إبراهيم السعافين
ناقد وأكاديمي أردني
isaafin@yahoo.com
ثَمَّةَ علاقة جدليّة بين الثّقافة والحوار؛ فالحوار عنصر أساسيّ من عناصر الثّقافة، يشير إلى حقيقتها، ويدلّ على حضورها. فإذا كانت الثقافة منظومة من المعارف والقيم والمعايير التي تميّز أمّةً ما أو حضارة ما، وتعتني بالتّفاعل مع الثقافات الأخرى من خلال المثاقفة والتأثّر والتأثير من خلال المشترك الإنساني، بما يضمن الانسجام والتّماسك والنّزاهة على ضوء قيم الحريّة والعدالة والتّسامح وتعظيم الجوامع الحضارية والإنسانيّة المشتركة، بعيدًا عن التقوقع والانعزال والعنصريّة والتمييز والإقصاء والتّهميش، فإنّ الحوار مظهرٌ من مظاهر السّلوك والفهم والوعي الذي يميّز المثقّف الّذي يعيش مفهوم الثقافة ومغزاها في النّظر والسّلوك.
ويخطئ مَن يظنّ أنّ الثقافة هي حصيلة معارف مكدّسة أو خبرات متراكمة أو معلومات يجمعها، وأخْذٌ من كلّ علمٍ بطرف، بل هي أبعد من ذلك بكثير؛ لأنّ المعرفة وحدها لا تبني ثقافة ولا تصنع مثقّفًا. إنّ الثقافة هي انعكاس كلّ المعارف والخبرات والمعلومات والعلاقات الإنسانيّة في السّلوك، وهي الخبرة المربِّية التي تتجسّد في الأقوال والأفعال، وتدلّ على الشخصيّة التي تتّسم بالنزاهة والاستقامة والتكامل والتّماسك والانسجام؛ فليس من الممكن أن نرى المثقف يجتزئ أو يعمّم أو يتناقض أو يشيع في خطابه الكراهية والتحيّز والتمييز، وأنْ يصدر عن عصبيّة أو انفعال.
وتتبدّى مظاهر الثقافة كلّها أو معظمها في الحوار الذي يكشف بعمق عن مستوى الشخصيّة وجدارتها ومكانتها وقدرتها على كشف ما لديها من قوّة المعرفة واستقامة السّلوك. ومن سمات الحوار الجيّد أو المحاور الحصيف الابتعاد عن الشّعور أنّ المُحاوَر يمتلك الحقيقة أو حيازة المعرفة الكليّة، وأنّ الّذي يحاوره أدنى منه مرتبة أو أقلّ معرفة أو أقلّ شأنًا، وأنّه في هذا الحوار يملي ويعلّم ويفهّم ويوصل رسالة هو مرسلها الوحيد وما سواه ليسوا سوى متلقّين سالبين.
ولعلّ الأخطر أنْ يقفَ مِن الذي يحاوره موقف النقيّ العفيف الناجي الوحيد وسواه الخاطئ الآثم الجاهل الذي لا يفقه شيئًا من أمر الحياة والطبيعة والوجود، وأنّه من هذا المنطلق لا ينتظر من الشّخص المقابل إلا الإذعان أو الطّرد من رحمة الله، لأنّه هو الذي يمتلك الحقيقة كلّها ولا حقيقة سواها. وأنّه، وهو الكلّي المعرفة، لا يقبل رأيًا آخر، ولا وجهًا آخر، فلا تفسير ولا تحليل ولا تأويل، وإنْ كان في المسائل من تأويل فلا تقبل إلّا تأويله هو. ولعلّ هذا ما نراه في معظم البرامج والندوات الحواريّة التي تخلو من ثقافة الحوار، إنْ لمْ تخلُ، بالمرّة من أدب الحوار. فالمتحاوران لا يتحوَّلان عن موقفيهما قِيد أنملة. كلٌّ منهما مدجّج بأسئلته ولإيديولوجيّته وفكرته إنْ كان يصدر عن فكرٍ أو إيديولوجيا، وينتهي الحوار أو الكلام وكلا المتحاورين أشدّ تمسكًا برأيه وموقفه، بل أكثر تصلّبًا وكراهيةً وانفعالًا ما يفقد الحوار جدارته، وقد بدا هذا الحوار خبطً عشواء في صحراء.
إنّ حوار المثقفين هو حوار العارفين المتواضعين الّذين يدركون أنّ للعلم سقفًا لا يصل إليه أحدٌ مهما يطلْ عمره وتتراكم خبرته ومعرفته، وفوق كلّ ذي علمٍ عليم. وعلى هذا النّحو نتوقّع من حوار المثقفين أن ينحو نحو التّقارب بأنْ يضيفَ أحد المتحاورين إلى معرفة الآخر، وأنْ يتقاربا لأنَّ المثقف لا يقبل أنْ يظلّ مُصرًّا على موقفه وإنْ بدا له الحق في ما يقول الآخر، بل يشكره على أنْ بيَّنَ له ما كان خافيًا عليه أو متواريًا لم يستطع الوصول إليه.
إنّ أرحام العلم ووشائج المعرفة وصلات الثّقافة تقرّب بين المتحاورين وتلقي في نفوسهم وقلوبهم وعقولهم المحبّة، وتمنحهم من صفاء الفكر ومن عمق الثقافة ما يقرّب ويحبّب ويجمع، لا ما يبعث على الكراهية والقطيعة والذم فضلًا عن المكابرة والتكبُّر والتحيُّز والتعصُّب الذّميم. وليس من شكّ في أنّ الحوار سلوك ديموقراطيٌّ أصيل يكشف حقيقة الشخصيّة وجوهر التفكير.