إضاءاتٌ على التّعليمِ الجامعيّ
د. عاطف خلف العيايدة
كاتب وأكاديمي/ جامعة الطفيلة
assal_atef@yahoo.com
كانَ لجلالةِ الملكِ عبدالله الثاني في العقدين الماضيين دورٌ كبيرٌ في دفعِ عجلةِ التّعليمِ الجامعيّ؛ والنهوضِ به؛ واستجابَت قطاعاتُ التّعليمِ ومؤسّساتُهُ استجابةً سريعَةً لتطلّعات جلالته ورؤاهُ الصّادرةِ عنْ فهمٍ عميقٍ، وأفقٍ واسعٍ، ليصبحَ التعليم الجامعي مواكبًا للتّطوّرِ التّكنولوجيِّ الهائلِ، وليحقّقَ انطلاقاتٍ فكريّةً ورياديّةً وابتكاريّةً ساهمتْ في بناءِ المنظومةِ المعرفيّة.
ما إنْ تولّى جلالةُ الملكِ عبداللّه الثّاني سلطاتِهِ الدّستوريّة في التّاسعِ من شهرِ حزيرانَ من العامِ ألفٍ وتسعمائةٍ وتسعٍ وتسعينَ حتّى لاحتْ معَ تسلّمهُ شمسُ النّهضةِ التّعليميّة في جميعِ مستوياتِها، وبدأتْ قطاعاتُ التّعليمِ ومؤسّساتُهُ تستجيبُ استجابةً سريعَةً لتطلّعاتِهِ ورؤاهُ الصّادرةِ عنْ فهمٍ عميقٍ، وأفقٍ واسعٍ ومفتوحٍ على كافّةِ جوانبِ التّعليمِ المتطوّرُ المعتَمِدِ على الإبداعِ والتّقدّمِ التّكنولوجيّ الحديثِ، وقدْ تجلّتْ رؤى سيّدِ البلادِ في التّركيزِ على الخروجِ من عباءةِ التّعليمِ التّقليديّ المباشرِ، ومدِّ جسورٍ من الانفتاحِ على الدّولِ المتقدّمةِ علميًّا؛ للاستفادةِ من تجاربِهم في توظيفِ التّكنولوجيا أداةِ العصرِ في تحقيقِ نتائجَ تعليميّةٍ على مستوىً متقدّمٍ، وخلقِ بيئاتٍ تعليميّةٍ آمنةٍ داعمةٍ للتّميّزِ، معَ الحرصِ على تمكينِ المعلّمينَ منْ أساليبَ تدريسيّة واستراتيجيّاتٍ حديثةً مبنيّةٍ على أدواتِ الاقتصادِ المعرفيّ الّتي بُنيتْ على توظيفِ معطياتِ المعرفةِ من أجلِ تحويلِها إلى ثروةٍ اقتصاديّةٍ، وهذا ما وعاهُ جلالةُ الملكِ فأرادَ أنْ ينشرهُ على نطاقٍ واسعٍ من خلالِ المؤسّساتِ التّعليميّة.
