الإعمار الهاشمي والقدس.. قصّة وفاء
صالح مفلح الطراونة
كاتب أردني
tarawneh_sal eh@yahoo.com
ارتَبَطَ الهاشميّون تاريخيًّا بعقد شرعي وأخلاقي مع المقدَّسات الإسلاميّة، فكانت المقدَّسات، وتحديدًا مدينة القدس الشريف، بالنسبة لهم أولويّة؛ فحاوَلَت "إسرائيل" التفرُّد بإحداث التَّغييرات التي تطمس الهويّة العربيّة الإسلاميّة للمدينة، وهو الأمر الذي تحول دونه حاليًّا الإجراءات الهاشميّة تحت رعاية جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين الذي يوظِّف تراث الهاشميّين التاريخي لصدّ المطامع الإسرائيليّة.
تُعْتَبَرُ المقدَّسات الدينيّة بشكل عام أحد مظاهر الثَّروة الرَّمزيّة التي تشكِّل جزءًا مهمًّا، بل ومحوريًّا أحيانًا، من تشكُّل الهويّة الجمعيّة للشعوب والأمم، وتحظى المقدَّسات الدينيّة لمختلف الأديان برعاية الدولة، حتى في حالات الدولة المعلنة العلمانيّة، وليس أدلّ على ذلك من التَّداعي لإعادة تأهيل كاتدرائيّة نوتردام في مدينة باريس التي شهدت حريقًا مدمِّرًا قبل بضعة أشهر، إلّا أنَّ الرِّعاية عادةً ما ترتبط بالإقليم الجغرافي للمواقع المقدَّسة. في حالة المملكة الأردنيّة الهاشميّة والمواقع المقدَّسة في مدينة القدس الشريف، قصة على جانب من الحساسيّة والتَّعقيد تتعلَّق بمواجهة مناورات إسرائيليّة حاوَلَت استدراج المقدَّسات الإسلاميّة والمسيحيّة كذلك إلى حالة من الفراغ القانوني؛ للتفرُّد بإحداث التَّغييرات التي تطمس الهويّة العربيّة الإسلاميّة للمدينة، وهو الأمر الذي تحول دونه حاليًّا الإجراءات الهاشميّة تحت رعاية جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين الذي يوظِّف تراث الهاشميّين التاريخي لصدّ المطامع الإسرائيليّة.
تنبَّه الأردن مبكرًا لضرورة المنافحة عن الوصاية الهاشميّة بوصفها خط الدفاع الرئيس ببُعده القانوني والإجماعي والمعنوي في مواجهة إسرائيل، وأثبتت تطوُّرات الأحداث خلال العقدين الأخيرين رجحان رؤية المغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال ورفضه القاطع لإدماج القدس ضمن أيّ اتفاقيّة لفكّ الارتباط بأراضي الضفة الغربيّة التي تشتمل على القدس الشرقيّة، على الرّغم من الضغوطات العربيّة والدوليّة في هذا السياق، ووقفت هذه الرُّؤية في مواجهة إحداث خلل في التوازن نتيجة غياب الوصاية التي تستند إلى شرعيّة المملكة الأردنيّة الهاشميّة وقيادتها، وهو ما يحقق التوازن في وضعيّة دولة مقابل دولة في المحافل والمنظمات الدوليّة، ولا سيّما في ظلّ وجود واقعة الاحتلال الموصوفة بحسب القوانين والأعراف الدوليّة، وهو الوضع الذي لحقه الاختلال في محاور أخرى ترتبط بالقضيّة الفلسطينيّة. ارتَبَطَ الهاشميّون تاريخيًّا بعقد شرعي وأخلاقي مع المقدَّسات الإسلاميّة، فجعلوا لها مكانة خاصة لديهم وناضلوا من أجلها، وهذا العقد والارتباط امتدَّ منذ قيام الدولة الأردنيّة، فكانت المقدَّسات، وتحديدًا مدينة القدس الشريف، بالنسبة لهم أولويّة، وقد وقَّع جلالة الملك عبدالله