نضال القاسم/ الأردن
بَدَأَت الكاتبة سامية العطعوط شوطها مع الكتابة القصصيّة منذ أواسط الثمانينات من القرن الماضي، حيث صدرت مجموعتها القصصيّة الأولى عام 1986 بعنوان "جدران تمتص الصوت"، ولقيت أصداء واسعة في حينه، ممّا شكّل لها حافزًا للاستمرار في الكتابة. أمّا مجموعتها الثانية "طقوس أنثى" فقد شكّلت نقلة نوعيّة في كتابتها، حيث زاد اهتمامها بقضايا المرأة، وغربة الإنسان في هذا العالم، وقد حازت المجموعة على المركز الأول في مسابقة الإبداع الفكري لدى الشباب العربي، وقد تابعت الكاتبة تطوير أدواتها وأساليبها في مجموعاتها القصصيّة اللاحقة من خلال مزج الأشياء والكائنات وإعادة صياغتها ضمن البيئة الموجودة فيها بعيدًا عن اللجوء إلى الترميز، بل بالاتكاء مجددًا على خشونة الواقع وتقريريّته الحياتيّة، حيث صدر لها بعد ذلك عدد من الأعمال الإبداعية منها "طربوش موزارت" و"سروال الفتنة" و"قارع الأجراس/ أنثى العنكبوت" و"بيكاسو كافيه"، وصدر لها في مجال النصوص عن أمانة عمّان الكبرى كتاب بعنوان "بوذيّا حافي القدمين" في عام 2016. أمّا في مجال الرواية فقد صدرت في عام 2013 روايتها الأولى بعنوان "عالميدان رايح جاي"، وهي أول رواية في الأردن تتناول أحداث الربيع العربي.
وتواصل العطعوط اشتغالها على نصها الابداعي بدأب وجهد عميقين، فقد صدر لها مؤخرًا مجموعة قصصيّة عن دار الأهلية للنشر والتوزيع بعنوان "كأيّ جثة مباركة"، وتُعدُّ نصوص هذا الكتاب قريبة جدًا من الأسلوب القصصي الشيق والمركب والصعب في الوقت نفسه، وتحمل عبر فضاءاتها مضامين عدة ومختلفة، تشتبك بالمحيط اليومي المعيش ولا تخلو من فلسفة الواقع المرير، ضمن أسلوب لا يخلو من السخرية اللاذعة بلغة مشعرنة وتقنية عالية في سبر أغوار النفس البشرية. وقد وصلت هذه المجموعة للقائمة الطويلة لجائزة الملتقى للقصة القصيرة العربية في دورتها الثالثة للعام 2017- 2018، دورة "إسماعيل فهد إسماعيل" والتي ينظمها الملتقى الثقافي والجامعة الأميركية في الكويت، وتتضمَّن المجموعة الواقعة في 120 صفحة من القطع المتوسط، وبغلافٍ لافت في بساطته ورهافته، 36 قصة قصيرة موزعة على أربعة محاور رئيسة هي على التوالي (كراسة الحرب وممحاة البحر وسيرة عائلة لم تعبر البحر ومدن في قعر الخوف). وعلى الرغم من تقسيم المجموعة إلى أربعة أجزاء إلا أن القارئ يلاحظ أنَّ أجواء وعوالم المجموعة متشابهة إلى حد بعيد. وتشير عناوين القصص إلى دورات الحياة المتنوعة بأفراحها وأحزانها، ومسرّاتها ومعاناتها، وتقلُّبات الحالة النفسية والاجتماعية بالإنسان السويّ، وغير السويّ، ولكنها في كل الحالات تشير إلى شخصيات متطورة ومتحولة تنتقل من حال إلى حال، ومن سلوك إلى آخر.
