يوسف يوسف
كاتب وباحث أردني
(خاتون بغداد)(1)واحدةٌ مما تُعرفُ ب(روايات ما بعد الاستعمار)، وفيها يتناول شاكر نوري، ثنائية المركز والهامش. يتمثل المركز بالمستعمر الإنجليزي وبعقله المدبِّر "مسّ بيل"، فيما يتمثل الهامش بالمجتمع العراقي الذي يقع عليه فعلُ المحتلِّ، الذي يبرِّرُ احتلاله العراق عام 1917 بالقول: "لم تأتِ جيوشُنا لتحكم مدنكم وأراضيكم كقوة غازية ، بل كقوة محرِّرة(2)"
صحيح أنَّ الرواية تتوزع بين عشرة أقسام متباينة الأطوال تقع أحداثها بين عامي (1916 – 2016)، أي خلال فترة الاحتلالين: الإنجليزي والأمريكي، وأنَّها تستحضر إلى فضائها السردي وقائعَ وأحداثاً أوْرَدتها كتبُ التاريخ، إلا أنَّها وبحسب ما نقرأه على غلافها الأخير، لا تؤرخ بقدْر ما ترصدُ الصراع المليء بالعواطف والأحاسيس، لأسطورة حيّة وامرأة إشكالية هي( مسّ بيل). ولأنَّ الأمر على هذا النحو، فقد أصبح من الواضح أنَّني أتناولُ نصّاً روائياً أدبياً، وليس كتاباً في التاريخ كمثل تلك التي يضعها المؤرخون. والاختلافُ في اعتقادنا واضحٌ ومعروفٌ، بين كلٍّ من السارد الذي يكتبُ رواية، والآخر السارد الذي يؤلف كتاباً في التاريخ. والروائي شاكر نوري الذي اجتمعت فيه في اعتقادنا صفاتُ الاثنين معاً الروائي والمؤرخ، وإن بقيتْ الغلبة للروائي، استطاع إنجاز رواية أدبية بالخاصية التاريخية التي تمكننا رؤيتها في الرواية التاريخية، التي تناولها "جورج لوكاش" بالتفصيل في كتابه الشهير "الرواية التاريخية"(3).
وبما يلتقي مع هذا التصوُّر، فكأنَّما للكاتب شاكر نوري صوتان: الأول صوت الروائي، والثاني صوت المؤرخ الذي يأتي بما عنده من الوقائع والأحداث ليُدخلها في منظومة السرد، على اعتبار أنَّه الصوتُ القادمُ من التاريخ بحسب تعبير للناقد محمد صابر عبيد: "تمثل هذه الإطلالة – صوت المؤرخ – إضاءة تاريخية مهمة يضفي الراوي من خلالها على المشهد السردي حرارة صوتيه(4)، كمثل ما نرى في قوله: مرَّت مئة عام. هذه الدورة الكونية المخيفة من الزمن على دخول الآنسة الإنجليزية، بحذائها ذي الكعب العالي، وقبعتها العريضة، وأزيائها الباريسية، ومِشيتها المتبخترة إلى بغداد، منتصرةً ومظفرةً وفائزة، وقد ألهبت خيال البغداديين وما تزال تثير ظمأ فضولهم، وهي ترى أمامها قطاعات الجيش الإمبراطوري البريطاني تحُلُّ في الأرض التي طالما حلمت بها: بلاد الرافدين. (5)
وهنا يُطرح السؤال: هل هو مقتربٌ واحدٌ أم مقتربات أخرى سواه، ما يمكن للناقد المضيَّ فيه لاستنطاق رواية شاكر نوري؟ أو في صيغة أخرى للسؤال: هل وحدها ثنائية المركز والهامش ما تسترعي انتباه الناقد؟
ليس وحده المقطع الذي يحمل عنوان "سيناريو" ما يمكنه الإرهاص بمقترب آخر مثلاً، وإنَّما هناك التقنيات السينمائية التي يستخدمها نوري في عموم الرواية، ما تبيِّنُ أهمية المقترب السينمائي، والذي في حالة اختياره يمكنه أن يلهم الناقد دراسةً فيها من وفرة العناصر، ما يرتفع بها فتكون لها قيمتها العالية، من حيث مرورها بما في المتن الحكائي من المعاني، ومثل ذلك المرور بما فيها من تقنيات السينما المُخصِّبة لخطاب السرد، الذي إن صحَّ اعتبارنا شخصية يوّسس فيها المعادل الفني المحايث لشخصية الروائي، الذي كان قد درس السينما، فإنَّه لا بدَّ سيمضي باتجاه الردِّ على خطاب المستعمر الذي سيقوم يونس بتفكيكه، وهو ما يمكننا فهمه من خلال القول: أصرَّ يونس على استعادة قصة الخاتون من خلال الصور التاريخية التي التقطتها بنفسه.. وتساءل: هل يحتاج السيناريو إلى مؤرخ يضبط الأحداث التاريخية، أم إنَّ المؤلف حرٌّ بخياله؟ (6). وإلى الأمر نفسه ما يقوله هاشم عند إعادة افتتاح صالة عرض سينما غرناطة حيث يعمل في تشغيل آلة العرض: "لكنَّني كنتُ أحلم أن أرى فيلمكما يا يونس ونعمان يُعْرَضُ على شاشة سينما غرناطة، وليس فلم وارْنرْ هيزوغ". أقصدُ فلم " ملكة الصحراء (7) ."