الثاني في شهر آذار لعام 2013 مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس في عمّان اتفاقيّة تؤكِّد المضيّ بالوصاية الهاشميّة على الأماكن المقدَّسة وأنَّ صاحب الجلالة الملك عبدالله الثاني هو صاحب الوصاية على الأماكن المقدَّسة والقدس الشريف؛ ممّا يتيح لجلالته بذل كل ما يستطيع من جهود قانونيّة للحافظ عليها، وكان المعني بذلك (المسجد الأقصى) والذي حدَّدته تلك الاتفاقيّة على أنه (كامل الحرم القدسيّ الشريف). بدأ الإعمار الهاشمي منذ عام 1922 حينما أقرَّ المجلس الإسلامي الأعلى كمنظمة إسلاميّة أهليّة تحافظ على القدس الشريف، وقد تعرَّضت آنذاك قبّة الصخرة إلى تآكل، وحينها تبرَّع الشريف الحسين بن علي بمبلغ 50 ألف ليرة ذهبيّة لإعمار المسجد الأقصى وكثير من المواقع هناك، وبالتالي بدأت وصاية الهاشميّين تمتدّ في عُمق المحافظة على هذا الإرث والمكوّن الإسلامي العزيز على المسلمين كافّة وعلى امتداد مساحات تواجدهم على خريطة العالم، حيث ساهم هذا الإعمار الهاشمي بصمود مرافق المسجد الأقصى أمام الزلزال الذي ضرب المنطقة بعنف عام 1927، حتى جاء دوْر الملك المؤسس عبدالله بن الحسين طيَّب الله ثراه والذي أكّد باكرًا رفضة القاطع لوعد بلفور، وأصرَّ على أن يكون أمر فلسطين بأيدي أهلها. جاء ذلك على الرّغم من تغيُّر مسار الأحداث والتي كانت تشكِّل قمّة الصعوبة، وجاءت كل أحلام العرب بعيدًا عمّا يشتهون؛ وبدأت بإعلان بريطانيا جلاءها في الخامس عشر من أيار لعام 1948م عن فلسطين وتحويل كل القضيّة إلى الأمم المتحدة، فأعطت لإسرائيل مبرِّرًا لإعلان دولتها في فلسطين، ممّا أدّى إلى اندلاع حرب عام 1948، وكلّنا يعلم دوْر الجيش الأردني الباسل في تلك الحروب، وتحديدًا في باب الواد واللطرون وغيرها لإنقاذ القدس، والجميع يعرف ما آلت إليه تلك الحرب من هزيمة للعرب، وعرَّضت الحرم الشريف في القدس لأضرار كبيرة، فبادر الملك المؤسِّس بإطلاق دعوته الملكيّة في إعادة ترميم محراب سيدنا زكريا. بل إنَّ دوْر الهاشميّين قد وصل إلى معانٍ سامية بالقِيَم العروبيّة عندما شارك الملك المؤسِّس شخصيًّا عام 1949 في إخماد الحريق الذي نشب في كنيسة القيامة. استمرَّت فترة حكم الملك المؤسِّس منذ عام 1921 وحتى عام 1951 وكان بمثابة الحارس الأمين للمقدَّسات الإسلاميّة والمسيحيّة هناك.
بعد ذلك جاء الإعمار الثاني في عهد جلالة الملك الحسين بن طلال حينما استلم سلطاته الدستوريّة في الثاني من أيار لعام 1953، حيث أكّد مباشرةً أهميّة إعادة ترميم قبّة الصخرة التي تضرَّرت نتيجة للظروف وعوامل الطقس ومتغيّراته. في العام 1954 أمر المغفور له الملك الحسين بن طلال بتشكيل لجنة لإعمار المقدَّسات الإسلاميّة يكون مقرّها القدس الشريف، وتحت الرعاية الهاشميّة، استمرارًا لدوْر الهاشميين الرِّيادي بحماية ورعاية هذه المقدَّسات. وقد باشر الإعمار الثاني تنفيذ أعماله عام 1959، واستغرق فترة طويلة في أعمال الإصلاح والترميم حتى 6-8-1964 شاملًا المسجد الأقصى المبارك.
