د. أماني سليمان
(1)
الكتابةُ فعل التمرُّد اللَّذيذ، فعل الحريّة الاختياري، وجدل الذات حول ذاتها، وانبثاق الأنا في الكلّيّ...
هكذا أراني في الكتابة، أنا أخرى تبحث عني، وأنا أبحث عنها، وبينهما أراود الواقع كي يخفّف وطأته، ويستجديني الحلم كي يتداخل مع التفاصيل في يومي.
بين الشعريّة التي تساوم لغتي، والواقعيّة التي يتطلّبها السّرد، ألعب لعبة الولوج في القَصّ، مرَّة بذكاء الناقد العارف، ومرَّة بأنوية الأديب العاطفيّة، ومرَّة بتلقائيّة لا ترغب بأن يتم تأطيرها، وإنّما تنكتب على سجيّتها فيما أتشوّق في نهاية المطاف أنْ يتشكّل بنْية مختلفة.
وكما أردِّد دومًا، هي لعبة حلوة، لا أملُّ من اقترافها، ولا أملُّ من الأمل بأن تنكتب يومًا على نحو أريده وأسعى جادّة نحوه، كي تصبح الكتابة/ القصة ممتعة مثقِّفة شيّقة مغايرة. وكي تعبّر عنّي، بما أمثله من فردانيّة ضمن مجموع، وكي تعبّر عن المجموع بما هو عقل جمعي يمثّلني بشكل ما، على الرغم من أنّني أدرّب نفسي على الطيران خارجه.
هكذا أراني منزاحة على الرغم من خديعة الاقتراب، وقريبة رغم وهْم الانزياح، عارفة بما أريد، جاهلة بنتيجة اللّعبة.
(2)
لم تغوِني كلُّ الدّعوات للنشر مبكرًا، وكانت الصحافة الثقافية -عملي الأول- بابًا رَحْبًا للغواية، حماني اتّزاني من التسرُّع والانجرار نحو زهو الكتاب الأوّل الذي يدفع للنَّدم في ما بعد بما يتكشّف لصاحبه -الذي يكون قد نضج- من سذاجة أو ركاكة لا تتواءم مع منظوره/ منظوري للكتابة بما هي خلْق في أجَلِّ تجلّياته البهيّة، وبما هي سموّ نحو ما جعلها في آخر مطافات النبوّة معجزة؛ لذا لا يبدو امتهان الكتابة أو اقترافها أو هوايتها عملًا يدفع للطمأنينة، لكنه فِعْلُ قلق، إنْ كنتَ جادّا فلن تتماسّ مع الطمأنينة بعده البتة...! حماني اتّزاني إذن من الورطة الأولى فتأنّيتُ في إصدار أولى مجموعاتي القصصيّة حتى صارت على سويّةٍ لا تستدعي عضّ أصابعي كلما أعدتُ قراءتها.
(3)
لم أبدُ منشغلةً بالقصة بوصفها دربي الأدبي في بدء اهتمامي بالكتابة، كانت (فعولن) تتراقص في قلبي، ملتبسةً بصور شعريّة تحاكي القلب والوطن والطبيعة، بدايات يرسمها إيقاع الصِّبا وخيالاته الرومانسيّة، كتبتُ الشعر فنلتُ المركز الأوّل في المرتين اللتين تجرّأتُ فيهما على المشاركة في مسابقات شعريّة في الجامعة الأردنيّة، غير أنَّ الموسيقى والتفعيلات في رأسي لم تسدّد حاجتي لرسم عالم رغبتُ أن أروح باتِّجاهه بهدوء خاص متخلّصةً من نقطة الصفر/ ذاتي التي تشكل محورًا غنائيًّا فرديًّا لا أرغب أن أظلّ أسيرته؛ فموسيقاه موجعة وأنينه دائم، ولأنَّ القصة في واحد من منظوراتها تنطلق من كثافة الشعر وتظلّ مشدودة على نحو ما به مع إمكانيّة جذبها إلى ما هو أبعد عنه، ولأنّ رغبةً ضمنيّةً ظلّت تشدّني إلى سرد وتدوين اليومي منذ بدأتُ كتابة درس الإنشاء في صفوف الدراسة الأساسيّة، لم يكن بعيدًا أن أنحّي الشعر اختيارًا واعيًا/ هاربة من كارثيّة ألمه، وأن أورّط نفسي في مقاربة ما تشكّله القصة والسرد عمومًا من جماليّات دقيقة ورحبة وقادرة على التّماس مع الذات وما وراءها وما بعدها، وإنْ ظللتُ في بادئ الأمر أسيرُ في ظلِّ الشعر ومعيّته.
