الأوراق النقاشيّة الملكيّة
سياسات وطنيّة للإصلاح والتَّطوير
د. مجد الدين خمش
بروفيسور علم الاجتماع والسياسات الاجتماعيّة
عميد كلية الآداب(سابقًا) في الجامعة الأردنيّة
Mkhamesh@ju.edu.jo
جاءَت الأوراق النقاشيّة الملكيّة كجزء أساسي في عمليّة الإصلاح السياسي التي يقودها جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، حفظه الله، لجعل الأردنأنموذجًا للاستقراروالعدالة والتقدُّم المستدام، على الرّغم من الأحداث الإقليميّة الدامية التي تعاني منها بلدانعربيّة شقيقة مجاورة للأردن.
يَتَّضِحُ من التحليلات السوسيولوجية المتأنِّية أنَّالأوراق النقاشيّة الملكيّةالسَّبع لجلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، والتي نُشرت تباعًا في الفترة 2012-2017 ترسِّخ الديمقراطيّة كأسلوب حياة للأردنيّين، وتدعّم المواطنة الفاعلة المشاركة، والهُويّة الوطنيّة الأردنيّة الجامعة، وتحفّز الأفراد والمجتمعات المحليّة في الريف والبادية والمخيمات والمدينة للقيام بدورٍ نَشِطٍ اجتماعيًّا وسياسيًّا بما يعظّم من أهميّتهم في عملية القرار المجتمعي، ومشاركتهم في حل مشكلات المجتمع، والانشغال بقضاياه، لاسيّما تلك المتعلقة بالتنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة، ومشاركتهم في حل مشكلات الإدارات العامة الحكوميّة وتفعيل وظائفها وأدوارها. ذلك أنَّالنظام السياسي الديمقراطي يجعل الفرد مراقبًا ومحاسبًا لأداء الحكومات وأجهزتها الإداريّة بشكل مباشر، أو غير مباشر. إنَّ مشاركة المواطنين السياسيّة بشتى صورها، لاسيّما ممارسة حق الاقتراع،تعني أنَّالمواطن مهتمّ بكفاءة ومستوى أداء الحكومة وأجهزتها، ووظائف وكفاءة مؤسسات القرار السياسي العام. وترصد الحكومة مؤشّرات ونِسَب الاقتراع؛ فكلّما ارتفعت نِسَب الاقتراع نتيجة ازدياد المشاركة السياسيّة، كلّما شعرت الحكومة بعِظَم المسؤوليّة تجاه توقُّعات المواطنين. وهذا الالتزام السياسي من جانب المواطنين، والذي هو أحد مؤشرات المواطنة الفاعلة الأساسيّة كما جاء في الأوراق النقاشيّة الملكيّة، هو أيضًا تعبير عن إطاعة القانون والالتزام به، وهو ما تطالب به الأوراق النقاشيّة الملكيّة. وهو أيضًا احترام للدولة، والحكومة التي تسهر على حماية حقوق المواطنين وحريّاتهم؛ ممّا يعني أنَّعلى المواطنين بالتالي أنْيسهروا على حُسن أداء الحكومة لمهامها ومسؤوليّاتها.
•الأوراق النقاشيّة الملكيّة وسيادة القانون والمواطنة الفاعلة
الورقة النقاشيّة الملكيّة السادسة:"سيادة القانون أساس الدولة المدنيّة" تأتي هذه الورقة النقاشيّة الملكيّة السادسة حول الدولة المدنيّة وسيادة القانون متمِّمة للأوراق النقاشيّة الملكيّة الخمس السابقة والتي هي جزء أصيل في عمليّة الإصلاح السياسي الشامل التي يقودها الملك عبدالله الثاني ابن الحسين.ويقدِّم جلالته في هذه الورقة رؤيته للدولة المدنيّة التي ينعم بها الأردن، فهي دولة القانون والمؤسسات التي تستند لأحكام الدستور، وتستظلّ بالثوابت الدينيّة والشرعيّة، هدفها خدمة المواطنين بعدالة، وتحفيز مشاركتهم الإيجابيّة للقيام بدورهم إلى جانب الدولة ومؤسساتها لضمان تحقيق واستدامة التقدُّم والرَّخاء والازدهار لجميع المواطنين دون تمييز بينهم.
