دعاء صفوري
كاتبة وباحثة أردنية
"مَن سيبقى حتى النهاية سيروي القصة لقد فعلنا ما بوسعنا لا تنسونا"(1)
يعرّف الدكتور أحمد الزعبي غياب المؤلف بأنَّه: "غياب فنّي أو "استراتيجي" يعني أنَّه قد لا يطلُّ برأسه كثيراً من بين ثنايا النص، ولكنَّه المحرك الخفي والمنظم المستتر وراء كلماته ونصوصه وإبداعاته. غير أنَّ قراءة النص باستحضار صاحبه سيغير حتماً القراءة، وسيفرض رؤية جديدة لهذا النص. وجدلية حضور المؤلف وغيابه مهمة في توجيه العملية النقدية لدى دراسة النص.(2) فإذا تناولنا الصيغ الكلامية؛ من مثل: "معلش"، "اسمه يوسف شعره كيرلي أبيضاني وحلو"، "في حدا سامع"، "الأولاد ماتوا بدون ما يوكلوا"، "ما تعيطش يا زلمة"، "روح الروح"...(3) نلحظ أنَّها باتت تحيل إلى قصة حاضرة في الذهن نعيها جيداً ونحتفظ بأبطالها وشخوصها، لا أحتاج إلى سردها، نبشها، تحويلها إلى موروث شعبي قبل النوم أو في مرويات الجدات.
حريٌّ بي أن أشير إلى أنَّ القصص المتوارية خلف هذه الصيغ الكلامية الآنف ذكرها، لم يكن الكاتب بموقف يستدعي الإبداع والكتابة، ليشتغل الباحث بعدئذٍ بالدراسة، وحيث أنَّ الأخير يدرك ذلك، فقد وقف عندها على استحياءٍ أمام عظيم وقعها، واختار تناولها وغيرها مما تجتمع عليه الإنسانية- ناهيك عما اندثر- أمَّا القصص التي كتبت على عجل، بالوقت الذي "تسامح الموت فغض النظر"(4) فكان لها نصيب الأسد من البحث.
"قائمة الأصدقاء عندي تنكمش تتحول إلى توابيت صغيرة تتناثر هنا وهناك، لا يمكنني إمساك أصدقائي وهم يتطايرون بعد الصواريخ لا يمكنني إعادتهم من جديد ولا يمكنني أن أعزي فيهم ولا يمكنني البكاء لا أعلم ماذا أفعل! كل يوم تنكمش أكثر. هذه ليست أسماء فقط هؤلاء نحن بوجوه وأسماء مختلفة فقط.
يارب ماذا نفعل يارب أمام وليمة الموت الضخمة هذه.
لا يوجد أي أيقونة هنا تعيدهم ولو كذبا..."(5)
لعلَّ هذا الفقد والتكثيف لمعاني الألم أدى غرضه في الحثِّ على القراءة، حاله حال كل القصص التي قُرأت، سُمعت، كُتبت في حضرة غزة، ناهيك عن غياب الشخوص والتدليل عليهم بالتوابيت الصغيرة، وحين اكتفى الكاتب بـ "هؤلاء نحن بوجوه وأسماء مختلفة فقط" للإشارة إلى مصير واحد محتوم، بات فيه المؤلف معرفاً بغيابه / موته أكثر مما هو معرف باسمه!
المؤلفُ الغائبُ في قصة وليمة الموت - كما أدعوها- عبّر عن غائب آخر بدوره وفي مواضع شتى، منها: "صورنا العائلية، كيس من الأشلاء، كومة من الرماد، خمس أكفان ملفوفة بجانب بعضها متفاوتة الحجم. الصور العائلية في غزة مختلفة لكنَّهم معاً كانوا معاً ورحلوا معاً."(6) فالخطاب يتوالد باستمرار، ولا يتوقف بموت مؤلفه، فثمة علاقة جدلية قائمة بين ثنائية الحضور والغياب في جسد الخطاب، الحضور سمة مرئية، وظلال الغياب عميقة غائرة، وهو المدلول المنفتح على قراءة مستمرة تحاور القارئ. وفق "جاك دريدا" لا تبحث التفكيكية فيما قاله المبدع، بل تقول ما لم يقله، فثمة فراغات في النص، والقراءة تقرأ ما لم يقله المؤلف.(7)
تأخذ النصوصُ كينونتها عندما تنتقل من حيز العقل المفكر إلى الملأ بكتابتها- لا يفوتني أن أشير إلى سؤال الكتابة، لماذا نكتب؟
وبما سمح المقام يجيب الناقد العراقي "حاتم الصِكَر": "الكتابة مكان أريح فيه ألمي وقلقي ويأسي. الكتابة محو لشيء داخلي. يثقل عليك. يكتب لأنَّه لا وسيلة لديه للتخلص من أفكاره إلا بكتابتها، سيكون إذن نسيانها في قولها، وحضورها مناسبة فذة لغيابها، واستذكارها محاولة للتثبت من ذلك الغياب."(8) من هذا المنطلق يصبح الغياب فرصة لتشكل النص وتناقله، وكما عبّر الصكر بأنَّها محو لشيء داخلي يثقل عليك، أقف عند الخفة المرجوة بإزاء ثقل الواقع في القصة التالية، وعند المفارقة حيث يغدو الغياب/ الموت خفة، والحضور/ الحياة ثقل!