وفي السادس من تموز عام 1964، ومن داخل الحرم القدسي الشريف، ألقى جلالة الملك الحسين بن طلال طيَّب الله ثراه خطابًا قال فيه:
"إنَّنا ونحن نغتبط اليوم إذْ نمدُّ أبصارَنا من خلالكم، فنرى الملايين من العرب والمسلمين في آسيا وأفريقيا، وقد اجتمعت من حول فلسطين هذه الساعة، نحبُّ أنْ نذكر بأنَّ إعمار مسجد الصخرة المشرَّفة وقبَّتها المشرَّفة إنْ بدأ فوق أرض المسجد وفي حدودها الضيِّقة، فإنَّ إنقاذ الصخرة والحفاظ على مسجدها وصوْن قبَّتها تنتهي كلّها هناك، في الأرض السليبة، في الأرض العربيّة الحبيبة، وفي استرداد حقوقنا فيها كاملةً غير منقوصة...". بدأت مرحلة الإعمار الثالث للمسجد الأقصى في الحادي والعشرين من آب لعام 1969؛ إثر الحادثة الأليمة التي قام من خلالها أحد اليهود المتديِّنين المتعصِّبين بإضرام النار داخل المسجد الأقصى، ممّا أدى إلى تدمير معظم أجزائه، ونشير هنا إلى تدمير منبر صلاح الدين الذي أحضره من حلب القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي الذي حرر المدينة من الصليبيين عام 1187م. كذلك طالت آثار الحريق مسجد عمر، ومحراب زكريا، ومقام الأربعين، والقبّة الخشبيّة الداخليّة، والسجّاد، وحينها أصدر جلالة الملك الحسين أوامره الملكيّة السامية بإعادة إعمار المسجد الأقصى وكلّ ما تعرَّضت له تلك الأماكن بالحريق، وكانت كلفة الإعمار كبيرة، فتبرَّع جلالة الحسين من ماله الخاص إلى لجنة الإعمار حتى تستطيع القيام بأعمالها المطلوبة، ووصلت كلفة الإعمار 8.248.000 دولار.
إلى جانب الإعمار، كان لجلالة الحسين بُعدٌ معرفيٌّ وثقافيّ، وكان متابعًا لآفاق التطوُّر العلمي وما يحمله من رؤية بعيدة النَّظر، فأنشاء العديد من الكليّات التي تهتمّ بالدعوة لأصول الدين ومراكز تحفيظ القرآن في أغلب مدن فلسطين كالقدس وقلقيلية والخليل ونابلس، وأنشأ قسم إحياء التراث الإسلامي في القدس عام 1978. ولأنَّ الرِّسالة تمتدُّ جيلًا بعد جيل من بني هاشم، استمرَّ الإعمار الهاشميّ ليصل الرابع في تاريخ هذه الأسرة التي عمَّقت الفهم الكبير للمقدَّسات الإسلاميّة وأهميّة المحافظة عليها، فقد أكَّد جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين أنَّ هذه الرِّعاية جزء لا يتجزّأ من برامج الحكومات الأردنيّة، وما صدر أيّ كتاب تكليف سامي من جلالته إلّا وكان لرعاية المقدَّسات وصون حقوقها والمحافظة على استمرار رعايتها أساسٌ في كلِّ هذه الخطابات الملكيّة السامية، وقد جسَّد ذلك جلالة الملك عبدالله الثاني بالإعمار الرابع حينما أمر بتشكيل لجنة إعمار المقدَّسات والمعالم الإسلاميّة وقبة الصخرة المشرَّفة بموجب قانون يكفل استمراريّة الجهد الهاشمي في هذا الجانب.
وقد شملت مشاريع الإعمار في المسجد الأقصى في عهد جلالة الملك عبدالله الثاني ما يلي: أولًا: منبر المسجد الأقصى المبارك "منبر صلاح الدين"، حيث وضع جلالته اللوحة الزخرفيّة الأولى على جسم المنبر في الأول من كانون الأول عام 2002.
ثانيًا: الحائط الجنوبي للمسجد الأقصى.
ثالثًا: الحائط الشرقي للمسجد الأقصى.
رابعًا: مشروع نظام قضبان الشَدّ والرَّبط لجدران المصلّى المرواني.
خامسًا: نظام الإنذار وإطفاء الحريق في المسجد الأقصى.
سادسًا: البنى والمرافق التحتيّة.
سابعًا: قبة الصخرة المشرفة؛ وشملت الرِّعاية الهاشميّة في عهد جلالة الملك عبدالله الثاني ترميم الأعمال الفنيّة في مختلف مرافق قبة الصخرة المشرَّفة، إذْ تُعدُّ هذه الواجهات الفنيّة الزخرفيّة من كنوز الإنجاز الفنّي الإسلامي الذي يعود للعصر الأموي، ومنها إعادة الرُّخام الداخلي لجدران القبّة.
ثامنًا: مهد عيسى عليه السلام.
تاسعًا: مشاريع الإعمار المقترح تنفيذها؛ ومنها مشروع الإنارة، وشبكة الهاتف، وتطوير الصوتيّات المركزيّة، ومشروع المئذنة الخامسة للمسجد الأقصى المبارك. وقد تمّ فعلًا تركيب أنظمة حديثة متطوِّرة للإنارة والصوت والأعمال الميكانيكيّة والصحيّة والإنذار المبكر للحريق.
