أعلامُ التأويل في الفكرِ الغربيّ الحديث
مجدي ممدوح
كاتب وباحث أردني في الفلسفة
• رائدُ التأويل الحديث "فريدريك شليرماخر"
يُعتبر "شليرماخر" هو المؤسسُ الحقيقيُّ للتأويل كمبحث عام ومستقل. وبالرغم من وجود مباحث مستقلة ومنفصلة في موضوع التأويل قبل "شليرماخر"، إلا أنَّ الفضل يرجع له في تأسيس هرمونيطيقا عامة بوصفها فن الفهم. وقد عمّم المنهج التأويلي على أنواع النصوص التشريعية أو الدينية أو الأدبية كافة. وقال إنَّ هناك مبادئ عامة تشكّل هيرمونيطيقا تصلح لتأويل أشكال النصوص كافة. وهو يؤكد أنَّ هذه الهيرمونيطيقا العامة كانت مفتقدة. وكان هناك هرمونيطيقات فرعية مثل الفيلولوجية واللاهوتية والقانونية.
ابتكر "شليرماخر" مفهوم الدائرة التأويلية، والتي اقتبسها تأويليون كُثُر، وحاولوا تطويرها بناء على اشتغالاتهم التأويلية. ويرى أنَّه لا يمكن فهم أي وحدات نصية إلا من خلال الدائرة الأوسع التي تحتوي هذه الوحدات النصية، والعكس أيضًا صحيح، حيث لا يمكن فهم الدائرة الأوسع إلا بفهم الدوائر الأصغر، حيث تكون العلاقة هنا جدلية بين الجزء والكل.
وذهب للفصل بين الدلالة اللغوية التي يمكن اشتقاقها من النصِّ والدلالة الفكرية التي يحيل إليها هذا النص. ورأى أنَّ الدلالة اللغوية تخضع لمعايير موضوعية، أمَّا الدلالة الفكرية فهي ترتبط بالجانب الفردي الذاتي، وقد أعطى الجانب الذاتي صبغة سيكولوجية كانت موضع نقد من قبل "دلتاي" لاحقًا. وهو يرى أنَّ الجانبَ السيكولوجي مرتبطٌ بعبقرية المؤلف. وكان "شليرماخر" يهدف من التركيز على الجانب السيكولوجي إلى إعادة الخبرة الذهنية الخاصة بالمؤلف، وإلى معايشة ما عايشه المؤلف، وأن لا ينظر في قول من الأقوال بمعزل عن قائله.
واستطاع أن يؤسس التأويل بوصفه علمًا منظمًا قائمًا على قواعد ومبادئ متينة وراسخة على الصعيد السيكولوجي واللغوي. وقد كان له تأثيرٌ كبيرٌ في أقطاب التأويل من بعده من خلال إعطاء الأولوية للحياة نفسها في عملية التأويل وعدم الاكتفاء بالجوانب العقلية التجريدية، وقد كان تأثيره واضحًا في "دلتاي" و"هيدجر".
كان العيبُ الأساس في تأويلية "شليرماخر" هو تسرب النزعة السيكولوجية إلى أسلوبه، وقد أغفل الأهمية المركزية للغة لحساب النزعة السيكولوجية، ووقع في فخ التسوية بين عملية الفهم وعملية التقمص وإعادة بناء ذهن المؤلف.
• النزعةُ التاريخيّةُ لدى "فلهلم ديلتاي":
جاء "ديلتاي" لكي يعيد للتأويل تاريخيته التي شابتها شائبة سيكولوجية على يد "شليرماخر". "دلتاي" جاء بعد أزمة خانقة في العلوم الإنسانية. فقد انجرفت هذه العلوم إلى المناهج الوضعية والتجريبية التي تسيّدت الفكر الفلسفي في بريطانيا والتي أرسى دعائمها "جون لوك" و"ديفيد هيوم"، وتبعهم بعض الفلاسفة الأوروبيين وخاصةً في فرنسا مثل "أوغست كونت". وقد قاد المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية إلى إنجازات باهرة أغرت الباحثين في العلوم الإنسانية إلى تبني هذا النموذج وتطبيقه في علوم الإنسان مثل علم الاجتماع وعلم النفس. وهذه المسألة تحديدًا هي التي أوصلت العلوم الإنسانية بعد فترة من الزمن إلى طريق مسدود. وظهر "ديلتاي" في أوج هذه الأزمة التي كانت تعصف بالعلوم الإنسانية ليؤكد على أنَّه يتوجب على " الدراسات الإنسانية أو العلوم الروحية أن تصوغ لها نماذجَ جديدةً لتأويل الظواهر الإنسانية، وهذه النماذج يجب أن تكون مستمدة من طبيعة الخبرة المعيشة ذاتها، وأن تكون قائمةً على مقولات المعنى بدلًا من القوة القائمة على التاريخ بدلاً من الرياضيات. كل هذا يشير بوضوح على التوجهات الابستمولوجية الجديدة التي كان "ديلتاي" ينادي بها، وهي تستند إلى حقيقة أنَّ هناك فارقًا جوهريًّا بين الدراسات الإنسانية والعلوم الطبيعية..
