محمد سلام جميعان
ثقافة عربية
حمّالة القمح/ أحمد السعودي
حينَ كبر الصبيُّ الراعي "عطيّة" في الزمن الروائي، شدَّتني كلمات أُمِّه وهي تقول له: "لا بُدَّ لنا من أن نحتملَ الحياة... وإنَّ أجمل ما فيها الوفاءُ للموتى والوفاءُ للأحياء". فتوكّلتُ على الله سيّد المتوكّلين أضربُ في موارس هذه الرواية التي تسرد سيرة المكان والناس حين كانت الدنيا بخير وعافية، وكان الناس في قناعةٍ ورضىً فأنبتوا في الصِّخر وردًا ومحبَّة، وسكبوا على الوجود حُللًا من الضياء في عتمة العيش القاسي.
يسير القارئ مع أحداث الرواية القاسية والليّنة وشخصياتها الخيِّرة والبطّالة، فيعيش الحياة مرّتين، واحدةً في ذلك الماضي العذب الذي يستحضره الراوي بكلِّ تفاصيله ودقائقه، وواحدةً في هذا الحاضر الغشوم الذي سرق منّا بتعقيداته بهاءَ الحياة وبياضها، فكأنَّ استحضار الماضي الجميل هنا في هذه الرواية تعويضٌ عن الحاضر البشع، وعن الخسران المبين الذي أضحى يغشى الناس والحياة. وربّما من أجل هذا نألف اليوم السُّكنى في الماضى بحثًا عن طفولة الأشياء المغدورة.
لقد كُتبت الرواية/ السيرة، بلغة بيانيّة عذبة فارهة تعادلُ عذوبة ذلك الزمان الجميل، فقد تدفَّقت عبارات السرد والحكي مشحونة بمشاعر كاتبها وهو يصوّر أحاسيس الشخصيات ويقتحم حصون ضمائرها المخبوءة المستترة، فكشفها من دون أي تزويق أو تزييف، ففي كلِّ مجتمع في أيّ عصر وأيّ مكان يوجد خيّرون وأشرار، فيكافئ الكاتبُ كلَّ نمط منهما بما هو عليه من خُلق وسلوك بلا تطفيف في ميزان القيم والأخلاق.
و"حمّالة القمح" تقع في مكانٍ وسطٍ بين الرواية والسيرة الذاتية، ففيها من هذا الفن وذاك سماتٌ وأمارات، فالقارئ إذا طلب الرواية منها وجد من المقوِّمات الروائية ما يصحُّ معه عدّها في هذا الفن، وإن نشد السيرة وجدها على أوفى ما تكون سيرة الذات وسيرة الآخر، ولكن المؤلِّف يفي هذه وتلك حقها من البناء والأسلوب واللغة ونماء الشخصيات.
وهذه اللغة البيانية الرفيعة التي كُتبت بها هذه الرواية/ السيرة، إنما هي وليدةُ حصيلة معرفية مكتنزة، تكشف عن معايشة كاتبها ومساكنته لتراثنا العربي، وانتمائه لهويّة عروبية ترى في اللغة وجودًا حقيقيًا أمثل، فتجوهَر فيها، ولم تكن له آلةَ تفكير أو أداة تعبير أو وسيلةَ تفاهم أو واسطة تعارف أو سبيل تواصل، أو أنها مجموعة أصوات ورسوم وإشارات وحروف وحركات وأبنية وألفاظ وجمل وتعابير ومفاهيمَ ومعانٍ ومصطلحات، بل كانت لديه إنسانًا وأمّة، ووجودًا وحياة، ورسالة وحضارة، فكتب ما كتب بروحه وقلبه وعقله وضميره ومخيِّلته، والتخييل حاضر في هذه الرواية/ السيرة لدرجة الشاعرية، فضلًا عن تذكيرها لنا بلغة المقامات، والاستعارات الباذخة، وكذلك استحضارها لغة القرآن المجيد.
هذيانات شكسبير/ إياد الريموني
تتيح لنا مسرحية "هذيانات شكسبير" لإياد الريموني، مساحة من التمرُّد واستعادة الوعي المتنامي الذي يعيد اكتشاف المتغاير والمختلف في شخصيات شكسبير، التي يُعيد الريموني تفكيك خطابها وتقديمه في مرايا جديدة تمنحها معنىً يتّصل باللحظة الإنسانية الراهنة التي تألف التّسليم بالأشياء كما هي في راهنيّتها.
في هذه المسرحية يجري تبديل الأدوار والمواقع، بحسّ ساخر يغوي القارئ بالمفارقات الكوميدية والتراجيدية، التي تعرّي اهتزاز القيم الذي أصاب الفرد والمجتمع، فكأنَّما محاكمة شكسبير هي محاكمة لذواتنا التي انحرفت عن دوْرها ورسالتها في الحياة، وانقلبت على أسلوب عيشها. والمسرحية دعوة للتوبة عن عيوبنا المتشابكة لتؤوب إلى فردوسها ومنابع النور من فيافي الساكن اليومي الداجن والمخيف.