وقدْ بدأتْ أولى خطوت اعتلاءِ سلّمِ التّطوّرِ التّعليميّ في عهدِ جلالةِ الملكِ عبداللّه الثّانيْ بتوجيهِ الحكوماتِ المتعاقبةِ إلى تجويدِ التّعليمِ، والاعتناءِ بالمؤسّساتِ التّعليميّة بدءًا من صفوفِ رياضِ الأطفالِ حتّى بلوغِ الجامعاتِ، وتوفير برامجَ تدريبيّةٍ حاضنةٍ للتّنميةِ المهنيّةِ للمعلّمينَ؛ لإيجادِ مواردَ بشريّةٍ مؤهّلةٍ وقادرةٍ على مواكبةِ متطلّباتِ التّنميةِ المهنيّةِ المستدامةِ، وفي هذا السّياقِ تمّ إطلاقُ عددٍ من المبادراتِ التّعليميّةِ الّتي من شأنِها وضعُ الأردنِّ في مكانةٍ عالميّةٍ مرموقةٍ ضمنَ القطاعِ التّعليميّ، معَ التّركيزِ على صناعةِ منتجٍ تعليميٍّ قويٍّ معدٍّ للمشاركةِ في منجزاتٍ علميّةٍ عالميّةٍ؛ لذا فقدْ دخلَ الأردنُّ مضمارَ التّنافسِ في الاختباراتِ الدّوليّةِ، وبرامجِ التّميّز والجوائزِ العالميّة، وتمَّ إنشاءُ مشروعاتٍ تعليميّةٍ كمدارسِ الملكِ عبداللّه الثّاني للتميّزِ والمراكزِ الرّياديّة في جميعِ محافظاتِ المملكة، ورعايةِ ذويْ الاحتياجاتِ الخاصّة، ومدّهم بالمعرفةِ اللازمةِ لدمجهم في المجتمعِ، إلى جانبِ الكثيرِ من المنجزاتِ الّتي ساهمتْ في تحسينِ التّعليمِ.
كما انصبّتْ اهتماماتُ جلالةِ الملكِ عبداللّه الثّاني على التّعليمِ الجامعيّ، إذْ إنَّ الجامعاتِ كقطاعاتٍ للتّعليمِ لها أدوارٌ رياديّةٌ في صناعةِ المنتجِ التّعليميّ الّذي يتطلّبُ تنوّعًا في التخّصّصاتِ الأكاديميّةِ، معَ مراعاةِ حاجةِ سوقِ العملِ، وانطلاقًا من هذا فقدْ وجّهَ جلالتَه المعنيّينَ إلى الاهتمامِ بمؤسّساتِ التّعليمِ العالي كالكليّاتِ والجامعاتِ، فقدْ تمَّ في عهدِهِ الميمونِ إنشاءُ عددٍ من الجامعاتِ الحكوميّةِ والخاصّةِ، إلى جانبِ إنشاءِ جامعاتٍ أجنبيّةٍ من خلالِ اتفاقيّاتٍ معَ الدّولِ المنشئةِ، وكلُّ ذلكَ للتّخفيفِ على الدّارسينَ الّذين يحلمونَ بالحصولِ على شهاداتٍ من جامعاتٍ أجنبيّةٍ، كما شهدَ العقدانِ السابقانِ من حكمِ جلالةِ الملكِ عبداللّه الثّاني زيادةً كبيرةً في أعدادِ الملتحقينَ بالدّراسةِ الجامعيّةِ بالإضافةِ إلى زيادةِ عدد مؤسّساتِ التّعليمِ العالي بما يتناسبُ معَ أعدادِ الدّارسينَ، بالإِضافةِ إلى زيادةِ أعدادِ أعضاءِ الهيئاتِ التّدريسيّة والإداريّة، وزيادةِ المخصّصاتِ الماليّةِ لها في ميزانيّةِ الإنفاقِ الحكوميّ، وقدْ بلغَ عدد الجامعاتِ الحكوميّةِ الرّسميّةِ عشر جامعاتٍ، وسبعَ عشرَةَ جامعةٍ خاصّةٍ، وأربعًا وأربعينَ كلّيّةً جامعيّةً وكلّيّةَ مجتمعٍ، بالإضافةِ إلى جامعةٍ إقليميّةٍ واحدةٍ، وجامعتين منشأتينِ بقانونٍ خاصٍّ، وبهذا يكونُ التّعليمُ العالي قد توسّعَتْ مساحتهُ خلالَ العشرين عامًا الماضيةِ من عهدِ جلالةِ الملكِ عبداللّهِ الثّاني ابن الحسين.
