذلك أنَّ وسائل الاتصال هي أدواتٌ ثقافية تساعد على دعم المواقف أو التأثير فيها.
أمَّا الوظيفة السياسية للاتصال فإنَّها تقف في مقدمة المهام التي تتولى وسائل الإعلام والاتصال القيام بها. وهناك صلةٌ وثيقةٌ بين العملية السياسيّة والعملية الاتصاليّة، وبين الإعلاميين والسياسيين. وتقوم المؤسسات الإعلامية بتمثيل الرأي العام في مواجهة الحكومة. إضافةً إلى ذلك ما نشهده من توظيفات الإعلام في الدعاية الدولية باتباع أساليب الإقناع والاستمالة وغيرها. وكذلك الحرب النفسية التي يتم خوضها بأسلحة فكرية وعاطفية وأساليب إعلامية ودعائية متعددة. وتقوم هذه الحرب النفسية على الدعاية بأشكالها وألوانها كافة، وعلى الشائعات، وافتعال الأزمات، وإثارة الرعب. وكما أنَّ هناك إدارة سياسية وعسكرية للصراع؛ فإنَّ هناك إدارة إعلامية لا تقلُّ أهميةً عن سابقتيها؛ لأنَّها تتصلُ بالقتال المعنويّ وينصبُ جهدها على إشاعة التوتر النفسي والاجتماعي، وبلبلة الأفكار، واختراق المواقف، وفقد الثقة في الذات القومية. وتُستغل قابلية الإنسان للتأثر بالشعارات والكلمات وعنصر التكرار.
وقد أثبتت أحداثُ الحربِ العدوانيّة الصهيونيّة على غزة أهمية تفعيل الإعلام العربي تجاه القضية الفلسطينية. وأهمية مواجهة التضليل الإعلامي الذي مارسته وتمارسه وسائل الإعلام الغربية بخصوص هذه القضية التي عُرفت بانحيازها التاريخي إلى جانب الحركة الصهيونية ومخططاتها ومشاريعها في فلسطين والمنطقة العربية. وقد أظهرت هذه الحرب العدوانية أهميةَ التكامل بين وسائل الإعلام التقليدي وبين أدوات التواصل الاجتماعي وشبكاته. وكذلك التفاعل الجماهيري مع القضية ومع تطوّرات الحرب ووقائعها المختلفة، وانخراط الفئات الشابة بالاستخدام المكثف لهذه الوسائل على اختلاف أنواعها، ونشر الحقائق والمعلومات والصور؛ إضافةً إلى الحوارات من خلال الكتابة باللغات الأجنبية في المنصّات الدولية.
إنَّ التأثير في الرأي العام العالمي، وهذا التحوّلُ الكبيرُ في المواقف للشعوب الأجنبية، والمسيرات التي شهدتها العواصم العالمية التي تعتبر تاريخيّاً خاضعةً للدعاية الصهيونية، وتقودها أنظمةٌ سياسيةٌ استعماريةٌ عاتية؛ ما كان ليتم لولا الحملات الإعلامية وخصوصاً أدوات الإعلام الجديد، ونشر الصور والفيديوهات والمعلومات التي شكّلت صدمةً لكلِّ صاحبِ ضميرٍ حيٍّ عن بشاعة الاحتلال وممارساته.
لقد كان الإعلام في صورته الأولى ملكاً للدولة أو العائلة ثم الشركات الكبرى أو الصغيرة.. إلى أن وصلنا إلى الفرد العادي؛ أي المواطن الذي أهدته التكنولوجيا الحديثة المتطورة إمكانية التعبير عن نفسه.
هي إذن ثمار التكنولوجيا المعاصرة التي جعلت المواطن صحفياً. وتوفرت وسائل الاتصال والتواصل بين أيدي الناس بدون أية تكلفة، فالكلُّ يكتب ويعبر وينشر الصور والأفلام والإعلانات. ولحق التغيير بكل شيء، ببنية النص والعنوان والصورة والتأثير والتلقي، والصلة مع الجمهور.
هذه الإشكاليةُ بدأت تطرح بقوّة موضوع أخلاقيات النشر في وسائل الإعلام والاتصال، والتأثيرات المختلفة لما يتم نشره على الناشئة؛ الأمر الذي حفّز عدداً من الجهات المعنية بالتربية والتعليم إلى العناية بالتربية الإعلامية والمبادرة إلى تعليم الإعلام وفنونه وقواعده وأخلاقياته في المدارس والجامعات؛ من أجل ترشيد التعامل مع المضامين الإعلامية على اختلاف أنواعها من طرف الناشئة التي عليها أن تتبين أبعاد ما يصل إليها من آراء وأفكار واتجاهات. ونحن في هذا المقام يمكن أن نشير إلى المضامين التي يمكن أن يقدمها خطاب التربية الإعلامية وكيفية بناء المحتوى الإعلامي المناسب، وكيفية تصميم الرسائل الإعلامية؛ خصوصاً تلك الموجهة إلى الجيل الشاب في المدرسة والجامعة.
إنّ من يتولى عبء تقديم هذه المادة يجب أن يكون واعياً بنظريات الإعلام ونماذجه. ولعلَّ من هذه النظريات الأقرب إلى تحقيق مفاهيم التربية الإعلامية؛ نظرية الأجندة أو ترتيب الأولويات، ونظرية الاستخدامات والإشباعات، ونظرية الاعتماد على وسائل الإعلام، ونظرية الغرس الثقافي.. وذلك لتشجيع الإبداع والابتكار، وتثقيف الجماهير، والإسهام في التنشئة الاجتماعية، والتكيف الاجتماعي للفرد والتركيز على القيم وأنماط السلوك.