ويتميَّز أسلوب الكاتبة في هذه المجموعة بالسخرية اللافتة من واقع يزخر بالوقائع المؤلمة من خلال مزج الأشياء والكائنات، وإعادة صياغتها بشكل تقريري مباشر بعيدًا عن الإيحاء والترميز، فالصورة تكون لديها سريعة وخاطفة وتقدم مادتها الحكائية من خلال منظور السرد الموضوعي المحمول على الوعي الذاتي للواقع وبأسلوب تعبيري واقعي فني يمتاز بالدهشة والإثارة.
وتهتم سامية كثيرًا في هذه المجموعة تحديدًا بتسخير تقانة الوصف من أجل التعبير عن جوهر أفكارها ورؤاها السردية، وإذا ما استعرضنا قصص مجموعة "كأي جثة مباركة"، سنجد أنَّ الكاتبة تولي تقانة الوصف الأهميّة الأكبر حيث تعمل الساردة (سواءً أكان ذاتيًا أم موضوعيًّا) على تجنيد طاقاتها التعبيرية الوصفية، لوضع اللمسات التركيبية الخاصة بمنح الحدث والمكان والشخصية والأشياء الأخرى المكوّنة لعملها السردي هويته القادرة على الوصول إلى المتلقي، ومن ثم ترتيب العلاقة القرائية بينهما على نحو سليم، فهي تدرك بحسّها السردي اللافت أنّ القصة أو الرواية من دون أن تخضع لسياسة سردية وصفية واضحة تسهم في تأثيثها بالشكل المطلوب والمناسب، لا يمكنها أن تتجلّى على الصورة القادرة على تمثيل الرؤية، بحيث تكون حاملًا للحدث والشخصية والمكان والزمن بطريقة تصل إلى المتلقي بوضوح وتمظهر عاليين، على النحو الذي يتحسس فيه المتلقي الفضاء السردي بكل يسر وسهولة.
وحين نعرف بأن العطعوط تكتب الرواية أيضًا، يمكن أن ندرك قيمة الوصف أكثر في كتاباتها حيث تسعى إلى الاستفادة من الدراما في السرد والعكس أيضًا، وهو ما يجعل من تقانة الوصف قيمة تعبيرية واسعة وعميقة في أدبها السردي (القصصي والروائي) والدرامي أيضًا، بطريقة تفاعلية وتناوبية بين قوة السرد وقوة الدراما.
وإذا كانت السخرية السوداء هي السّمة الأبرز في رصد العطعوط للعديد من مظاهر الحياة عبر قصصها، فإنّ هذه السخرية لا تحيل في أي حال من الأحول إلى موقفٍ متعالٍ لمثقّف ينظر من برجه العالي إلى ضعف أمثاله من البشر وعثراتهم وأخطائهم وحماقاتهم، فهي تؤكد في أكثر من موضع أنّ ما تكتبه ينبع أساسًا من شعور عميق بالتعاطف مع البشر ومن الإشفاق عليهم غير مستثنٍية نفسَها، كما أنَّ الكثير من نصوصها، خصوصًا تلك التي ينتمي أبطالها إلى عالم الكتابة والأدب، كقصّتها "جريمة قتل" التي تختم بها هذه المجموعة، تعبّر في حقيقتها عن هواجسها الشخصيّة ككاتبة وعن شكوكها وتساؤلاتها حول معنى الأدب ووظيفته وعلاقته بالحياة.
وسيكون من السهل على قارئ "كأي جثة مباركة" أن يعثر في أغلب قصص المجموعة على بذور النزعة التجريبية لدى سامية العطعوط والتي جعلت منها واحدةً من أبرز المجدّدين في القصة المينيمالية أو القصيرة جدًّا، باعتماد الحكائية الموجزة والمقصدية الرامزة لموقف أو مشهد أو لحظة استفزازية مثيرة للجدل تمرُّ على الذاكرة فينسجها منتجها المبدع بجمل مكثفة، موجزة، مركزة على الفكرة باعتماد البناء المشهدي المتكئ على جمل قصيرة موسومة بالحركة والتوتر؛ ممّا يقرّبها من النسق الدرامي المتجسد في صراع الأفكار والانتماءات بلغة قائمة على الاستعارة والمجاز ضمن بلاغة الانزياح التي تكشف عن ذهنية المنتج ومخزونه المعرفي الذي يحقق مقولة تشيخوف: (أن تجيد الكتابة معناه أن تجيد الاختصار).
