يوسف ضمرة/ الأردن
يتنوَّع المشهد القصصي في الأردن كسواه في البلاد الأخرى، وهو أمر حتمي طالما كانت التغيُّرات الاجتماعيّة تمتلك ديناميّة متواصلة. وإذا كانت الثقافة بمفهومها الشامل -أقصد الأنثروبولوجي هنا- تُعدُّ عاملًا رئيسًا من العوامل المؤثرة في صيرورة التغيُّرات الاجتماعيّة، كما يجمع مؤسّسو علم الاجتماع أو آباؤه "ماركس وفيبر ودوركهايم"، فإنَّ الإبداع يُعدُّ واحدًا من أرقى أشكال الوعي الاجتماعي. ولأنه كذلك، فإنَّ علاقة جدليّة تربطه بالضرورة بالتغيُّرات الاجتماعيّة.
على هذا الأساس يجد الإنسان نفسه في بحث دائم عن أدوات تطوير إبداعه؛ فهو من جهة لا يريد تكرار ما سبق من تجارب حتى لو كانت على درجة كبيرة من الأهميّة، ومن جهة أخرى فإنه ملزم بمواكبة التغيرات الاجتماعيّة التي تصيبه كفرد وكجماعة ينتمي إليها.
لقد مرَّت القصة القصيرة الأردنيّة بمنعطفات حادة حينًا وبكمون حينًا آخر، وبتسارع في التحوُّلات التي أصابت العناصر الأساسيّة في القصة. ولم يكن ذلك كله مبرمجًا أو نتيجة خطط موضوعة جرى تنفيذها، وإنَّما كان نتيجة طبيعيّة للمفاهيم المتطوِّرة أو المتغيرة، ارتباطًا بالتحوُّلات الاجتماعيّة -سياسيّة وثقافيّة واقتصاديّة- دون أن ننسى أنَّ التحوُّلات الاجتماعيّة، وعلى رأسها الثقافيّة، أصبحت متسارعة في عالم يصغر أمام سرعة التواصل بين الثقافات والمفاهيم والأفكار.
إنَّ القصة القصيرة الحديثة، لم تكن في الأصل جنسًا أدبيًّا عربيًّا، حتى لو ادَّعى بعضهم أنَّ المقامات تشكِّل بدايات القصة العربيّة. وحينما حصل التلاقح الثقافي بين الغرب والشرق، أصبح من الطبيعي أن تتأثّر الثقافات بعضها ببعضها الآخر، فوجدت الشعوب نفسها قادرة على التعبير عن أحلامها وآمالها من خلال أسلوب فني جديد، ولم يكن ذلك معيبًا، حيث العرب الذين خبروا السرد والشعر وطوروهما ضمن سياقات مختلفة، لم يجدوا صعوبة في هضم هذه الوسائل التعبيريّة فنيًّا وموضوعيًّا.
تأثر الأردن وفلسطين بهذا الجنس الأدبي، وظهر روّاد الكتابة القصصيّة، الذين كان لهم الفضل العظيم في نقل هذه الخبرات والبناء عليها، لتصبح في وقت قصير صفحة من صفحات المشهد الإبداعي العربي. لكنهم -مثل كلّ متلقٍّ مباشر- توقفوا عند هذا الحدّ، إلى أنْ ظهرت أجيال لاحقة، لم تُعانِ خجل التجربة المستوردة، بل اقتحمتها بجرأة وقوّة، وأصبحت تزاحمها دون أيّ تردُّد.
وإذا استثنينا محاولات الروّاد العظيمة في هذا السياق، فإنه يمكن القول إنَّ القصة القصيرة الحديثة في الأردن، بدأت في أواخر الستينات من القرن المنصرم، وتوهَّجت في السبعينات والثمانينات، وانتقلت في التسعينات ومطلع الألفيّة الثالثة إلى آفاق عدّة متنوِّعة ومتشابكة.
لقد خاض الجيل المؤسس للقصة الحديثة تجربة البحث عن تقنيات جديدة تؤسس لفن جديد، كان بحاجة ماسّة لأن يترسَّخ ويتجذَّر، وهو ما حدث بحقّ، الأمر الذي مَنَحَ الأجيال اللاحقة فرصة التَّحليق بعيدًا، دون قيود ذاتيّة وموضوعيّة عانت منها الأجيال المؤسِّسة.