لا بدّ للنور من أن يقتل العتمة، وعلى الفضيحة أن تخرج من خطيئتها ليعود الحبُّ طاهرًا في ملكوته، وعلى الوجوه الدميمة أن تستغني عن العدسات المُكبِّرة والمرايا الخادعة لترى نفسها على حقيقتها. وعن رثاء العدالة الموؤودة أمام غرائز السلطة ونزواتها الجبروتيّة... عن هذا كلّه تحكي هذه المسرحية التي عبّرت بالفن عن جنون الواقع المسترخي أمام مشاهد تزييف تاريخ الأشياء والقيم.
ذات صباح/ زياد أبو لبن
يواصل أبو لبن في هذه المجموعة القصصية تجربتَه السردية، فتبدو الصباحات ملتبسة، تستيقظ فيها الشخصيات القصصية على خسارات مركّبةـ وذلك لكون العلاقات بين الكائن الإنساني وواقعه، إنَّما هي علاقات مشوَّهة، فالناس الأنقياء لا يجدون ما يُدْخِل المسرّة إلى نفوسهم، فثمّة هزائم على صعيد الزوجة والعائلة، التي خصّص لها السارد القصص الأربع الأولى من مجموعته: (زوجتي والريموت كنترول، زوجتي ودانيال نيفو، زوجتي وهيفاء وهبي، زوجتي ضدّي).
وفي ما هو اجتماعي، يستدخل أبو لبن ما هو سياسي، بروح ساخرة مريرة تبلغ درجة الغمز والمعارضة لسياسات محلّية وعالمية، على نحو ما نجد في قوله على لسان إحدى الشخصيات: "فقال لها: أنا لا أرفع صوتي عاليًا خوفًا من أنْ يُقال إنني أعادي دولة صديقة، وإنَّ سلطان بلادي السعيدة له أهل في بريطانيا، فيظن أنني أسخر من أقاربه..."(ص35).
وتبلغ السخرية لدى أبو لبن ذروتها في ما هو اجتماعيّ، فالبؤس الطبقي الذي يعيش فيه أبناء المخيمات، له نصيب من استذكارات صور الحياة ومعاناتها: "يذكر عندما اصطفّ طلاب المدرسة في طوابير طويلة في ساحة المدرسة، والوحل يعلو أقدامهم الصغيرة... عندها وقف مدير المدرسة يلقي كلمته قائلًا: أحضرتُ لكم اليوم أحذية ترفع الرأس...).
ويتناوب في هذه المجموعة كلٌّ من ضمير المتكلم وضمير الغائب في تجلية الأحداث، باستلهام حكايات ووقائع من تجارب الذات وتجارب الحياة، للكشف عن عيوب الأنا وعيوب الآخر ومآلاتهما الناقصة من حصّة الحياة الكريمة في الزمن المعتم الذي تنفرج أضواؤه القصصية عن مزيد من الصباحات المكرّرة بنواقص الحياة.
ثقافة عالمية
هي وهو/ جورج صاند، ترجمة: مدني قصري
في هذه الرواية تستلهم الروائيّة الفرنسية "أمانتين أورو لوسيل دوبين" -التي سمّت نفسها باسم الكاتب "جورج صاند"- تجربة العشق الأفلاطوني الذي عاشته مع الكاتب الفرنسي "ألفرد موسيه"، حيث تقودها هذه المغامرة العاطفية الصاخبة بعد خمسة وعشرين عامًا إلى عالمٍ من الشَّغف بالأدب الفرنسي.
"فلوران" في هذه الرواية ذو عبقريّة رائعة وشيطانيّة، وهو كاهن في المجون والرذيلة، في حين أنَّ "تيريز" بريئة ونقيَّة، فقد كرَّست نفسها للقداسة. وكلاهما يبحثان عن الحب المطلق وأنهار العسل الروحية، في شغف يزجّ بهما إلى الغوص في أعماق ذاكرة كلٍّ منهما، حتى يكاد هذا الشغف يدمِّر هذين الكائنين بعواصف عواطفه الجامحة.
لقد ظلّا طوال أحداث الرواية يحلمان بتسلُّق السماء والارتقاء إلى معارجها الهادئة التي ليس فيها أيّ مكان للعواطف الدنيوية الملوّثة.
فهل يتحقَّق لهما كمالُ الوصول إلى تلك البؤرة السماوية المطلقة الشفيفة الطاهرة من دَنَس الغرائز. إنَّ مطالعة أحداث الرواية التي تمثّل تجربة الكاتبة الذاتية مع أديب فرنسي كبير، تكشف للقارئ كثيرًا من جدليّة المطلق والنسبي، والغرائزي والروحي وهو يعبُر مساحات المقدَّس والمدنَّس في تقلّبات العواطف البشرية في سعيها إلى امتلاك العشق المثالي.