أمّا بخصوص الأقصوصات، وهي تشكل ما يقرب من ثلث قصص المجموعة، فهي أشبه بسبائك سردية متماسكة وشديدة الضغط اللغوي، لكنها في الوقت نفسه ذات فضاء دلالي واسع ومثير، وتحتاج إلى قراءة مركّزة خاصة تتلاءم مع طبيعتها واكتنازها بالمعنى والدلالة والقيمة والثقافة والرؤية، وهو ما يضفي عليها خصوصية جديدة يجعل متلقيها قادرًا على التفاعل معها بسهولة وإثارة وتحريض على فكّ شفراتها وإدراك معانيها التي لا تتوقف عند حدّ معيّن، باعتبار أنها تقدّم معنى مباشرًا وآخر عميقًا مصاحبًا له.
لذا، فإنَّ العطعوط تستخدم تركيزًا وصفيًا عاليًا يخلو غالبًا من التفاصيل والاستطالات والتوسّع في تشخيص العناصر وإلقاء الضوء الوصفي الكافي عليها، وتستعمل تقانة الوصف بصورة تكثيفية واختزالية وتلميحية وسيميائية داخل موقع لغوي شديد الاختصار والتمركز، بهدف تحقيق الإشارة أو العلامة الوصفية المطلوبة بأقل جهد لغوي، يدفع المتلقي نحو قراءة سريعة تصل إلى اكتشاف رؤية سريعة تناسب الحال الاجتماعية والثقافية التي يحياها، وتستجيب لرؤية العصر وتقاليده ونواميسه.
إنَّ العلاقة بين الأقصوصة وتقانة الوصف في مجال النظر إلى الحدث عند القاصة سامية هي علاقة وطيدة جدًا لا يمكن التهاون في قياس قيمتها السردية، فهي تركز على حضور الحدث في أقصوصاتها، في مساحة سردية أكبر من عناصر القص الأخرى، كالمكان والزمن والشخصية والأشياء وغيرها، لأنَّ الحيز السردي الضيق الذي تشغله القصة عمومًا هو حيّز محدود لا يسمح بعمل وفاعلية الكثير من العناصر القصصية كما هي الحال في القصة القصيرة.
هذه المواصفات كلّها، المرتبطة بوسائل التعبير ضمن الشكل السردي المحدد هنا بالقصة القصيرة جدًا، لا يكون لها معنى دون أن تحقق وظيفتها في ميدان القراءة والتلقي، فهي تطمح إلى تأليف قصة ذات موقف تصل بسرعة البرق إلى المتلقي، وتجيب عن الكثير من أسئلته في الحياة والوجود والتفاصيل الإجرائية الصغيرة التي هي عماد الحياة لدى الكثير من البشر أبناء هذا العصر، حيث السرد تفكيك للتقليد الأدبي، وخلطٌ للأجناس يستعصي معه النصّ المفتوح الذي يجمع التأمل الفكري والأسطورة والنكتة البلاغية وقصيدة النثر على أيّ محاولة للتصنيف.
أمّا العتبات النصيّة في هذه المجموعة القصصية فهي تنطوي على أهمية نقدية لا تقلّ شأنًا عن قيمة المتن القصصيّ، ويمكن معاينتها بوصفها متنًا موازيًا للمتن القصصيّ إذا أخذنا بنظر الاعتبار عنوانات قصص المجموعة وأخضعناها للتحليل العتباتيّ، وبصفتها تمثّل عتبة العنونة الصغرى قياسًا بعنوان المجموعة "كأي جثة مباركة" الذي يمثّل عتبة العنونة الكبرى، على نحو يجعل من العتبات القصصية هنا مناسبة مهمّة للمقاربة النقدية.