وضع "دلتاي" مؤلفًا بعنوان " نقد العقل التاريخي". وهذا العنوان يحيل بالضرورة إلى مؤلف "كانط" الشهير " نقد العقل المحض ". وإذا كان "كانط" قد وضع في نقد العقل المحض الشروط القبلية والأطر العامة التي يتم وفقها التأسيس للعلوم الطبيعية، فإنَّ "دلتاي" قد وضع في كتابه "نقد العقل التاريخي" الأسس الابستمولوجية للعلوم الإنسانية. لم يشكك "ديلتاي" أبدًا في المقولات الكانطية، ولكنَّه اعتبر أنَّ هذه المقولات فعالةٌ وكفؤةٌ في التأسيس للعلوم الطبيعية، ولا يجوز أن نسحبها على العلوم الإنسانية. ويعتبر محقًا في ذلك إلى أبعد الحدود، لأنَّ ابستمولوجيا "كانط" برمتها استمدت مقولاتها ومنهجها من العلم النيوتوني. وتأكيدًا على نهجه التاريخي، فإنَّ "دلتاي" سيعلن براءته من ميتافيزيقا (سيكولوجيا) "شليرماخر"، ويصرح: " ليس من خلال الاستبطان، بل من خلال التاريخ وحده يتأتى لنا أن نفهم أنفسنا ". ويؤكد "دلتاي" في هذا السياق أنَّ ديناميات الحياة الداخلية للإنسان هي مركبٌ من "المعرفة والشعور والإرادة ". وقرّر أنَّ جلب مقولات فكرية من " نقد العقل الخالص " لكي تستخدم في فهم الإنسان هو في حقيقة الأمر إقحامٌ لمجموعة من المقولات المجردة من خارج الحياة وغير مستمدة من الحياة، إنَّها مقولات سكونية، لا زمانية مجردة – أي نقيض الحياة ذاتها.
وقد بادر إلى تأكيد معارضته للمقولات الكانطية من خلال وضع لوحة جديدة للمقولات عارض فيها لوحة المقولات التي كان "كانط" قد وضعها في " نقد العقل الخالص "، ولخص "ديلتاي" مقولاته الجديدة كما يلي: مقولة الباطن والظاهر، الداخلي والخارجي، مقولة الكل والجزء.، مقولة الغاية والوسيلة، مقولة النمو والتطور، مقولة القيمة، مقولة الهدف ( الغرض)، مقولة المعنى.
يحتلُّ الفهم دورًا مركزيًّا في تأويلية "ديلتاي"، حيث يرى أنَّ التفسير يلائم العلوم الطبيعية، بينما تحتاج العلوم المرتبطة بالإنسان إلى الفهم، ومن الخطورة بمكان دراسة الظاهرات الإنسانية بالأسلوب الاختزالي (الردي). ويلخص ذلك بعبارته الشهيرة " نحن نفسّر الطبيعة، أمَّا الإنسان، فينبغي علينا أن نفهمه"
• "مارتن هيدغر"، وإدغامُ التأويل يالفينومينولوجيا:
وضع "هيدغر" في كتابه " الوجود والزمان" أسس الفينومينولوجيا التأويلية، حيث يقرّر أنَّ الفينومينولوجيا عنده هي عبارة عن هرميونيطيقا. وتقوم فكرة "هيدغر" على عدم تأسيس التأويل على الوعي الإنساني والمقولات الإنسانوية، بل إتاحة الفرصة للوجود نفسه لكي ينكشف من تلقاء نفسه دون تدخل من الوعي، ويرى أنَّ الفهم هو فهم زماني قصدي تاريخي، والفهم عنده ليس عملية عقلية، بل عملية وجودية تتمثل في انكشاف الوجود أمام الانسان. وبالرغم من أنَّ الفينومينولوجيا عنده موروثة عن أستاذه "هوسرل"، إلا أنَّه لم يتفق مع "هوسرل" حول نزعته العلمية، ولم تشكل المعرفة العلمية هاجسًا له، ولم ينظر إليها كغاية، كما أنَّ "هوسرل" لم يُدخل عنصر الزمان في عملية الفهم، مما جعل الفهم عنده لا تاريخي، في حين أنَّ الزمان عند "هيدغر" هو الذي يشكّل نسيج الوجود ويمثّل العنصرَ الأساس في عملية الفهم، كما أنَّه تجاوز مفهوم الفهم الذي وضعه "دلتاي"، فقد كان الفهم عند "دلتاي" تعبيرًا عن الوقائع الباطنية أو تعبيرًا عن الحياة ذاتها. والفهمُ عند "هيدغر" مختلفٌ، فهو شكل من أشكال الوجود في العالم، أو هو عنصر مكون من عناصر الوجود في العالم. وهكذا يكتسب الفهم عنده بعدًا أنطولوجيًّا واضحًا. كما أنَّ الفهم عنده يتعالق مع المستقبل.