يقول جلالة الملك موضّحًا جوهر الدولة المدنيّة:
"إنَّالدولة المدنيّة هي دولة القانون التي تستند إلى حكم الدستور وأحكام القوانين في ظل الثوابت الدينيّة والشرعيّة، وترتكز على المواطنة الفاعلة، وتقبل بالتعدديّة والرأي الآخر، وتحدّد فيها الحقوق والواجبات دون تمييز بين المواطنين بسبب الدين أو الانتماء أو اللغة أو اللون أو العرق أو المستوى الاقتصادي أو الانتماء السياسي أو الموقف الفكري". ويؤكد جلالته في أكثر من فقرة في هذه الورقة على مبدأ سيادة القانون الذي هو أساس الدولة المدنيّة ودعامتها، وجسرها المتين للوصول إلى التنمية والرّفاه. ويشرحجلالته:
"إنَّطموحي لبلدنا وشعبنا كبير لأنَّ هذا ما تستحقّونه. ولكي نحقق أهدافنا ونواصل بناءنا لوطننا فإنَّ سيادة القانون هي الأساس الذي نرتكز إليه والجسر الذي يمكن أن ينقلنا إلى مستقبل أفضل". ويطلب جلالته من كل مواطن أردني أن يفتخر بمواطنته الأردنيّة وأن يعبِّر عن حبِّه وانتمائه لوطنه الغالي الأردن من خلال الالتزام بقانونه في قلبه وسلوكه، وحياته اليوميّة. يريد جلالته أن يصبح احترام القانون التزامًا وثقافة يوميّة سلوكيّة، وليس لفظيّة فقط.ويوضِّح جلالته:
"أقول هذا لأنَّني أعرف من التجربة أنَّكل فرد يقبل ويتبنّى مبدأ سيادة القانون من الناحية النظريّة. ولكن البعض يظنّون أنهم الاستثناء الوحيد الذي يُعفى من تطبيق هذا المبدأ على أرض الواقع".
الوصول إلى هذه المرحلة المتقدمة من سيادة القانون يرسّخ ويحمي المنجزات المتحققة عبر العقود: خدمة المواطنين بكفاءة، وتحقيق النمو المستدام، والمواطنة الفاعلة والمشاركة الديمقراطيّة، والعدالة، والشمول، وضبط الواسطة والمحسوبيّة، وضمان حقوق الأقليّات، وعدم استغلال الدين، وتحصين الشباب ضدّ مخاطر الفكر الظلامي وممارساته، والتسامح والاعتدال، والتعدّدية وتقبُّل الرأي الآخر. ويمكن قراءة النص الكامل للورقة النقاشيّة السادسة للتمعّن في مضامينها البنّاءة في الموقع الإلكتروني لجلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، حفظه الله:
https://Kingabdullah.jo/ar/discussion-papers •ترسيخ الديمقراطيّة ضمن نظامنا الملكي الدستوري
وكانت الورقة النقاشيّة الملكيّة الأولى وهي بعنوان "مسيرتنا نحو بناء الديمقراطيّة المتجددة" قد نُشرت في 29كانون الأول2012 ويعرض فيها جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين رؤيته لمسيرة الإصلاح الشامل في مختلف المجالات، لا سيّما في وقت كانت فيه الجهود قد بدأت، وكذلك الحملات الانتخابيّة استعدادًا للانتخابات النيابيّة التي جرت في عام 2013. كما تعمل الورقة على تحفيز المواطنين للدُّخول في حوارٍ بنّاءٍ حول القضاياالسياسيّة والعامة التي تواجه الأردن والمنطقة العربيّة. ويؤكّد الملك على مجموعة من الممارسات والمبادئ والقيم التي يجب تطويرها وتجذيرها لتدعيم الديمقراطيّة ضمن نظامنا الملكي الدستوري، وهي:
-احترام الرأي والرأي الآخر أساس الشراكة بين الجميع.
-وقد نختلف ولكنّنا لا نفترق.
-والحوار والتوافق واجب وطني.
-وجميعنا شركاء في التضحيات والمكاسب.
ويختتم جلالته هذه الورقة النقاشيّة بدعوة المواطنين والمواطنات لتبنّي هذه الممارسات الديمقراطيّة والتي هي في جوهر مكوّنات المواطنة الفاعلة.
"المواطنة الفاعلة المشاركة وإثراء الحوار الوطني وتعميقالمشاركة الشعبيّة في عمليّة القرار".