وقد تميّزت القصص جميعها بلغة يمكن وصفها بـالسلسة؛ فلقد خَلَت من زوائد الثرثرة الكتابية، والاستطرادات غير المنضبطة، والجُمَل المنزلقة خارج الوعي الكتابي ومقتضياته، كما أسْلَسَت القاصّة للقارئ متابعته لنصوصها عبر سلامة اللغة وخلوها النادر من أيّ عيب عادةً ما يقع فيه كثير من الكتّاب!
والحقيقة أنَّ الحديث عن قصص المجموعة مغرٍ و"مستفزّ" يجعل المرء يستعيد بالفعل قراءتها مرة ثانية، فقصة مثل "عائدٌ من الجبهة" وما تبعثه في النفس من شاعرية رغم ألم الفقد الموجود فيها واختزالها للحالة كلها في صفحتين حسب، يشعر الواحد بالغبطة والإعجاب فعلًا من هذه القدرة. وهكذا تتفوق صيغة التمثيلات المشهدية القائمة على عنصر الصدمة على أي صيغة خطابية أخرى، باستثناء التكرار المعجمي لمفردات الجثث والدم والأشلاء، والمدينة التي تتأسس على صورة مغبرة، خاوية، هذه المعجمية التي تطابقت مع الفضاء العام والتي اكتملت مع القصص القصيرة جدًا: "مطلوب جثة" (1) و(2).
ربَّما يكون أبرز ما في كتابة "سامية" أيضًا قدرتها العالية على "تكثيف" المشهد القصصي، وهي مهارة قل أن نجدها في الكتاب المعاصرين، فكثير منهم يستهويهم السرد، فيغوصون في تفاصيل عديدة قد تشتت القارئ عن القصة أصلًا، وقد تكون -في حالات نادرة- مفيدة وفارقة! يمكننا أن نلحظ ذلك ببساطة في قصة قصيرة مثل "تخمة الحرية" والتي قد لا يتخيّل أحد أن تقوم عليها "قصة قصيرة" استطاعت العطعوط أن تقدم لنا واحدة من أجمل قصص المجموعة حيث تقول: (في المرة الثالثة التي حاول فيها عبور البحر الكبير إلى الجهة الأخرى، كان سعيدًا جدًا لأن جثته استطاعت الوصول إلى شواطىء البلاد الجميلة، حيث يعيش الناس تخمة الحرية).. مشهد لا يتعدى الدقائق، ولكن "سامية" تثبت "الكاميرا" عليه وترصد تفاصيله بدقة في فقرة واحدة!
حتى في القصص الأطول نسبيًّا مثل "خمسُ نساء وسبعون رجلًا وطفلًا" لا تسترسل سامية في وصف المشهد وتفاصيله، وكأنها تعلم أنَّ لدى القارئ تصوُّرًا عامًا بعد أن تعرّف على فكرة النص، فإذا بها تنقل إليه المشهد بشكل آخر، باحتراف شديد ودون استرسال أو إطالة لا طائل منها، على الرغم من أنَّ القصة في حد ذاتها حوت عددًا من الأبطال "الأطفال الذين ارتفعت أصواتهم بالبكاء" و"الفتاة السوداء التي لم تتعدَّ الثانية عشرة من العمر" و"الامرأتين الإفريقيتين".
إنَّ شخوص العطعوط، كونها شخوصًا مقهورة، هي شخوص ترفض في الوقت نفسه هذا القهر، وتمشي في المواجهة حتى نهاياتها الممكنة، شخوص متباعدة في تاريخها وواقعها ودوافعها وموروثها، مأخوذة أحيانًا من الخيال، وأغلب الأحيان من الحارات الشعبية والأزقة والمدن الهامشية. شخوص نائية عن عالمها مبعدة أو مبتعدة يدبّ التعب في أقدامها وظهورها، تضطرم أرواحها بالرغبات والأحلام.