ويقرر أنَّ مشكلة الموضوع وعلاقته بالذات هي مشكلة زائفة، لأنَّ الأنية باعتبارها وجودًا في العالم موجودة دائمًا في الخارج، أي في العالم المألوف. والذات عنده ليست ذات حبيسة لعالمها الداخلي، بل هي موجودة دائمًا في الخارج بالقرب من الموجود. ولا يعترف بالأنموذج الذي يصف التأويل استنادًا إلى علاقة الذات بالموضوع.
والتأويل عند "هيدغر" لا يتم بدون فروض مسبقة، بل إنَّ ما يظهر وينكشف من الوجود هو ما يسمح به المرء أن يظهر وهو يتوقف على الفروض المسبقة والمنظومة اللغوية. ونظرية الفهم عنده هي نظرية في الكشف الأنطولوجي، وهي مرتبطةٌ بالوجود الإنساني، والذي هو وجود لا يمكن عدّه ذاتيًّا خالصًا.
وهكذا فإنَّ "هيدغر" وضع الهرميونيطيقا في سياق جديد تمامًا، وقد أصبح التأويل عنصرًا أساسيًّا في فكره، حتى أنَّ فكره بالمجمل يمكن وصفه بأنَّه فكرٌ تأويلي. ولا يتفق "هيدغر" مع "شليرماخر" أنَّ النصَّ يمكن فهمه أفضل من مؤلفه خلال عملية التأويل، ويرى أنَّ المؤول يمكن أن يفهمه بشكل مختلف وليس أفضل. وتُّعد اللغة عنده هي التي يظهر الوجود من خلالها، والوجودُ برأيه لغويٌّ في بنيته وصميمه.
• "هانس جورج غادامير"... والتأويلُ الفلسفيّ:
وضع "غادامير" رؤيته حول التأويل في كتاب " الحقيقة والمنهج "، وقد وجّه نقدًا شديدًا للنزعة الموضوعية التي حاول التجريبيون والوضعيون، وحتى التأويليون الكلاسيكيون، إدخالها إلى حقل العلوم الإنسانية. ويعترض على النزعة الموضوعية التي انتشرت في العلوم الإنسانية، لاعتقاده بأنَّ هذه العلوم هي في جوهرها ليست موضوعية، ويرى أنَّ كلَّ مؤول يرى الظاهرة التاريخية أو الاجتماعية وفق رؤيته، وبالتالي فإنَّ الموضوعية لا يعود لها معنى. وهو لا يعترض على توظيف المناهج الموضوعية في جمع وتصنيف البيانات فقط، ولكنَّه يرى أنَّ المؤرخ مثلاً يجب أن يستند في استخلاص الدلالات إلى منهج تأويلي ويبتعد عن المنهج التجريبي، ويقترب في منهجه من الناقد الأدبي الذي لا يعترف بالتجريبية.
ينتقد "غادامير" التأويل الرومنسي الذي يمثله "دلتاي" بشكل أساس، والذي ذهب "دلتاي" إلى أنَّ هناك تأويلاً موضوعيًّا يتحقّق عندما يفصل المؤول نفسه عن الانحياز للموروث ثقافيًّا. حيث يقرّر أنَّ هذا الانفصال مستحيلٌ. وهذه النزعة في الفصل موروثة عن الديكارتية التي تفصل الذات العارفة عن الموضوع المعلوم بدعوى النزاهة. ويؤكد في أكثر من مناسبة أنَّ الموضوع في العلوم الإنسانية يتحدّد معناه أثناء عملية التأويل، ومن الخطأ النظر إلى المعنى بوصفه مستقلاً عن عملية التأويل نفسها. ويذهب إلى أبعد من ذلك حين يقرّر أنَّ كلَّ جيلٍ يجب أن يقدّم رؤية تأويلية جديدة للنصوص، فليس هناك تأويلٌ واحدٌ ووحيد جاهز ومفروض على المؤولين كافة.
لقي هذا التوجه الجديد الذي ابتكره "غادامير" معارضةً من قبل فلاسفة التأويل مثل "إميليو بيتي"، حيث ألّف "بيتي" كتابًا بعنوان "الهرمونيطيقا كمنهج عام لعلم الإنسان" (1980)، وكان يردُّ فيه على كتاب "غادامير" " الحقيقة والمنهج "، وقد انتقد "بيتي" "غادامير" في مسألتين: الأولى أنَّ "غادامير" يخلط بين أنماط تجريبية مختلفة من التأويل على نحو مختلف، وهو لا يفرق بين النصوص من حيث القابلية للتأويل، حيث يرى أنَّ أي نصٍّ مهما كان هو صالحٌ للتأويل، والثانية أنَّه لم يفلح في وضع معايير قياسية للتفريق بين التأويل الصائب والخاطئ.