بيد أنَّ هذا لا يعني التخلي عن المقتَرَبَ الأول الذي سنتناول فيه ثنائية المركز والهامش، فهو الأقدر في اعتقادنا على استيعاب مختلف الجوانب الفكرية والجمالية في الرواية، دون أن يغيب عن الأذهان أنَّه أكثر من سواه، ما يمكنه منح الناقد القدرة على وعي الحاضر بحكم طبيعته، تماماً وكمثل ما امتلك شاكر نوري الوعي العميق بالماضي، الذي تتمُّ عملية استرجاعه بهدف فهم السبل لتغيير الحاضر المعيش، وعلى نحو ما تمكننا رؤيته في المقطع التالي: "في الليل انزوت – (مسّ بيل) في غرفتها تتأمل التاريخ الذي عجزت عن فهمه في تلك اللحظة، حتى بقراءة كتب أكسفورد؛ التاريخ يُضمرُ في أعماقه شيئاً آخر غير ما نراه في الظاهر. لا نريد أن نكون مثل البرابرة، نرقص على الخراب – تقول مع نفسها – مبتهجين بانتصارٍ مزيَّفٍ على رجل مريض، جرَّ ذيولَ الهزيمة تاركاً لنا عقولاً بالية، وخرافاتٍ في رؤوس... المنهكين التي امتلأت بالقمل" (8)
المقولةُ الافتتاحيةُ – الدالُ والمدلول:
المقصودُ ب " المقولة الافتتاحية" عنوان الرواية: خاتون بغداد. ومفردة الخاتون كما يوضِّحُ نوري في الملاحظات والهوامش: لقبٌ من تأنيثِ كلمة " خاقان – تون "، وتعني الملك" أو "السلطان"، أي " خاتون السيدة أو المعظمة أو السلطانة ". وهو اسمٌ تركيٌّ يُطلق على زوجة الخليفة وعلى كلِّ امرأة شريفة.