وتبرم الكاتبة بين عدة حكايات تجعلها متتابعة في قصص تبدو وكأنَّها قصة طويلة واحدة، ويعطي هذا التقارب السردي للمجموعة نوعًا من الروائيّة المتقطعة لحياة موازية تعيشها الكاتبة من خلال عوالم عديدة تنسجها عبْر بطلات وأبطال قصصها، خالصةً إلى ما يشبه شخصيات متناهية الدقة من حيث الولوج إلى العالم النفسي لها، وعبر دفاع ضمني عن الشخصيات المكتوبة والمنتهية إلى مصائر مشتركة من الإذعان للواقع والامتثال لأحكامه الغيبيّة والعبثية في آن معًا.
وتحيل العطعوط رؤيتها الأدبية إلى ما يشبه متواليات قصصية مطولة راويةً إياها بضمير المتكلم ما يمهد لتناغم قرائي بينها وبين القارئ، ففي قصة "الخطُ الفاصل" التي تفتتح بها مجموعتها القصصية تؤرشف الكاتبة لما يشبه حيوات موازية لحياة حقيقيّة قوامها الحلم والرغبة في البوح المحض عن مذكرات منزليّة تقترب في بوحها من مرارة وسخرية عالية من واقع يزخر بالوقائع المؤلمة. ويتكرّر شكل المتواليات القصصية كذلك في قصص المجموعة، فقد تم تقسيم قصة "مطلوب جثة" إلى قسمين هما "مطلوب جثة"(1)، "مطلوب جثة"(2)، أمّا قصة "مهاجرون"، فقد تمَّ تقسيمها إلى خمس قصص قصيرة، وكذلك هي الحال في قصة "السكين ذات المقبض الأسود" التي تمّ تقسيمها إلى أربع قصص قصيرة.
وتلجأ العطعوط في قصصها إلى أسلوب القص ذي الحبكة الدرامية النمطية ووفق تقطيع زمني متصاعد للتعبير عن شفافية الزمن ودوره في فعل السرد، مستفيدةً من مونتاج أدبي لحكاياتها عبر توظيف أكبر طاقة ممكنة من الوصف والتعبيرية عن الأماكن والأشخاص والأزمنة، كما في قصصها "العربة الخشبية ذات المقبضين" و"أجمل لوحاتي"، متبعةً في ذلك لغة هينة وبسيطة للدلالة على مناخات سردية تحيل القارئ إلى بيئة العمل القصصي كوحدة مقطعية مغلقة على أحداثها ومنتهية كمصائر يكون فيها الواقع كاتبًا بامتياز. ففي قصة "العربة الخشبية ذات المقبضين" ثمة قدر من المفارقة الشديدة الإعداد الفني، ولا سيما عند تتبُّع الرجل، الذي يعمل في نقل الجثث من المعركة على عربة، وبالتحديد الجثث المكتملة، ومن ثم يعود كل ليلة إلى بيته ليبدأ عملًا آخر يحبه، بحيث ينظِّف عربته من الدم، ويعطِّرها كي ينزِّه ابنه المقعد عماد وشقيقته لميس، ولكنه يعود -في يوم ما- كي ينقل جثتيهما الصغيرتين.
أمّا قصة "ذاكرة حرب"، فهي تنشغل بتجسيد هذا الواقع المريض، الذي أنتج هذا القدر من المفاهيم المختلطة لمعنى الحياة والموت، كما المفهوم القلق لمعنى الوطن، حيث يعبِّر الطفل عن ذلك بلغة مجازيّة مشهديّة تناقش هذا المفهوم بوصفه معنى غير مدرك، فالوطن ليس مصالح ضيّقة أو أيديولوجيّات واهمة. الوطن الذي تحوّل إلى خيم اللجوء التي أمست قدرًا لواقع الإنسان العربي، فلا جرم أن تحتمل القصة نقدًا للتيارات الدينيّة المنتجة للإرهاب، بما في ذلك مفردات جهاد النكاح، وأطفال السفاح، وغير ذلك من تشوُّهات الحرب، التي أفرزت جنونًا لا تطيقه اللغة.