وبناءً على التّوجيهاتِ الملكيّةِ السّاميةِ للحكوماتِ المتوالية فقدْ بدأتْ الجامعاتُ الأردنيّةُ باستحداثِ تخصّصاتٍ جديدةٍ تتلاءمُ مع التّطوّرِ التّكنولوجيّ الهائلِ، ممّا دعا إلى امتلاكِ منظومةٍ تكنولوجيّةٍ رائدةٍ تحقّقُ الأهدافَ والنّتاجاتِ التّعليميّة المبتغاة، وفي هذا السّياقِ فقدْ ركّزَ جلالةُ الملكِ في أكثرِ من لقاءٍ وحوارٍ على رفعِ سويّةِ التّعليمِ الجامعيّ؛ ليصبحَ منافسًا على المستوى العالميّ، ففي الورقةِ النقاشيّة السّابعةِ لجلالةِ الملكِ كانَ التّعليمُ محورًا أساسيًّا، إِذْ وجّهَ جلالتُه بوصلةَ المسارِ نحوَ الاهتمامِ بالنّظامِ التّعليميّ من قبلِ القائمينَ على هذا القطاعِ، فكانت الورقةُ بمثابةِ دليلٍ إرشاديٍّ واضحِ المعالمِ لرسمِ سياساتِ التّعليمِ، ووضعِ أولويّاتِ العملِ لتحقيقِ نهضةٍ تعليميّةٍ متقدّمة، معَ الأخذِ بعينِ الاعتبارِ الاستفادةُ من تجاربِ الأنظمةِ التّعليميّة المتقدّمةِ في عددٍ من الدّول المشهودِ لها في مجالِ التّعليمِ.
ومنِ الشّواهدِ الدّالّةِ على اهتمامِ جلالةِ الملك بالتّعليمِ العالي إِطلاق الخطّةِ الاستراتيجيّةِ الوطنيّةِ لتنميةِ المواردِ البشريّةِ (2016- 2025م)، وهي خطّةٌ مرسومةٌ لعشرِ سنواتٍ تنبثقُ فكرتُها من التّركيزِ على قطاعاتِ التّعليمِ بجميعِ أشكالِهِ، وتقدّمُ مجموعةً من السياساتِ الإصلاحيّةِ للتّعليمِ، وتحفّزُ على دعمِ عمليّةِ التّحديثِ والتّطويرِ، وقدْ حظيتْ أعمالُ هذهِ الخطّةِ ولا تزالُ بمتابعةٍ مستمرّةٍ من جلالتِهِ، من خلالِ ما يقومُ بهِ من توجيهاتٍ وقراءةِ نتائجَ ملموسةٍ على أرضِ الواقعِ، وقدْ كانَ للتّعليمِ العالي في هذا الإطارِ محورٌ مستقلٌّ في البسطِ والبحثِ من خلالِ تقديمِ دراساتٍ مستفيضةٍ تحدّدُ المكانةَ الّتي وصلَ إليها التّعليمُ الجامعيّ، ومدى جودةِ مخرجاتِهِ، وصلاحيّةِ التّشريعاتِ النّاظمةِ له في ظلِّ المتغيّراتِ العصريّةِ المتسارعةِ، للوصولِ إلى حلولٍ تعالجُ الفجواتِ والاختلالاتِ الّتي أدّتْ إلى زيادةٍ في الخرّيجينَ، وفي المقابلِ وجودُ نقصٍ في فرصِ العملِ؛ أدّتْ بالتّاليْ إلى زيادةٍ في نسبِ البطالةِ.