(4)
أفكِّرُ في كل مرَّة أريد فيها إنتاج مجموعة قصصيّة، بما يسمى "الانزياح"، ولعلّ تخصصي الأكاديمي في تدريس البلاغة والأسلوبيّة لطلاب مرحلتَيْ البكالوريوس والماجستير، يُلزمني تطبيق ما أدرّسه على نفسي أولًا؛ من ضرورة تستدعي من الأديب المغايرة وكسر التوقُّع، لا عن اشتراطات الجنس الأدبي الذي يكتب فيه ومحدّداته النمطيّة فقط، ولا عن عموم الإنتاج في الجنس الذي يكتب فيه فقط، بل عن ذاته في ما كتب وأنتج؛ إذ من الأوْلى أن يعمل في كل مرَّة على تقديم ما يعدِل بكتابته الجديدة عمّا قدّمه في السابقة، كي لا تكون مجموعته الرابعة صدى لمجموعته الأولى مثلًا أو يكون من الكافي لمعرفته والانتهاء من تجربته قراءة عمل واحد له وحسب! عليه أن ينزاح عن ذاته باستمرار بتقديم عوالم ورؤى مغايرة، وشخصيّات أو أفكار قصصيّة مبتكرة، وأن يجرّب وإن أخفق، وأن يبحث عن مصادره في أعماقه وبعيدًا عنها، وأن يجتهد في القراءة وتثقيف ذاته فنيًّا وفكريًّا، وأن لا ينشر أيّ عمل يكون مجرَّد بواقٍ نفسيّة أو اجترارات أو ظلال لعمله أو أعماله السابقة.
(5)
بين (شخوص الكاتبة)، و(سمِّهِ المفتاحَ إنْ شئت)، و(جوار الماء) ثمّة خطوط تتخالف وتتلاقى (ولعلّ ذلك يكون لجِدّة التجربة) على مستوى الرؤى من جهة وعلى مستوى البنى، غير أنَّ كلّ واحدة منها تمثّل ذاتها المتفرّدة -وإن كنتُ المشتَرَك فيها جميعًا- فإنتاج الواحدة منها كان ظلًّا لتجربة نفسيّة وفكريّة ورؤيويّة مستقلة، أعطيتُ لكل منها وقتها الكافي لتنساب وتنكَتِب بعيدًا عن ضغط الرغبة بالنشر أو لذّته وزهوه.
بهدوء جمّ ومتعة خاصة أستذكر انبثاق كل مجموعة، ربّما لم تحظَ المجموعات بقراءات مناسبة (إلّا إذا استثنينا قليلًا المجموعة الثالثة "جوار الماء" التي فازت بجائزة "الأديب خليل قنديل للقصة القصيرة لعام 2018")، غير أنَّ ذلك لم يقلِّل من شعوري بالمسؤوليّة والقلق حيال التطلّع لإنتاج عمل مميّز لاحقًا، إنّها الكتابة التي عليها أن تظلّ في منظوري مصدر رغبة ورهبة، وغواية للبحث والحَفْر، كي يستمرَّ الشَّغف الذي دونه لن أكتب يومًا قصةً أُعلنُ بها صوتيَ الخاص.
تميمة خضراء
قصة: أماني سليمان
جدَّتي كانت تمرح مع صاحباتها، لمّا مرّت امرأة وقالت لهنّ: "أرسمُ على وجوهكنّ خضرةَ بختكنّ نقاطًا متفرقةً فوق الذّقن والحاجبين، فأضمَن سلامة مستقبلكنّ، تتزوّجن باكرًا، وتنجبن الكثيرَ من الذكور القليلَ من الإناث، يُطيعكم الذُّكورُ طاعةً عمياء، تعشن طويلًا، ولا تنحني ظهوركنّ إلا متأخرًا".