فقد خضع المؤسسون لما يشبه القواعد الصّارمة في انتقاء الموضوعات التي بدت في أحيان كثيرة كأنَّها مفروضة بإرادة جمعيّة. وهو ما حدَّ -نوعًا ما- من ركوب المغامرة في الكتابة، وهي -أي المغامرة- تُعدُّ مفتاحًا أساسيًّا من مفاتيح التطوُّر. فلا أحد يتمكّن من التحليق في آفاق التكنيك الواسعة واللامحدودة ما لم يتسلّح بالمغامرة، وما لم يتحرَّر من قيود الأنا الجمعيّة، ومفاهيم الثقافة السائدة. وعليه ظلّت القصة القصيرة زمنًا لا بأس به أسيرة المفاهيم الجمعيّة للأدب بشكل عام. ولأنَّ الموضوعات كانت محدودة إلى حدٍّ ما، فإنَّ التكنيك ظلَّ أسير هذه الموضوعات إلى أنْ حدثت تغيُّرات اجتماعيّة وسياسيّة عامة، مَنَحَت الكُتّاب فرصة التحرُّر من هيمنة الثقافة السائدة.
على هذا الأساس ظهر ما يسمّى "تداخل الأجناس" في الكتابة، وظهرت قصيدة النثر التي كان لها دورٌ كبيرٌ جدًا في نقل الكتابة إلى مربَّع الذات والخاصّ، قبل الخوض في الموضوعات الجمعيّة والخضوع للشعارات التي سادت زمنًا غير قصير.
على أنَّ هذا التطوُّر، لم يكن مفاجئًا، حيث كان يطلُّ برأسه في الكتابات الأولى بين حين وآخر. ولعلَّ تجربة مثل تجربة جمال أبو حمدان في مجموعته "أحزان كثيرة وثلاثة غزلان" تؤكد ذلك. وهو ما التقطه قاص مثل فخري قعوار في "ممنوع لعب الشطرنج" وبدر عبدالحق وهند أبو الشعر منذ بداياتهما مطلع السبعينات. لكن اللافت هنا هو الحفاظ على العناصر الأساسيّة للقصّ، وخصوصًا الحكاية والشخوص، وهو ما لم يعُد قاعدةً أساسيّة في الكتابة الجديدة "زمنيًّا"، حيث تميَّزت بعض التجارب الجديدة -وخصوصًا في القصة القصيرة جدًا- بالتقليل من أهميّة الحكاية، واستعاضت عنها بالمفارقة التي أصبحت سمة أساسيّة لها.
إنَّ في القصة الجديدة قواسم مشتركة واضحة؛ فهي عمومًا تستخدم تقنيات جديدة مغايرة، متفلّتة من قواعد صارمة سادت زمنًا طويلًا، وإنْ كانت القصة في الثمانينات هي التي أسَّست لهذا التطوُّر. كما إنَّ القصة الجديدة تأثَّرت بقصيدة النثر، وصار من الصعب أحيانًا أن نفرِّق بين القصة وقصيدة النثر، وهو ما جعل من المفارقة ثيمة أساسيّة في القصة الجديدة. لكنَّ هذا لا يمنع توهُّج بعض التجارب التي لم تتخلَّ عن الواقعيّة في القصّ، بل وبَدَت هذه التجارب كأنَّها تطوُّر طبيعي للواقعيّة الأولى؛ واقعيّة خليل السواحري ومحمود شقير، ثم عدي مدانات الذي نقل الواقعيّة إلى مربَّع الحداثة الناضج..
أمّا أهم ما ميَّز القصة الجديدة أو بعضها، فهو المقدرة على تحويل الذات إلى موضوع، وأقصد هنا ذات الكاتب، بحيث أخذنا نلمح الكاتب شخصيّة قصصيّة دون مواربة، وهو اعتراف صريح بالذات وقيمتها في الكتابة، الأمر الذي لم يكن موجودًا بهذا الوضوح من قبل إلّا نادرًا؛ وهذا ما حدا بنا في مجلة "أفكار" إلى تخصيص ملفّ يتضمَّن شهادات إبداعيّة لبعض كُتّاب القصة القصيرة من الجيل الشاب، ونماذج من نتاجهم القصصي. وقد أردنا من خلال الشهادات أن نقف ويقف القارئ عمومًا، والناقد بشكل خاص، على رؤى الكُتّاب الجُدُد للقصة القصيرة ومفاهيمهم لها، والكشف عن الجوانب الإبداعيّة والثقافيّة لدى هذا الجيل وتطلُّعاته وطريقته في الكتابة.
ما يمكن تأكيده هنا، هو أنَّ تطوُّرًا ما قد أصاب القصة القصيرة، بغضّ الطّرف عن قيمته الفنيّة والموضوعيّة، التي لن تظهر قبل مرور وقتٍ كافٍ لاختمار التجربة. لكن هذا لا يعني أبدًا أنَّنا لم نجد أنفسنا أمام تجارب مهمّة، نستطيع أن نعوّل عليها بالنّسبة لمستقبل القصة، مع التأكيد على وجود تجارب تضعنا في حيرة أو ارتباك، الأمر الذي يحتاج إلى درس وبحث ونقد متعمّق، للوقوف على الجدوى الحقيقيّة وآفاق التطوُّر المستقبليّة للقصة القصيرة.