وحول استخدام هذه المفردة يقول: "استُخدمَ هذا الاسم أيام التركمان السلاجقة وأُطلق على " خاتون العصمة"، بنت ملكشاه السلجوقي وزوجة المستظهر بالله العباسي، واستخدمتها الطبقة العالية لدى التُّرْك قديماً، ويُقابلُ هذا اللقب بالعربية "سيِّدة من سيِّدات الطبقة الراقية لزوجات وبنات الملوك والسلاطين". وكان المؤرخون في أكثر الحالات ينسون ذكر الأسماء الحقيقية لمثل هؤلاء الزوجات والبنات، ولا يذكروا إلا لقبَ خاتون فقط، كابنة " معين الدين أُنَرْ " صاحب دمشق وزوجة السلطان نور الدين زنكي، وأيضاً زوجة السلطان ملكشاه السلجوقي، وغيرهنَّ الكثيراتُ في التاريخ"(9)
ومن بين ما يصحُّ هنا اعتبارنا " خاتون بغداد " المقولة الافتتاحية في الرواية التي تأتي في مقام العتبة. والمعنى الظاهر الذي يمكن أن يتراءى للمتلقي في اللحظة التي تقع فيها نظراته على العنوان أنَّه أمام سيِّدةٍ كبيرةٍ تسترعي احترام أولئك الذين كانوا قد أطلقوا عليها هذا اللقب، وهم أهل بغداد الذين عايشوا تلك الفترة من احتلال الإنجليز لعاصمتهم، ورأوها بعيونهم وهي تدخل مع جيوشهم المنتصرة على العثمانيين. (10)
" خاتون بغداد " عنوانٌ شديدُ الكثافة، ويتوزَّعُ بين وحدتين لسانيتين هما: (خاتون) و(بغداد)، وقد أُضيفت الوحدة الأولى منهما إلى الوحدة الثانية التي أصبحت مضافاً إليها. وفيما تشير الوحدة الأولى منهما إلى أنثى تحمل لقب (خاتون)، فإنَّ الوحدة الثانية منهما تشير إلى اسم مكان هو (بغداد)، وهو الذي ستصبح الخاتون فيه الكلَّ في الكلِّ كما يُقال. الأمرُ الذي يجعلنا نرى لاحقاً، كيفيَّة تحوُّلها إلى بؤرة تلتقي فيها مختلف خيوط المقولة الجوهرية في الرواية، وهي المقولة التي يمكننا تكثيفها على النحو التالي: الخاتون هي السيدة الحاكمة، وهي التي تنسج خيوط الواقع في العراق كما تتمناه وليس في بغداد وحدها، بدالة القول: "من شرفة منزلها تنظر إلى قمر بغداد المتألق في السماء، تتنازعها أمواج حلم واحد، بناء صرْح الملكية، يتمتم الضباط والجنود: إنَّها المرأة الوحيدة التي يستمع إليها التاج البريطاني"(11) .
وهذه الخاتون هي الإنجليزية التي دخلت بغداد برفقة جيش بلدها المنتصر. إنَّ اختيار شاكر نوري بغداد وليس سواها من المدن العراقية التي يقع عليها جميعها فعل الاحتلال لتسريد جوانب من تاريخها – تاريخ المحتل فيها، لم يأتِ اعتباطاً. تقول في إحدى رسائلها إلى أبيها: "أبي العزيز .. لا بدَّ لي أن أقول لك إن الخطأ الذي اقترفناه في حق هؤلاء – تقصد العراقيين- أننا اعتبرنا الجموع البشرية مجرَّد بدْوٍ رُحَّل، وكائنات لا تفقه شيئاً" (12)
وهذه واحدة من المؤشرات المهمّة التي تضعنا أمام الحقيقة التي أتى أدبُ ما بعد الاستعمار للتعبير عنها. ونقصد القيام بتفكيك خطاب المستعمر، في الوقت الذي يتمُّ فيه إنتاج خطابٍ عربيٍّ بروايةٍ جديدة، من أهم خصائصه الذوْدُ عن الحقيقة، حتى لو كان في هذا الذوْدِ ما يعترف للمستعمر بامتلاكه ولو القليل من حسن النية، التي نراها في (مسّ بيل ).