نظرَتْ الفتيات إلى بعضهنّ، تضاحكن بخفّة، وضعتْ بعضهنّ إحدى أكفّهنّ على أفواههنّ، بعضهنّ وضعنَ كلتا الكفّين على الخدّين. إيماءاتٌ بالعيون والأكتاف، وحواراتٌ تبادلنها بصمت وقلق.
جدَّتي الوحيدة التي هزّت بأكتافها لهنّ، وقالت بصوتٍ فيه إصرارٌ لا يتواءم مع عمرها الصغير: "أنا أريد أن أجرِّب".
ارتعبَتْ بعضهنّ وركضن باتِّجاه بيوتهنّ.
لم يطل الأمر كثيرًا، حتى شهقتْ أمُّ جدَّتي، وضربَتْ على صدرها، وهي تبحلق غير مصدّقة في وجه جدَّتي القادمة باتِّجاه البيت مختالةً بين صاحباتها بوجهها المدقوق، شيءٌ ما ربَطَ على قلبها، سحرٌ ما تلبّسها، نظرَتْ في وجه ابنتها بعمق، ثم ابتسمتْ قائلة: "كم أنتِ جميلة!".
شاع في البلدة أنّ امرأتين سُحرتا، وأوْكلوا لرجلٍ الدَّورانَ على بيوت الحيّ محذّرًا من غجريّة ترمي سحرها على الصبايا الصغيرات، وتدقّ وجوههنّ بلونٍ أخضر باهت، وتسرق عقول أمهاتهنّ، فلا يعاقبن بناتهنّ، بل يبتسمن ويقلن: "كم أنتنّ جميلات".
بحثت أم جدَّتي عن الغجريّة طويلًا، ظلّت تترقّب حضورها في كل عام، فقد قيل إنّها تمرّ في مواسم محدَّدة، ولم يأتِ الموسمُ إلى بلدتنا منذ تلك الحادثة. كانت جدَّتي قد غدت في السادسة عشرة، حين أمسكَتْ أمُّها بيدها، وأخذتها سرًّا عند غجريّة سمعتْ بوجودها في البلدة المجاورة، فقد خطبها كثيرٌ من أبناء وجهاء البلدة، وقبل أن تتمّ الخطبة، كان صوتٌ غريبٌ يصدر عن فم جدَّتي يشبه صوتَ نعجة مسنّة، فينفَضّ الخطيب، بل إنّ بعضهم أصابته الخَوْفة، ونأى بعيدًا عن البلدة، قيل إنّ منهم مَنْ غادر باتِّجاه العاصمة.
قالت الغجريّة لأم جدَّتي: "تحضرين البخور، وكرات الرّصاص، تسكبين البخور والرّصاص في وعاء نحاسي، وتضعينها على النار، فينصهر الرّصاص، وتتركين ابنتكِ تشتمّ منه قدْر استطاعتها، وأنتِ تقرأين المعوّذات، ثم تسكبين الماء فوق الوعاء، فيعود الرّصاص ليتجمّد على هيئات متنوِّعة، تأمّليها جيدًا، وحاولي فهم الأشكال التي آل إليها الرّصاص بعد ذوبانه، ستعرفين مَنْ ضرب الحسدُ قلبَه ومَنعَ الحظَّ الجميلَ عن ابنتك، ثم خذي الوعاء واسكبي ما فيه عند باب البيت".
طبَّقَت أم جدَّتي الفكرة بحذافيرها، واختارت وقت الصباح الباكر، قبل أن تستيقظ النساء لعجْن طحينهنّ وعلْف دجاجاتهنّ. وحين نظرَتْ في الأشكال، كانت الرّصاصاتُ قد تجمّدت على هيئة عيونٍ كثيرة، تشبه عيون صبايا البلدة كلهنّ.
*مقطع من قصة جديدة