هذا، وقد جاءت الأوراق النقاشيّة الثلاث الأولى، التي نُشرت تباعًا في عامي 2012-2013 للمساهمة فيإثراء الحوار الوطني حول النموذج الديمقراطي الذي ننشده في الأردن، وأهدافه، والأدوار المطلوبة من كل الفاعلين في العملية السياسيّة بمعناها الواسع. وكذلك المحطات الواجب عبورها للوصول إلى هذا النموذج مع مراعاة الضمانات الضروريّة لنجاح تعميق التحوُّل الديمقراطي، وأبرزها- كما يقول جلالة الملك:
"التعدُّديّة، والتدرُّج، وعدالة الفرص السياسيّة".
أمّا في الورقة النقاشيّة الرابعة التي جاءت بالتَّزامن مع إطلاق مبادرة التمكين الديمقراطي التابع لصندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، وهي بعنوان"نحو تمكين ديمقراطي ومواطنة فاعلة" نُشرت في 2حزيران2013، فيؤكّد الملك فيهذه الورقة على أنَّالهدف الأساسي من الإصلاح هو تعزيز المشاركة الشعبيّة في صنع القرار، وتدعيم الأحزاب، والمعارضة النيابيّة التي تعمل ضمن المؤسسيّة لتحقيق نهج الحكومات البرلمانيّة وحكومة الظل المستندة إلى أحزاب برامجيّة. وكذلك تعزيز المجتمع المدني ودوره في الأداء السياسي، وتطويره ليساهم في ترسيخ الثقافة الديمقراطيّة في المجتمع. ويوضّح جلالته أنَّمبدأ الالتزام والمشاركة السلميّة جوهر "المواطنة الفاعلة"، وهذه المواطنة الفاعلة من الشروط الأساسيّة لإنجاح التحوُّل الديمقراطي، وترتكز على ثلاثة أسسهي: "حق المشاركة، وواجب المشاركة الملتزمة بالسلمية، والاحترام المتبادل".
•تعميق التحوُّل الديمقراطي وتقييم المنجزات السياسيّة
في الأوراق النقاشيّة الملكيّة الأربع الأولى تمَّ تقديم رؤية جلالة الملك الإصلاحيّة، وتوضيح هدفها النهائي المتمثل في ديمقراطيّةأردنيّة متجدِّدة وحيويّة، تقوم –كما يشرح جلالته- على ثلاث ركائز وهي: ترسيخ متدرِّج لنهج الحكومات البرلمانيّة، تحت مظلة الملكيّة الدستوريّة، معزَّزًا بالمشاركة الشعبيّة الفاعلة. أمّا في الورقة النقاشيّة الخامسة، وهي بعنوان "تعميق التحوُّل الديمقراطي: الأهداف، والمنجزات، والأعراف السياسيّة"، ونشرت في 12أيلول2014، فيستعرض جلالته فيها محطات الإنجاز على طريق الإصلاح السياسي، وهذه المحطات هي:
أولًا، محطات الإنجاز التشريعي،لا سيّما إقرار التعديلات الدستوريّة التي ترسّخ مبادئ الفصل والتوازن بين السلطات؛وثانيًا، محطات الإنجاز المؤسسي، لا سيما إنشاء المحكمة الدستوريّة، والهيئة المستقلة للانتخابات، وتأسيس مجلس النواب مركزًا للدراسات والبحوث التشريعيّة، والاستمرار في دعم المركز الوطني لحقوق الإنسان؛ وثالثًا، محطات التطوُّر الخاصة بأطراف المعادلة السياسيّة.
ويركِّز هذا المسار على تحديد القِيَم والممارسات الجوهريّة للثقافة الديمقراطيّة للمواطنين التي يجب تجذيرها في ثقافتنا، ومجتمعنا. وتشتمل هذه القيم على الاعتدال، والتسامح، والانفتاح، والتعدديّة، وإشراك جميع مكوّنات المجتمع، واحترام الآخرين والشعور بهم، واحترام سيادة القانون، وصون حقوق المواطنين، وتنافس الأطياف السياسيّة بعدالة عبر صناديق الاقتراع بما يضمن الأمن والاستقرار، وتكافؤ الفرص، والتقبُّل المتبادَل بين الجميع، والمشاركة الفاعلة. حيث يؤكد جلالة الملك على ذلك بقوله:
"ولا بدَّ هنا أيضًا من التأكيد على ضرورة استمرار "ربيعنا الأردنيّ" في تبنّي الممارسات الديمقراطيّة الأساسيّة التالية: احترام مبدأ الحوار وتبنّيه في سبيل تجاوز الاختلافات، والتلازم بين حقوق المواطنين وواجباتهم، والشراكة في بذل التضحيات ونيل المكاسب، وتحويل الاختلافات إلى حلول توافقيّة، والمشاركة الفاعلة من قِبَل جميع المواطنين والمواطنات".