عاشرًا: ترميم القبر المقدَّس؛ ففي الرابع من نيسان/ إبريل عام 2016 تبرَّع جلالة الملك عبدالله الثاني، وعلى نفقته الخاصة، لترميم القبر المقدَّس في كنيسة القيامة في القدس. وفي هذا السياق، وبالعودة إلى خطابات جلالة الملك عبدالله الثاني في كُتُب التَّكليف السامي للحكومات المتعاقبة، نجد أنَّ القدس وصون المقدَّسات جزء من هذه التكاليف الملكيّة السامية، وما تشكيل الصندوق الهاشمي لإعمار المسجد الأقصى وقبّة الصخرة المشرّفة في العام 2007 إلّا تأكيد لرسالة بني هاشم التي جاءت في هذا الجانب منذ العام 1954 لتستمرَّ بالنَّهج والرُّؤية الملكيّة للمقدَّسات، حيث يرأس هذه اللجنة سمو الأمير غازي وهو المستشار الخاص لجلالة الملك عبدالله الثاني.
واستمرَّ جلالة الملك عبدالله الثاني برسم قِيَم الرِّعاية الهاشميّة على المقدَّسات، فأوعز بتأسيس مشغل متخصِّص في مدينة السلط حيث جُمع فيه أفضل المبدعين بالنَّقش على الخشب ومن سائر أرجاء العالم الإسلامي، وذلك لإتمام المنبر الجديد لصلاح الدين بحيث يكون نسخة طبق الأصل عن المنبر الذي دمَّره الحريق في العام 1969، وكان يعمل بهذا المشغل فريق يضمّ اثني عشر مبدعًا من الحرفيّين الماهرين، واستغرق العمل حوالي أربع سنوات كاملة حيث أُنجز المنبر الجديد ونُقل إلى القدس الشريف في الثاني من شباط عام 2007 ووُضع في مكانِه الأصلي وبصورة مميّزة ورائعة. لم تقتصر رعاية الملك عبدالله الثاني ابن الحسين على المقدَّسات هناك في فلسطين، بل اهتمَّ برعاية المقدَّسات هنا في هذا الوطن؛ منها مقامات الصحابة في المزار الجنوبي التابع لمحافظة الكرك والتي تشمل (مقام الصحابة زيد بن الحارث وجعفر بن أبي طالب وعبدالله بن رواحة شهداء وقادة معركة مؤتة الخالدة)، كما اهتمَّ جلالته بمسجد الصحابي الجليل أبي عبيدة عامر بن الجرّاح الموجود في منطقة الأغوار الوسطى، كذلك مسجد الصحابي ضرار بن الأزور في منطقة الأغوار الوسطى، ومسجد شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه في منطقة الأغوار الشماليّة، ومسجد الصحابي الجليل عامر بن أبي وقاص الموجود في منطقة الأغوار الشماليّة، ومسجد الصحابي الجليل معاذ بن جبل والموجود في منطقة الشونة الشمالية، وكذلك الصحابي الجليل الحارث بن عمير الأزدي الموجود مقامه في محافظة الطفيلة، ومسجد الصحابي الجليل بلال بن رباح في منطقة وادي السير بعمّان، وكذلك الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري والموجود مقامه في محافظة مادبا، كما قدَّم جلالته الدعم المباشر في تطوير موقع أهل الكهف في منطقة الرقيم في جنوب عمّان، بجانب مسجد الصحابي الجليل عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، ومقامه في منطقة الجبيهة. كما أمر جلالته بتطوير موقع أبوسليمان الداراني في لواء الشوبك. وقد ساهم جلالته أيضًا -بجانب ترميم وصيانة هذه المقامات- بترميم وصيانة المساجد التي تتصل مع التاريخ الإسلامي في هذا الوطن؛ ونذكر منها مسجد النبي شعيب الموجود في مدينة السلط وتحديدًا في وادي شعيب، وكذلك مسجد النبي يوشع في مدينة السلط، كذلك صيانة مسجد النبي هارون ومقامه في وداي موسى. لقد استمرَّ الجهد الهاشمي في عهد الملك عبدالله الثاني ليشمل كل المقامات والمساجد، وكل ما يصيب الأثر الإسلامي الذي كان يرخي جدائله على هذه الأرض المباركة. نعم الجهد الهاشمي ما زال يضرب أروع الأمثلة بالحفاظ على قِيَم التاريخ الأصيل للأمّة العربيّة والإسلاميّة.