ومنْ جانبٍ آخرَ فقدْ أُتيحتْ فرصُ التّعليمِ العالي للطّلبةِ الأردنيّين من خلالِ توجيهاتِ جلالةِ الملكِ لتوسيعِ فرصِ القبولِ الجامعيّ، وتحديد أسسِ قبولٍ عادلةٍ ونزيهةٍ لجميعِ الطّلبةِ بناءً على الجدارةِ والقدراتِ والكفاءاتِ، بعيدًا عن الارتجالِ في القراراتِ الأحاديّة لكلِّ جامعةٍ على حدةٍ والّتي قدْ تكونُ سببًا في تعرّضِ بعضِ الطّلبةِ للظّلمِ، وضياعِ الحقوقِ في التّوزيعِ التّخصّصيّ؛ لذا فقدْ دُرستْ جميعُ جوانبِ القوانينِ النّاظمةِ للقبولِ الموحّدِ للطّلبةِ في الجامعاتِ الأردنيّةِ الرّسميّةِ، كما تمّتْ مراعاةُ ظروفِ الطّلبةِ المادّيّة الصّعبةِ، بتقديمِ تسهيلاتٍ ومنحٍ وقروضٍ للطّلبةِ المعسرينَ عن طريقِ صندوقِ الملكِ عبداللّه الثّاني، وجهاتٍ أخرى داعمةٍ ومساندةٍ للتّعليمِ الجامعيّ، وقدْ اهتمَّ جلالتهُ بدعمِ هذا الجانبِ عبر ترسيخِ الوعيِ لدى أبناءِ الشّعبِ الأردنيِّ والجهاتِ المعنيّةِ بالتّعليمِ الجامعيّ وبأهميّةِ المنظومةِ التّعليميّةِ الجامعيّةِ في ازدهارِ الدّولةِ وتقدّمها، لذا فقد ركّزَ جلالتُه على عمليّةِ دمجِ التّعليمِ بالتّكنولوجيا من خلالِ إنشاءِ صندوقٍ للابتكارِ والتّطويرِ في قطاعِ التّعليمِ العالي، وتوفيرِ المستلزماتِ الفنّيّةِ الحديثةِ اللازمةِ.
ولأنَّ جلالةَ الملكِ عبداللّه الثّاني مدركٌ لأهمّيّةِ التّعليمِ في دعمِ الاقتصادِ الوطنيّ، فقدْ وجّهَ حكوماتِ الدّولةِ إلى ضرورةِ الالتفاتِ إلى تغيير النّهجِ الذي يطرحِ التخصّصاتِ الجامعيّة دونَ النّظرِ إلى متطلّباتِ سوقِ العملِ، معَ الأخذِ بعينِ الاعتبارِ وجودُ التّنوّعِ في طرحِ التّخصّصاتِ الجامعيّةِ، والتّركيزِ على الإلغاءِ التّدريجيّ للتّخصّصاتِ الرّاكدةِ، واستحداثِ تخصّصاتٍ مهنيّةٍ تلبّي احتياجاتِ العملِ، وهذا يتطلّبُ تهيئةَ بيئةٍ جامعيّةٍ مناسبةٍ ومحفّزةٍ للإبداعِ والتّميّزِ.
وفي مجالِ البحثِ العلميّ فقدْ دعا جلالةُ الملكِ إلى تحسينِ منتجِ البحثِ العلميّ في مجالات العلومِ الاجتماعيّةِ والعلوم الإنسانيّة لطلبةِ الجامعاتِ الأردنيّةِ، ودعمِ البحثِ العلميّ من خلالِ إيجادِ مراكزَ للبحوثِ العلميّةِ، وتوفير المعدّات اللازمةِ والمختبرات التّطبيقيّةِ، ودمجِ صندوقِ دعمِ البحثِ العلميّ والابتكارِ تحتَ مظلّةِ وزارةِ التّعليمِ العالي.
وفي الختامِ فقدْ كانَ لجلالةِ الملكِ في العشرينِ سنةً من فترةِ حكمهِ الزّاهرةِ دورٌ كبيرٌ في دفعِ عجلةِ التّعليمِ الجامعيّ؛ والنهوضِ بهِ؛ ليصبحَ مواكبًا للتّطوّرِ التّكنولوجيِّ الهائلِ، وليحقّقَ انطلاقاتٍ فكريّةً ورياديّةً وابتكاريّةً ساهمتْ في بناءِ المنظومةِ المعرفيّةِ.