ويؤكد جلالة الملك في هذه الورقة النقاشيّة على دور المشرِّعين في إعطاء الأولويّة للحكومات البرلمانيّة ولقوانين الحكم المحلي، واللامركزيّة. واستمرار الحكومات في تطوير أداء القطاع العام والجهاز الحكومي بحيث يكونان على أعلى مستويات المهنيّة والموضوعيّة، والحياد السياسي، وانتهاج سياسات مستقبليّة بالاستناد إلى الأبحاث والبراهين. ومن المهم أن تقوم الجامعات، ومراكز الأبحاث، إضافة إلى القطاع الخاص في تنشيط دورها في إنتاج أفكار وأبحاث تقدِّم حلولًا للتحدِّيات التي تواجهها المملكة. إضافة إلى ضرورة تطوُّر الأحزاب إلى أحزاب برامجيّة ذات كفاءة وتأثير وحضور على مستوى الوطن، والاستمرار في تدعيم قدرات السلطة القضائيّة، فالعدل هو أساس الحكم. ويختتم جلالته هذه الورقة بقوله:
"أودُّ أن أنهي هذه الورقة بالتأكيد على أنَّالأمن والديمقراطيّة والرّفاه هي دعائم المستقبل، ويعتمد كل منها على الآخر، فالتحديات الراهنة تمثِّل واقعًا استثنائيًّا ضاغطًا، لكن الأردن ماضٍ بثقة على مسار التنمية السياسيّة الذي اختطّه. أمّا اقتصادنا الوطني، وفي ظلِّ ما يواجهه من أعباء هائلة، فإنَّنا بحاجة لتركيز كل الجهود لتحفيزه ودفع عجلته". •التعليم والابتكار وإعداد الموارد البشريّة
تركِّز الورقة النقاشيّة الملكيّة السابعة على أهميّة التعليم ودوْره في إعداد الموارد البشريّة على مستوى المدرسة، والجامعة،ومراكز التدريب والبحث والتطوير والابتكار، بما يتناسب ومتطلّبات سوق العمل وتطوير الإدارات الحكوميّة، ومواكبة التطوُّرات التكنولوجيّة؛ ممّا يعطي المواطن مزيدًا من الفرص للمشاركة الفاعلة في ابتكار حلول لمشكلات المجتمع، وبخاصّة تبسيط إجراءات الإدارات الحكوميّة وزيادة كفاءتها، وتوجيه الشباب نحو التعليم التقني والمهني، والابتكار، بما يتناسب ومتطلّبات سوق العمل وتطوير الإدارات. ويؤكد جلالة الملك على ذلك بقوله:
"وعليه، فإنَّنا نريد أن نرى مدارسنا ومعاهدنا المهنيّة وجامعاتنا مصانع للعقول المفكِّرة، والأيدي العاملة الماهرة، والطاقات المُنتِجة، نريد أن نرى مدارسنا مختبرات تُكتشف فيها ميول الطلبة، وتُصقل مواهبهم، وتُنمّى قدراتهم، نريد أن نرى فيها بشائر الارتقاء والتَّغيير، لا تخرِّج طلابها إلا وقد تزوَّدوا بكل ما يعينهم على استقبال الحياة، ومواجهة ما فيها من تحدِّيات، والمشاركة في رسم الوجه المشرق لأردن الغد؛ طلبة يعرفون كيف يتعلمون، كيف يفكرون، كيف يغتنمون الفرص ويبتكرون الحلول المبدعة لما يستجد من مشاكل، ويعرض من عقبات، ولا يكون ذلك إلّا بمنظومة تعليم حديثة، توسِّع مدارك الطلبة، تعمِّق فكرهم، تثير فضولهم، تقوّي اعتدادهم بأنفسهم، وتصل بهم إلى العالميّة، على أجنحة من الإيمان القويّ، والثقة الراسخة، والاعتزاز بهويَّتنا الإسلاميّة والعربيّة وتراث الآباء والأجداد.