في الجزء الثاني من القصص نقرأ "ممحاة البحر"، إذ تبقى المجموعة في مناخها اللغوي الكئيب، ولكنها تتجه إلى التركيز على اللجوء وفعل العبور، بالاتكاء على مرجعية دينية بمعنى العبور بوصفه ملجأ أو مخلصًا، ولكن العبور لا يكتمل، إنه عبور يعاني من الإجهاض كما كافة التشوهات التي تطال نفوس المرتحلين واللاجئين، الذين يعبرون البحر، بحيث يتحول إلى كائن. هذا البحر الذي قضم آلاف الجثث، وهي ترتحل هربًا من الموت المؤكد إلى الموت المحتمل، وهنا يكمن الفرق، فعلى الرغم من أنّ الموت قائم بينهما، بيد أنّ الجثث تذهب بحثًا عن قدر الحرية والوصول له، على شكل جثة كما في قصة "تخمة الحرية"، وهكذا تتعالى صيغ هجاء الواقع العربي الذي لا يعترف إلا بالقمع، وإفناء الحيوات من أجل السلطة.
تتقدَّم المجموعة القصصية في هذا المستوى الثيمي لتطال قضايا زمننا العربي بكافة تعقيداته عبر بنى قصصيّة متقنة، وضمن آلية تقشف واضح، عبر التخفف من كافة الزيادات والحشو على مستوى الحدث والتوصيف، فهي تلجأ إلى موجات من الخطاب أشبه بهزات دلالية نصطدم بها، أو يصطدم بها المتلقي، وبالتحديد نهايات القصص التي تعيد برمجة الفعل التأويلي لحركة الحدث الذي يبدأ، ومن ثم يتصاعد كي ينتهي بصدمة الفناء.
في الجزء الثالث من المجموعة نقرأ قصة "عائلة لم تعبر البحر"، لتعيد صوغ الجنون الذي يتملكنا في أوطاننا، حيث نعيش جزءًا من شتاتنا الداخلي، وتشظينا حتى نتحوَّل إلى كائنات بأذناب، أو مسوخ، تعاني من قهر تراتبيّة المجتمع، ممثلة بسلطة الدولة، والأب، والمجموعة الدينية والطائفية. هي تراتبيّة لامتناهية، فلا جرم أن تتحوّل مجتمعاتنا إلى كائن مريض على مستوى جمعي.
وهكذا، تستمرّ القصص في هذه الأجواء المشحونة، كما في الجزء الرابع بعنوان "مدن في قعر الخوف". تلك المدن التي تبتلع إنسانيتنا، وتنهي وجودنا الإنساني ماديًا ومعنويًا، فالمدن العربية مهما اختلفت فإنها لا تكشف إلا عن وجه بشع، فالكل يتبنى ثقافة مصادرة حق الآخر في الحياة، كما في قصة "السكين ذات المقبض الأسود" حيث السلطة تصادر حق امرأة بالبيع على بسطة صغيرة، وغير ذلك من القصص التي تعبر عن مسالك مدن عربية مشوهة، أنتجتها مجتمعات الحداثة المجهضة والنخب الوطنية، وبهذا فإنَّ القصص تحتمل قدرًا من الأنساق التي تكشف عن بيان لمسوغات النتائج القائمة على تصدُّر الموت والجثث للمكوّن الوجودي العربي، ولهذا يمكن القول إنَّ هذه المجموعة تقدِّم مقاربة شديدة الصدق والعمق في توصيف جانب من جوانب الأزمات العربيّة الناتجة عن تبنّي ثقافة الموت.
بقي أن أقول إنَّ هذه المجموعة القصصيّة تشكِّل تطوُّرًا نوعيًّا في مسيرة الكاتبة، وقد اشتملت على الكثير من العناصر الإبداعيّة على الرغم من مواطن الإخفاق في بعضها، وتلك مسألة طبيعيّة في سعي الإنسان الدائم لبلوغ مرحلة النّضج الفنّي الكامل.