عبد الرؤوف شمعون/ الأردن
"حازم نمراوي" وفي سعيه للكشف عن ملامحه الفنيّة؛ الملامح التي تتقاطع بيسر مع الخصوصيّة، بدا وكأنه يرفض الخضوع أمام سطوة فيزياء المرئي أو الظاهرة البصريّة، ليزداد انفتاحًا على عالم المتخيَّل بحيث تتَّسع مساحة الأشكال غير المحدودة... ذلك لأنه يقدِّم النّزعة اللونيّة على ما عداها من مثيرات، هذه النّزعة التي تُخضع الشكل إلى نص بصري قابل للتشكيل بحريّة مطلقة. وحدها الألوان إذن ووفق إيقاعات تمارس حيويّتها على سطح العمل الفنّي، فتصبح بديلًا أخّاذًا عن بقيّة عناصر العمل، يحدث هذا بصورة تلقائيّة.
أرى أنَّ في هذا انقلاب للمعادلة التي كانت تقدِّم الشَّكل الباحث عن لونِه ليصير اللَّون الباحث عن شكلِه.
أعتقدُ أنَّ الصياغة الجماليّة وما تقدِّمه ألوان "حازم" من تفاعلات قد لا تصل إلى سكون نهائي، أو بمعنى آخر؛ لعلّه من المبكر الإفصاح عن تكوين محدَّد. فهل اللون دعوة للمغامرة!؟ وهل غياب التكوين الذي يتخطّى المكان والزمان على السطح يتفرَّد بأدائيّة تستجيب للمغامرة!؟ على الأقل لِما بداخلها من جملة أحاسيس مغرية للإبداع ومحفِّزة له.
من جملة ما يستوقفني في أعمال "حازم" تلك اللحظة القيِّمة والبالغة الدقة الباحثة عن جوهر كامن أو عن روح غامضة لا تكشف عن سرِّ تواجُدها في عمق العمل. لعلّها حالة مفتوحة لعمليّة المشاهدة البصريّة أو هي لحظة التحوُّل العابر من وجود غير متشكّل إلى وجود آخر خارج نطاق أو مدلول أيّ ظاهرة مرئيّة، مع ملاحظة سعيه لإحداث التشكُّل و يتقصُّده.
ببساطة متناهية وبشيء من الحركة الرقيقة نكاد نمسك بثنائيّة الأرض والسماء، لكن الأرض غير الأرض والسماء لا تشبه السماء، لنقل عن محاولة تكاد تبدو مؤكّدة من حوار درامي اللّون بين الأعلى والأدنى، بين الأفقي والعمودي، ويأخذ هذا الحوار أفقًا مكتظًّا من الحركة الاندفاعيّة وما تثيره من إيقاعات تصادميّة كموسيقى أمواج مندفعة متلاطمة ومتناثرة ناحية الأعلى وناحية الأسفل. إنّ مثل هذه الحركات اللونيّة ذات التقنية الحُرّة تولّد حياة فنية على السطح لا شك نشهد رونقها وتفاعلاتها الداخليّة في أغلب أعمال الفنان "حازم نمراوي"... وإنْ حدث ذلك التباين الطبيعي في درجة اللّون أو في قيمته أو اتجاه حركته، كل هذا يقدِّم دلالة حسيّة جماليّة على تدفُّق اللّون وتواصل تدفُّقه لفكّ ما ذكرته سابقًا من غموض غائب بغياب الشكل.
بلوحاته المتصلة ببعضها أسلوبيًّا، وكأنَّها أجزاء من لوحة جداريّة كبيرة، يعلن الفنان -وبهذه الطريقة- قدرة اللاوعي لإبداع حريّة مفتوحة، لعلّي أشيرُ هنا إلى الحساسيّة الواضحة والمتَّجهة تلقائيًّا لإحداث أنساق لونيّة معتمدة على ما تبثه من قيم ضوئيّة في اللّون وانعكاس الدرجات الأعلى للألوان كطاقة حيويّة متجدِّدة الحرارة.
إنها لحظة أخرى تدعو إلى تكثيف الطاقة اللونيّة وبثّها في اتِّجاهات مختلفة.
هكذا إذن بين التأمل والحدس، بين المرئي والمتخيَّل، نقاط التقاء وافتراق، إلا أنَّ توافقهما معًا إلى حدّ كبير هو ما يميّز تجربة الفنان للوصول إلى مستوى عالٍ من حوار الرُّؤية. نجده وعبْر الملاحظة والحدس قد توصَّل إلى صياغة تجريد بصري يعتمد ديناميكيّة عنصر الحركة في مثل هذه الصياغة القابلة للتجدُّد والقابلة للتنوُّع وقد تجاوَزَت فكرة التخطيط المسبق أو فكرة الانطلاق من تصميم مسبق كشرط مبدئيّ.
المثير عند "حازم" أنه يأخذ الأنماط المألوفة في الفن الحديث مأخذ الجدّ، وما رغبته في التفرُّد إلّا سبب معقول لتفاديه المنهجيّة المتّبعة في الرسم، هذه المنهجيّة التي غالبًا تتضمَّن طقوسًا تقنيّة واختبارات متعدّدة المواد. لقد وجد في غنائيّة اللّون إيجازًا كافيًا لتحقيق نتائج تشكيليّة تخرجه من نظريّة التلقّي والتأقلم مع المرجعيّات.
على أيّ حال تلك ذاتيّة أيّ مبدع، مثل هذه الذاتيّة ليست معلَنَة أو يمكن إشهارها أو الاعتراف بها بسهولة، حيث من ضمنها الانتشاء والمراوغة والأسلوبيّة بين الحين والآخر أو بين مرحلة وأخرى،هذه المراوغة تحكمها الضرورة حين تمرّ في حالات تنوَّع باستبدال اللاوعي بالوعي أو إحلال المرئي بديلًا للمتخيَّل... من هذا البُعد المُربك إلى حدٍّ ما، أرى أنَّ تجربة الفنان "النمراوي" لن تكون محصورة داخل نسق تشكيلي واحد، فبحكم تجربته وزمنها نراه ينتقل في موضوعاته ذات الميزة الطبيعيّة و تجلّيات الطبيعة في أعمال (land scape) والتي تمتلك خصائص حسيّة من شأنها أنْ تولِّد الدافع لإحداث التحوُّل في المشهد من طبيعة مرئيّة إلى أخرى متخيَّلة، فيتنامى الأداء الحركي لونًا ليقترب من التَّجريد ومن الشَّكل المتحرِّر من شكل سابق له.
من هنا، أعتقد أنَّ ما يعبّر بعنصر الحركة كأساس لأي تحوّل هو مبدأ صحيح وثابت، وبالتالي يمنح الفنّان حريّة الاختبارات، وبعد هذا أو ذاك، الفرصة الثمينة لحلول تشكيليّة تأخذ العمل الفني لتلك المسافة التي تبتعد كثيرًا عن بداياته.
هو مجرَّد تصوُّر لافت في أعمال "حازم نمراوي" خاصة في تتبُّع حلول الحركة الإيقاعيّة للألوان من أعلى إلى أسفل وعلى الجانبين، إيقاعات موزَّعة بين الحرارة والبرودة، وبين الحدَّة والهدوء، فتلتقي مع هاجس التَّعبير الانفعالي والمتوتِّر أو مع دواعٍ جماليّة يسعى إليها اللّون بعلاقاته المتضادة... وسواء توفّر هذا البُعد أو ذاك، ففي تقديري لعبا دورًا مهمًّا في تشكيل الخصوصيّة الفنيّة المطلوبة لهذه التجربة الطَّموحة.