كما لا يمكن أن يتحقَّق ذلك، إلّا بمناهج دراسيّة تفتح أَمام أبنائنا وبناتنا أبواب التفكير العميق والناقد؛ تشجِّعهم على طرح الأسئلة، وموازنة الآراء؛ تعلِّمهم أَدب الاختلاف، وثقافة التنوُّع والحوار؛ تقرِّب منهم أساليب التعبير، وتنمّي فيهم ملكة النَّظر والتدبُّر والتحليل، وكذلك بمعلمين يمتلكون القدرة والمهارات التي تمكِّنهم من إعداد أجيال الغد".
واسترشادًا بمضامين هذه الورقة النقاشيّةفقد أطلق معهد الإدارة العامة مبادرة "الرَّبط بين متطلبات سوق العمل ومخرجات النظام التعليمي" من خلال آليّات محدَّدة، أهمّها تفعيل الشراكة مع الجامعات بما يُسهم في تطوير الإدارة الحكوميّة، وإثراء البرامج والمواد الأكاديميّة بقضايا تطبيقيّة تتعلق بالجهاز الإداري الحكومي، والتعاون مع الجامعات لطرح برامج ماجستير ودبلوم ذات طابع تطبيقي لتدريب الموظفين في القطاع العام، وإتاحة فرص التدريب لطلبة الجامعات كلٍّ في مجال اختصاصه في الدوائر والوزارات الحكوميّة، والاستفادة من التجارب العالميّة في مجالات عمل وتطوير القطاع الحكومي. •ترسيخ الديمقراطيّة كأسلوب حياة للأردنيّين
إنَّهذه المضامين الواردة في الأوراق النقاشيّة الملكيّة، وبرامج العمل والآليات التي تقترحها، وتلك التي نتجت -كما ذُكر سابقًا- ترسِّخ الديمقراطيّة كأسلوب حياة، وتحفّز الأفراد للقيام بدور فاعل في المجتمع، بما يعظّم من مشاركتهم السياسيّة، ومساهمتهم في حل مشكلات الإدارات العامة الحكوميّة. ذلك أنَّالنظام السياسي الديمقراطي يجعل الفرد مراقبًا ومحاسبًا لأداء الحكومات وأجهزتها الإداريّة بشكل مباشر، أو غير مباشر -كما أشرتُ من قبل- ومشاركة المواطنين السياسيّة بشتى صورها، لاسيّما ممارسة حق الاقتراع يعني أنَّالمواطن مهتم بكفاءة ومستوى أداء الحكومة.
•نموذج المواطنة الفاعلة وإثراء الحياة السياسيّةوالثقافيّة
قراءة سوسيولوجيّة:
يتَّضح من هذه القراءة السوسيولوجيّة للأوراق النقاشيّة الملكيّة أنَّنموذج المواطنة الفاعلة المتضمَّن في هذه الأوراق النقاشيّة الملكيّة-لا سيّما الورقة النقاشيّة الرابعة- يُثري الحياة السياسيّة، والثقافيّة الوطنيّة، ويدعّم اهتمام المواطنين بالقضايا العامة، كما يُثري الأدبيات والمناهج التعليميّة حول المواطنة والمشاركة ويدعّمها. فالمواطن الفاعل يُنظر إليه من خلال تحقيق شروط سياسيّةديمقراطيّة قُدّمت في الأوراق النقاشيّة الملكيّة، ومن أهمها أربعة شروط سياسيّةديمقراطيّة تمكِّن النظام السياسي من إنتاج المواطن الفاعل المشارك، وهذه الشروط هي:
-التسامح وتقبُّل الاختلاف في الرأي.
-وتقبُّل التنوُّع.
-والمشاركة الفاعلة، وامتلاك المعلومات والإحصاءات.
-ودعم الحكومة وأجهزتها.
ومن أهمّ مؤشرات التسامح تقبُّل الآخر المختلف في الرأي، أو العرق، أو الدين، أو الجندر، أو الطبقة الاجتماعيّة. وتقبُّل التنوُّع الثقافي والديني والسياسي؛ ذلك أنَّالتنوُّعدعامة الديمقراطيّة وصفتها الأساسيّة، فهو يزيد الخيارات أمام الناخب بما يعظّم من فرص المشاركة، وتحقيق الخير العام. وتتضمَّن المشاركة الفاعلة ممارسة الدولة لسلطتها على المواطنين بديمقراطيّة وعدالة، بينما يمارس المواطنون سلطتهم على الدولة من خلال صناديق الاقتراع؛ حيث يقوم المواطن بأداء أبرز التزاماته السياسيّة، وهي المشاركة في الحكم.