وخلاصةُ القول: إنَّنا ومنذ اللحظة التي تقع فيها أنظارنا على عنوان الرواية، سرعان ما نبدأ باستحضار ما يمكننا توقُّع وجوده في المتن الحكائي من الثيمات. أي إنَّنا وعلى نحو ما يراه يوسف حوراني، نبدأ عملية خلقٍ ذهني، تصاحبها أحاسيس وتخيُّلات واسعة توحي بطاقةٍ شبه سحرية للكلمة ذاتها، وهو ما لا يستطيع الإيحاء به وجود الشيء ذاته دون تاريخه وفعالياته (13). ولأنَّ شاكر نوري لم يقع في مصيدة الوقائع التاريخية وجفافها على نحو ما وقع كثيرون ممن كتبوا الرواية التاريخية، فقد استطاع الظفر بشرط الوصول إلى المتلقي ومحاورته. والرواية لهذا السبب قصٌّ في الحاضر يسترجع فيه بعضاً مما في ذاكرة الماضي، الذي هو أول المؤشرات السردية التي تأتي مع العنوان – جواز عبور النصِّ الأدبي في بنيته الأولى إلى القارئ. في الإشارة إلى ثيمة المركز والهامش التي نتناولها في هذه الدراسة والتي اعتبرناها المقترب الأفضل من غيره إلى الرواية من أجل استنطاقها على نحو جيد، والكشف عما في متنها الحكائي من الأفكار، وكذلك معرفة ما في الخطاب المستخدم من المحسِّنات الجمالية لإيصال هذا المتن، تستوقفنا عندها أطروحة "ميلان كونديرا" التي يقول فيها: "التاريخ بحركاته وحروبه وثوراته، ومثل ذلك بثوراته المضادَّة وهزائمه الوطنية، لا يهمُّ الروائي بوصفه موضوعاً للوصف والتشهير والتفسير، فالروائي ليس خادماً للمؤرخين. وإذا كان التاريخ يسحره، فذلك لأنَّه مثل مصباح كشافٍ يدور حول الوجود لإنساني، ويُبقي ضياءه عليه وعلى إمكاناته غير المتوقعة التي لا تتحقق، وتظل غير مرئية ومجهولة في الفترات الراكدة عندما يكون التاريخ ساكناً" (14)
فالمقطعُ المُشارُ إليه، وهو مما يضعه شاكر نوري إلى جانب مقاطع أخرى قبل البدء بعملية التسريد، ما يمكننا اعتباره أحدَ المصابيح المهمّة، ليس فقط لمعرفة ما في متن الرواية من المحكي، وإنَّما لمعرفة التقانات المستخدمة في سردنة التاريخ كذلك: التاريخ بحركاته لا يهمُّ الروائي بوصفه موضوعاً للوصف، ذلك لأنَّه ليس خادماً للمؤرخين.
مقاربةٌ (سيميو – تاريخية)
عند تناولنا ثيمة تسريد التاريخ علينا التفريق بين المحكي التاريخي ومحكي الرواية. ففي حين ( يُخبرنا ) المحكي الأول بما كان قد وقع في الماضي، فإنَّ المحكي الثاني ينبؤنا بما يمكن أن يحدث. فمن المحكي التاريخي: دخل الجنرال "ستانلي مود"، القائد العام للجيش البريطاني بغداد على ظهر باخرة إنجليزية شقَّتْ نهر دجلة، ترفرف عليها سارية التاج البريطاني مصحوباً بهيئة أركانه.. إلخ (15). ومن المحكي الروائي: بعد مغادرة السّير "كوكس" بغداد، أصبحتْ الخاتون خالية الوفاض، ولم يكن ذهابها إلى البلاط سوى روتين يومي اعتادت عليه. كان البلاط مكاناً مريحاً لها، مزيَّناً بثريات الكريستال وسط أكاليل من زهور الياسمين.. إلخ(16) .
ولما كان من بين مهمات الناقد النفاذ إلى أعماق النصِّ باعتباره متوالية من العلامات، فلقد صار لزاماً عليه كذلك عدم توسُّل بنى الخارج لاكتشاف المعنى المضمر، وإنَّما عليه اكتشاف علاقات النص بما حوله بإجراء مقاربات لمعرفة القوانين التي تحكم هذا النص الأدبي أو ذاك. وهذه في حالة " خاتون بغداد " سياسية اجتماعية لها علاقاتها المُضْمَرَةُ عند كلٍّ من المحتلِّ الإنجليزي، وعند العراقي الذي يقع عليه فعل الاحتلال:
(1) "وقد ألهبتْ خيال البغداديين وما تزال تثير ظمأ فضولهم وهي ترى أمام عينيها قطاعات الجيش الإمبراطوري البريطاني تحلُّ في الأرض التي طالما حلمت بها" ص11.
(2) "يا صاحب السعادة لا تنخدع برقَّتهم الظاهرية لأنَّهم أشدّاءُ من الداخل. لا نعرف متى يهدأون كالحملان الوديعة، ولا متى يهيجون كالثيران الوحشية" ص25.
(3) " يا صاحب السعادة، تقول "مس بيل": إنَّنا نعيش في مدينة أسطورية ، يجب أن نبحث عن أرواح أبنائها قبل أن نبحث عن آثارها وكنوزها" ص36 .
(4) "وتساءلتُ في سرّي، تقول "مسّ بيل": هل نحن أسرى الجغرافيا أم مرضى التاريخ؟" "ما تزال القرون الوسطى تعيش في أرواحنا نحن البريطانيين، ونهمل أن في التاريخ حماقات أكثر من الحِكَمْ" ص143 .