"نحن في الأعلى نبني مدينة ثانية، أطباء بلا مرضى ولا دماء، أساتذة بلا ازدحام وصراخ على الطلبة، عائلات جديدة بلا آلام ولا حزن، وصحفيون يصورون الجنة، وشعراء يكتبون في الحب الأبدي، كلهم من غزة كلهم. في الجنة توجد غزة جديدة بلا حصار تتشكل الآن."(9)
بين البنيوية والتفكيكية بين موت المؤلف، وولادة القارئ، وبين ثنائية الحضور/ الغياب إلى أنَّ أفق الغياب هو أفق خلفي للحضور، وحضور أحدهما أمام الوعي يؤدي إلى استدعاء الغائب، فثمة تمييز حاسم بين الوجود والعدم، الحضور والغياب.(10) إلى "بارت" في مقالته التي أعلن فيها عن "موت المؤلف"، وأكّد أهمية القارئ بوصفه وريثاً للمؤلف، إذ إنَّ قارئ "بارت" هو مؤلفٌ جديدٌ حلَّ في المنزلة التي احتلها المؤلف سابقاً، ممتلكاً الامتيازات التقليدية كافة. وعملية القراءة هي التي يتحقّق بها وجود العمل الأدبي- فالقارئُ هو الذي يضفي على العمل الأدبي صفة اللذة من خلال إعادة إنتاجه بقراءته قراءة مبدعة. ولعلَّ "موت المؤلف" لا يمنع من حضوره بشكل أو بآخر على اعتبار أنَّ موته ما هو إلا استبدال وظيفة في نظام معرفي سابق بوظيفة في نظام معرفي لاحق، فكأنَّما موت له غايات ومن ضمنها غاية جمالية، إذ لا بدَّ للنصِّ من أن يتحرر جمالياً من أفق المؤلف ليعاد الاعتبار للتأويل بشكل جمالي، فيعيد القارئ "تقوّل النص"، وربما أقول "تأوّله" من جديد ضمن آفاق لم تخطر على بال المؤلف.(11)
وهنا مربط الفرس لهذا البحث، حيث يُغيب المؤلف غياباً بالكامل في قصص غزة، "معنى ذلك أنَّ المؤلف يموت مرتين: مرةً عندما ينتهي من كتابة نصه ويعلنه للقراء فيخرج من ملكيته ليصبح ملكهم ويصير من حقهم ادعاء قراءته وتأويله، وهذا ما أشارت إليه نظرية موت المؤلف، وعندها يجب أن يحيا نصه بالقراءات، ومرةً عندما يموت عضوياً، فإنَّ مدونته كلها تفتح للقراءات، بل تحيا بها، وعندها ينام ملء جفونه عن شواردها، "ويسهر الخلق جراها ويختصم."(12)
قرأتُ في كتاب "وصيتي" للفيلسوف أمين الريحاني، أنَّ الوصية محاولة لتخطي الموت بتنظيم استمرارية معينة عبر إرادة تُحدد وتكون موضع احترام وتنفيذ عند الآخرين بعد غياب صاحبها. والوصية عند الكاتب أو المفكر هي بدورها محاولة لتخطي الموت ولكن بتحديد رؤية معينة تكون هدياً للآخرين، للجماعات قبل الأفراد، اتماماً أو خلاصةً لرسالة فكرية نذر صاحبها نفسه لتحقيقها على قيد الحياة وطمح لأن تستمر بعد غيابه.(13) وقبل الغياب تخط الكاتبة هبة أبو ندى وصيتها للغايات ذاتها؛ تخطي الموت واتماماً لرسالتها الفكرية، تقول: " إذا متنا اعلموا أنَّنا راضون وثابتون وبلغوا عنا أننا أصحاب حق"(14) يموت المؤلف في غزة وتموت شخوصه معه، تموت القصة في غزة ويموت القارئ معها، ونبقى نحن الذين نعيد قراءة النص واستحضار المؤلف بما تفرضه القراءات الجديدة المقترنة بأداة التعريف "غزة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
(1): الكلمات الأخيرة للطبيب محمود أبو نجيلة، أصرّ على البقاء مع مرضاه في مستشفى العودة حتى استشهد.
(2): الدكتور أحمد الزعبي: النص الغائب –نظرياً وتطبيقياً- مكتبة الكتاني، إربد، 1993.
(3): ملاحظة: قصص وردت على لسان أصحابها، غزة، منذ السابع من أكتوبر 2023.
(4): محمود درويش: قصيدة لاعب النرد.
(5): الكاتبة الشهيدة هبة أبو ندى: غزة، أكتوبر 2023.
(6): المصدر السابق.
(7): سمر الديّوب: الثنائيات الضديّة، بحث في المصطلح ودلالاته، العتبة العباسية المقدسة، الطبعة الأولى، 2017.
(8): مجلة العربي: العدد 776، يوليو 2023، وجهاً لوجه: الناقد العراقي د. حاتم الصكر: الكتابة مكان أريح فيه ألمي وقلقي ويأسي، حاوره: عذاب الركابي.
(9): الكاتبة الشهيدة هبة أبو ندى، مصدر سابق.
(10): سمر الديّوب: مصدر سابق.
(11): أ.د. بسام قطّوس: موت النظرية النقديّة، رحلة النظريّة النقديّة من الولادة إلى الموت، دار فضاءات، عمان، الطبعة الأولى، 2020.
(12): المصدر السابق.
(13): أمين الرّيحانيّ: وصيّتي، عمان، وزارة الثقافة، 2023.
(14): الكاتبة الشهيدة هبة أبو ندى، مصدر سابق.