فالمشاركة تمثل الالتزام الأخلاقي الأهم الذي يقع على عاتق المواطن، فمعظم الدساتير العربيّة وغير العربيّة تترك أمر المشاركة السياسيّة لقرار المواطنين، ووعيهم وتكتفي ببث حملات التوعية والإرشاد لحث المواطنين على المشاركة والقيام بأدوارهم في صنع الديمقراطيّة، واستمرار وديمومة المؤسسات السياسيّة، وتجدُّدها.
وعند مراجعة بعض الأدبيّات المهمة حول المواطنة والهُويّة الوطنيّة يتَّضح وجود تفرقة بين "المواطنة الفاعلة" و"المواطنة السلبيّة"، ويتبيَّن أنَّذلك يعتمد على موقف الدولة، فحين تدعم الدولة مجالس ومؤسسات المشاركة يتمّ فتح قنوات كافية للمواطنين للمشاركة السياسيّة بما يؤدّي إلى تزايد حجم هذه المشاركة. أمّا حين تهمل الدولة مثل هذه المجالس والمنظّمات والمؤسسات، فإنَّ المشاركة السياسيّة تتراجع وتضعف. والجدير بالذِّكر أنَّالدولة في الأردن في تدعيمها لمفاهيم المشاركة والمواطنة الفاعلة، وبرامج التنمية السياسيّة، واعتمادها لمجالس البلديّات والمحافظات، وقوانين انتخاب متطوِّرة، إنَّما تُوجد بيئة مؤسسيّة نشطة للمشاركة الاجتماعيّة والسياسيّة تؤدي إلى تقوية المواطنة الفاعلة وزيادة أعداد المواطنين الفاعلين المشاركين.
ويُعتبر البحث عن المعلومات والإحصاءات في الشأن العام من التزامات المواطن؛ حيث يُتوقَّع من المواطن النشط الإيجابي أن يكون ملمًّا بالظروف والتطوُّرات السياسيّة والاقتصاديّة في بلده. ووجود هذه المعلومات والإحصاءات لديه تمكِّنه من تقديم تحليلات واقعيّة ذكيّة عن قضايا ومشكلات بلده، وموقف القوى السياسيّة منها، وتوجِّه آراءه التي يُبديها على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي الصحف والمنتديات، واستطلاعات الرأي، كما توجِّه مواقفه في الانتخابات في مستوياتها المختلفة.
أمّا احترام القانون، فهو جزء من احترام الدولة ودعم الديمقراطيّة؛ فالمواطن الفاعل يقدّر ما تقوم به مؤسسات الدولة، ويدرك دورها نحو الوطن والمواطن، وإذا ما شاب أداء بعضها قصور أو فساد فإنَّ عليه أن لا يشكّ في المؤسسة، وإنَّما يشكّ في بعض القائمين عليها في فترة من الفترات. فبعض الأفراد الذين يتولّون إدارة هذه المؤسسات قد لا يكونون على مستوى من الكفاءة والمسئوليّة لضمان حُسن سَيْر العمل فيها، وتطويرها. وهو كمتابع يراقب أداء هذه المؤسسات ويقدِّم رأيه للمسؤولين الأعلى، ويعقد الندوات أو ينظّم المحاضرات، أو يكتب المقالات حول هذه المؤسسات، أو يرفع عريضة أو شكوى إلى أصحاب القرار لتوضيح أوجه القصور في هذه المؤسسات واقتراحاته لمواجهتها. فالاحتجاج على التقصير المتأتي من قبل بعض المسؤولين في مؤسسة ما، أو الظلم، أو التمييز الذي قد يقع على أفراد أو جماعات داخل المجتمع، من مسؤوليّات المواطن الفاعل والتزاماته الأخلاقيّة الأساسيّة.