(5) "يُسعدني أن أُهنّئكِ بهذا الكتاب الذي حاز على استحسان لندن – يقول السير (كوكس) ل(مسّ بيل) ثمّ التفت إلى أحد القادة مازحاً بقوله: مسّ بيل بوصلتنا في الرمال المتحركة" ص160 .
(6) "ما يحزُّ في نفسي، تقول (مسّ بيل): إنَّنا ارتدينا قناع العثمانيين الذين حاربناهم. وبدأنا نحكم بأدواتهم القديمة" ص185 .
(7) " وهوليود جامدة على الدوام. أهملت السيناريو الذي كتبه يونس العراقي، وأخذت السيناريو الذي كتبه رجال لا يعرفون حياة (مسّ بيل) في بغداد. مازالوا يجهلون أن نصفها عراقي ونصفها الآخر إنجليزي" ص218 .
والخاتون في المقاربة السيميو – تاريخية هي الدال على الإمبراطورية من حيث نشوئها وانهيارها. وكما نرى فإنَّ ما كانت (مسّ بيل) تحمله من التطلعات، هي نفسها ما كانت الإمبراطورية البريطانية تحلم بها. لا أحدٌ يمكنه تقبُّل الخاتمة هكذا بسهولة: خاتمة (مسّ بيل). فما الذي حدث؟، وما علاقة هذا بالإمبراطورية البريطانية وأحلامها؟ مما يقوله السارد: "بدأت صباحاتُ بغداد تفقد ألقها في عينيّ الخاتون. وتندثر الرغبات في الجسد المتهالك، ولم يعد أحدٌ يفهمها. كلٌّ ذاهبٌ إلى عالمه، من دون أن يسأل عما أصبحتْ عليه" (17) .
وشاكر نوري في علاقته الجدلية مع ذاكرة التاريخ، إنَّما يفعل ذلك لرغبته في رسم فضاءٍ أجمل للرواية التي يكتبها، يتمثل إجرائياً على المستويين: الأول الذي هو مستوى الشكل ومعمار الرواية، والثاني الذي يتمثل بالمتن الحكائي وما يظهر فيه من اللقى الثمينة التي يكون قد وضعها فيه. ومما نراه في المستوى الأول نزوعه إلى تقسيم الرواية إلى عشرة أجزاء قسَّمها هي الأخرى إلى عدد من المتون المتباينة الأطوال، وكلُّ متن منها له عنوانه الفرعي المحايث للواقع ولحركة التاريخ – تاريخ الشخصية وتاريخ الإمبراطورية، وهي المحايثة التي تفضي في المستوى الثاني، إلى ما في المتن من اللقى الثمينة.
يقول يقطين في تعريفه الرواية التاريخية: "إنَّها عملٌ سرديٌّ يرمي إلى إعادة بناء حقبة من الماضي بطريقة تخيُّليَّة، حيثُ تتداخلُ شخصياتٌ تاريخيةٌ مع شخصياتٍ متخيلة"(19). ومن الشخصيات التاريخية في الرواية: (مسّ بيل، بيرسي كوكس، الملك فيصل الأول، الجنرال مود..)، وسواها. ومن الشخصيات المُتخيلة: (أبو سُقراط، فيرناندو، يونس..) إلخ .
الجدوى من النقد السوسيولوجي :
ما إن ينتهي الناقد من قراءة النصِّ الأدبي الذي بين يديه، حتى يبدأ التفكير بمنهجه النقدي الذي يراه الأفضل من سواه. وعادةً ما تُصاحبُ عملية القراءة واحدة من عمليات الاستحواذ المعقَّدة: النصّ في استحواذه على القارئ، وهذا في استحواذه على النصِّ ومواصلة محاورته. وإذا ما حاولنا فهم عملية القراءة فإنَّها قطعاً ليست فعلاً مجرَّداً من الدوافع والموجهات. كما وإنَّها لها شروطها التي بغيرها لن تكون قراءة ناجحة.