•سياسات المُواطَنَة الفاعلة
المشاركة السياسيّة جوهر المُواطَنَة الفاعلة المواطنة الفاعلة إذن، توازن بين مجموعة من الحقوق والالتزامات تؤدّي إلى تشكيل الفرد المواطن ليس كمتلقٍّ سلبيٍّ لِما تقدِّمه الحكومات فقط، وإنَّما كريادي وقيادي يملك الرغبة، والخبرة، والوسائل القانونيّة للتأثير في تشكيل مجتمعه، بعد أن أصبحت المشاركة السياسيّة مؤشرًا لمدى حيويّة وديمقراطيّة النظام السياسي. فبينما تميل الأنظمة السياسيّة غير الديمقراطيّة إلى جعل المشاركة السياسيّة شكليّة وفي أضيق الحدود، تعمل النُّظُم الديمقراطيّة على تشجيع المواطنين على المشاركة الواسعة لأنها تساعد النظام السياسي على معرفة وجهة نظر المواطنين فيما يجرى من الأمور، ممّا يساعدها على اتخاذ القرارات المناسبة في الأوقات المناسبة، وبذلك تضمن لتلك القرارات التأييد الشعبي. ومن هنا يتَّضح لنا أنَّالمشاركة السياسيّة سواء أكانت محدودة أو بلا حدود، مستمرّة أو بشكل متقطع، سلميّة الطابع، أو أمْيَل إلى الجماهيريّة، هي في النهاية من أقوى أساليب التعبير عن ممارسة المواطن لحقِّه في أن يكون جزءًا من منظومة صناعة القرار في بلده. وهي وسيلة لتحقيق مواطنة فاعلة لكل أفراد الشعب.
•المُواطَنَة الفاعلة ومكوّناتها
التحليل السوسيولوجي لمضامين الأوراق النقاشيّة الملكيّة حول المواطنة الفاعلة يبيِّن أنَّأهم مكوّنات هذه المواطنة كما جاءت في الأوراق النقاشية الملكيّة مجموعة مترابطة من التشريعات، والمعارف والاتِّجاهات والقِيَم، والمهارات لتحقيق المشاركة الفعّالة، تشتمل على ما يلي:
-التشريعات والمعارف: تشريعات ومعارف حقوق الإنسان ومسؤوليّاته وواجباته، ومحو الأميّة السياسيّة والتاريخيّة، ومعرفة الدستور الوطني، والمسائل القانونيّة، والتراث الثقافي، والتنوُّع، واستدامة البيئة، وكيفيّة التأثير في السياسة والمجتمع.
-القِيَم: وتشمل حقوق الإنسان، والديمقراطيّة، والمساواة بين الجنسين، والسلام ونبذ العنف، والتسامح وتقبُّل الرأي الآخر، واحترام التعدديّة الثقافيّة والدينيّة والسياسيّة، والعدل والإنصاف.
-المهارات:وتتضمَّن اكتساب الأفراد للمهارات والكفايات التالية: متابعة التشريعات والقوانين، وتنمية القدرات البحثيّة للوصول إلى المعلومات الصحيحة، والاستقلاليّة، والتفكير النقدي، ومهارات الاتصال والمناقشة، ومهارات الاستماع الفعّال، وحل المشكلات، وحل الخلافات بين الثقافات، وحُسن التعامل مع الآخرين، وتقدير المخاطر.
كما تتضمَّن تدريب الأفراد على المواقف التالية: الالتزام بالتشريعات والقوانين، والثقة السياسيّة، والمصالح السياسيّة، والفاعليّة السياسيّة، والاستقلال، والمرونة الثقافيّة، واحترام الثقافات الأخرى، والانفتاح على التغيير، واحترام الاختلاف في الرأي، والمسؤوليّة الاجتماعيّة، والمشاركة الفعّالة للمواطنين، والتأثير في المجتمع والسياسة بما يضمن حصول الطلبة الشباب والناضجين على الهُويّة المناسبة لهم ولمجتمعهم. ومن مضامين هذه الهُويّة الإحساس بالكرامة الشخصيّة، والإحساس بهُويّة المجتمع، والإحساس بالهُويّة القوميّة، والإحساس بالهُويّة العالميّة.
كما تتطلّب المواطنة الفاعلة أيضًا قبول سيادة القانون ودعم المجتمع السياسي، والشعبي من أجل العدالة والمساواة المتكافئة للمواطنين، واحترام التنوُّع الثقافي، والبيئي والبُعد عن التعصُّب والعنصريّة والتحيُّز. وتتطلَّب أيضًااتِّخاذ مواقف إيجابيّة أخرى مرتبطة بالقيم المدنيّة ومنها: الشعور بالانتماء للمجتمع، وتبنّي الاتِّجاهات الديمقراطيّة، وتقبُّل التغيُّر والتكيُّف مع التطوُّرات،والحفاظ على البيئة، واحترام حقوق الإنسان، والتعدّدية والمساواة، والمشاركة السياسيّة في منظّمات المجتمع المدني، وفي الأجهزة والعمليّات السياسيّة.