وللعلاقة بين القارئ والنص اتجاهان: الأول ذو طبيعة اجتماعية، والثاني مما له علاقة بالجماليات. فأمَّا الاتجاه الأول الاجتماعي فإنَّه مما يذهبُ إلى المتن ومعرفة ما فيه من المحمول الفكري، على اعتبار أنَّ النصَّ حدثٌ اجتماعي يغلبُ عليه التعبيرُ عن مجموع بشري. فيما الاتجاه الثاني الجمالي البحت فإنَّه يذهب باتجاه البحث عن التقانات المستخدمة، والسبل التي يسلكها الروائي للوصول إلى القارئ؛ الأمر الذي يعني معرفة كيفية ذهابه إلى ما يُعرفُ ب( علم اجتماع القراءة) والإفادة منه. وكذلك (علم اجتماع الرواية) وإفادته منه هو الآخر في تطوير عملية التلقي. ولما كان المنهج في النقد طريقة في التفكير وأسلوباً في التطبيق كما يجري عادة تعريفه، ففي اعتقادنا فإنَّ المنهج السوسيولوجي يعدُّ الأفضل من سواه لدراسة رواية " خاتون بغداد"، بالنظر لما في متنها الحكائي من الثيمات التي تهتم بها روايات ما بعد الاستعمار أكثر من اهتمامها بالثيمات الأخرى، وهي ثيماتٌ اجتماعية في الغالب وسياسية. وهذا يعني وجوباً وبهدف النأي عن العسف وقيود الأيديولوجيا القيام بتفكيك الرواية بوعي عميق، وغير مباشر/ فوق نصٍّي، بهدف الوصول إلى الواقع في تمثلاته الاجتماعية الخفيَّة التي يفترضها، أو يصنعها مخيال الروائي. وبالتالي معرفة مدة تطابق الواقع الذي في الرواية مع ذلك الواقع الذي كان سائداً خلال مرحلتي الاستعمار البريطاني أولاً، والاحتلال الأمريكي ثانياً. والأمر هنا ومن أجل الاحتفاظ بالموضوعية والصدق في تقديم أيِّ حكم نقدي، يوجب القيام بموازنة إجرائية بين الواقعين: الحقيقي والمتخيل، ونظنهما أقرب ما يكونان إلى التطابق إلى حدٍّ بعيد .
ما نقصده كيفية معرفة ما في المتن الحكائي من المتخيل وغير المتخيل من الدالات والدلالات، بهدف الكشف عن سوسيولوجيا المضمون المحايث للواقع السوسيو – ثقافي الذي ساد في العراق آنذاك. الأمر الذي يوجب على الناقد تجاوز القراءة المضمونية الفجة، وعقدة الخطاب الأيديولوجي التي ما تزال مسيطرة على الأذهان، وكيفية النظر إلى رواية ما بعد الاستعمار.
أخيراً؛ ومع الإشارة إلى ثيمة ثنائية المركز والهامش التي ترهص الرواية بها، والتي اعتبرناها المقترب الأفضل لفهم الرواية والكشف عما في متنها، تستوقفنا أمامها عتبة المقولة الافتتاحية: مرَّتْ مائة عام . هذه الدورة الكونية المخيفة من الزمن على دخول الآنسة الإنجليزية تلفح جسدها الطبشوري الأبيض وعيون العراقيين تنفتح على وُسْعِها، وهي تنظر ببرود إلى غرائزهم البدائية التي تتدفق من مسامات جلودهم. (21)
الهوامشُ :
(1) شاكر نوري، خاتون بغداد، دار كتّاب للنشر والتوزيع ، الطبعة الاولى ، بغداد 2017.
(2) الرواية ص39 .
(3) انظر: جورج لوكاش، الرواية التاريخية، ترجمة د. صالح جواد الكاظم، وزارة الثقافة، بغداد 1978 .
(4) د.محمد صابر عبيد، جماليات السرد بالتاريخ، مجلة أفكار الأردنية،264/2011.
(5) الرواية، ص11 .
(6) الرواية، ص337 .
(7) الرواية، ص330 .
(8) الرواية، ص158 .
(9) الرواية، 369 – 370 .
(10) الرواية، ص11 .
(11) الرواية، ص43 .
(12) الرواية، ص147 .
(13) يوسف حوراني، البنية الذهنية الحضارية في الشرق المتوسطي القديم ، دار النهار للنشر، 1978
(14) الرواية، ص7 .
(15) الرواية، ص25 – 26 .
(16) الرواية، 284 .
(17) الرواية، ص294 .
(18) الرواية، ص40 .
(19) سعيد يقطين، الرواية التاريخية وقضايا النوع الأدبي، مجلة نزوى العُمانية العدد 44.