•الخلاصة والخاتمة
تتطلَّب المواطنة الفاعلة-بحسب النموذج الأردني المتضمَّن في الأوراق النقاشيّة الملكيّة كما اتَّضح في هذا المقال- اكتساب الأفراد والجماعاتلمجموعة مترابطة من المعارف القانونيّة والتشريعيّة، والقيم، والمهارات السلوكيّة المرتبطة بالمشاركة الفاعلة والتأثير على عمليّة اتِّخاذ القرار المجتمعي في مستوياته المختلفة. أمّا الشروط المطلوبة من كل الفاعلين في العمليّة السياسيّة بمعناها الواسع، وكذلك المحطات الواجب عبورها للوصول إلى هذا النموذج، مع مراعاة الضمانات الضروريّة لنجاح تعميق التحوُّل الديمقراطي، فأبرزها؛ كما يقول الملك:التعدّدية، والتدرُّج، وعدالة الفرص السياسيّة. ويتبيَّن من الورقة النقاشيّة الرابعة، التي جاءت بالتزامن مع إطلاق مبادرة التمكين الديمقراطي التابع لصندوق الملك عبدالله الثاني للتنمية، أنَّالهدف الأساسي من الإصلاح هو تعزيز المشاركة الشعبيّة في صنع القرار، وتدعيم الأحزاب، والمعارضة النيابيّة التي تعمل ضمن المؤسسيّة الوطنيّة لتحقيق نهج الحكومات البرلمانيّة وحكومة الظلّ المستندة إلى أحزاب برامجيّة. وكذلك تعزيز المجتمع المدني ودوره في الأداء السياسي، وتطويره ليساهم في ترسيخ الثقافة الديمقراطيّة في المجتمع. ويوضِّح جلالة الملك أنَّمبدأ الالتزام والمشاركة السلميّة جوهر المواطنة الفاعلة،وهي من الشروط الأساسيّة لإنجاح التحوُّل الديمقراطي، وترتكز على ثلاثة أسس هي:حق المشاركة،وواجب المشاركة الملتزمة بالسلميّة، والاحترام المتبادَل. وتركّز الورقة النقاشيّة الملكيّة السابعة -كما اتَّضح في هذا المقال- على أهميّة التعليم ودوره في إعداد الموارد البشريّة على مستوى المدرسة، والجامعة،ومراكز التدريب والبحث والتطوير والابتكار، بما يتناسب ومتطلّبات سوق العمل وتطوير الإدارات الحكوميّة، ومواكبة التطوُّرات التكنولوجيّة، ممّا يعطي المواطن مزيدًا من الفرص للمشاركة الفاعلة في ابتكار حلول لمشكلات المجتمع، وبخاصّة تبسيط إجراءات الإدارات الحكوميّة وزيادة كفاءتها، وتوجيه الشباب نحو التعليم التقني والمهني، والابتكار، بما يتناسب ومتطلّبات سوق العمل وتطوير الإدارات الحكوميّة والأهليّة. وتبيَّنَ أيضًا أنَّالمواطنة الفاعلة تتطلَّب المشاركة في النقاشات السياسيّة العامة في المنتديات الثقافيّة، والوعي بالقضايا السياسيّة الراهنة، والقدرة على تقييم المواقف والقرارات واتِّخاذ موقف منها. إضافة إلى مهارات تسوية النزاعات سلميًّا والقدرة على التقييم والوصول إلى قرار، وتفسير الرسائل الإعلاميّة بحسب مجموعات المصالح، والاتحادات، والنقابات، ومهارات تنكولوجيا المعلومات، وامتلاك مهارات الاتِّصال بالمجتمع، والاستخدام النشط لوسائل الإعلام ليس كمستهلك وإنَّما كمنتج أيضًا. إضافة إلى المشاركة في التنظيمات السياسيّة والأهليّة التطوعيّة، وبناء التحالفات والتفاعل مع قضايا ومشكلات المجتمع، والقدرة على التعامل مع التنوُّع الثقافي في المجتمع.