د. إدريس حالام
باحث في الأدب العربي المعاصر- المغرب
drishalam1@gmail.com
يُجمع نقّاد الهايكو أنّه يتّسم بسهولة اشتراطاته البنيويّة التي تتلخّص في كون شروط كتابته لا تتّسم بالعسر والتّعقيد، بل تتكوّن بنيته من جملة شعريّة تتوزَّع على ثلاثة أسطر ذات تشكيل موجز باقتصاده اللّغوي وتحرّره من ملحقات التّزيين، لكنّها ذات طاقة مكثّفة قادرة على إطلاق دلالات عدّة يتيحها تعدّد القراءات.
في السّنوات الأخيرة ومع تسارع حركة التّرجمة من جميع اللّغات ظهرت أشكال أدبيّة جديدة استأثرت باهتمام بالغ في وطننا العربي، من بين هذه الأشكال ما أصبح يعرف في الأوساط الثّقافية بقصيدة الهايكو Haïku اليابانيّة.
والهايكو الياباني haïku هو عبارة عن قصيدة ببيت واحد يتألّف من ثلاثة أسطر تتشكّل في مجموعها من سبعة عشر مقطعًا صوتيًّا، يميل إلى تصوير المرئي وإشراك القارئ -الغائب لحظة الكتابة- في تصوّر الأشياء كما لو كانت حاضرة ضمن مجال رؤيته، ويبلغ الهايكو مبلغًا أرقى حين يستطيع الإيحاء بما ليس حاضرًا، وإثارة الخيال لاستحضار الأشياء الغائبة، كما لو كانت ماثلة للعيان في بوتقة اللحظة الخالدة المتوتّرة.
ومن أبرز روّاد هذا اللون الأدبي الشّاعر "ماتسو مونفوزا" الملقّب بـ "باشو" Basho (1644-1694)، الذي يُعتبر بشكل عامّ الممثل الأكثر أصالة للعبقريّة الشّعرية اليابانيّة، و"بوزون" Buson (1715-1783)، الذي كان رسّامًا أيضًا، وقد غادر قريته منذ طفولته إلى إدو، حيث تتلمذ على يديّ "هايانو هاغين" تلميذ "باشو"، وشاعر الهايكو الشّهير، ولمّا مات معلّمه عام 1742، غادر العاصمة ليعيش حياة التشرُّد والبؤس، ويطوف المقاطعات الشّمالية على خطى "باشو"، وهناك شعراء هايكو آخرون لا يقلّون شهرة عن سابقيهم كـ"سبانو" و"كييكاكو".
والهايكو شكلٌ شعري ياباني تعود أصوله إلى القرن الثّالث عشر، حيث كان يسمّى "هُوكُو" ويستخدم كافتتاحية لقصيدة مطوّلة، وفي أواخر القرن التّاسع عشر أطلق الشّاعر ماساوكا شيكي (1867- 1902) اسم هايكو على نصوص الهوكو المستقلة، وتتألّف قصيدة الهايكو كما أشرنا سابقًا من ثلاثة أسطر تحتوي على صورتين أو فكرتين متجاورتين، تضاف إليهما كلمةٌ أو عبارةٌ قصيرةٌ تحدّد لحظة الانفصال بينهما، وفي الوقت نفسه تشير إلى العلاقة التي تربطهما، أمّا عروضيًّا فإنّها تتألّف من سبعةَ عشرَ مقطعًا تتوزّع بين السّطور الثّلاثة: فالسطر الأوّل يتألّف من خمسة مقاطع، والثّاني من سبعة، والثّالث من خمسة. ومن خصائص الهايكو الكلاسيكية أنّها تتحدّث عن الطبيعة، وتحتوي عادة على كلمةٍ أو عبارةٍ تشير إلى أحد الفصول، وكمثال على ذلك ما ذكره الشّاعر "ياما غوتشي سيشي" (1901- 1994) في وصف فصل الرّبيع؛ يقول:
"أَعْشَابُ الرَّبِيعِ/ عَجَلاتُ القَاطِرَةِ/ تَتَوَقَّفُ".
أمّا الشّاعر الياباني "كاتو شوسَن" (1905- 1993)، فيشير إلى الخريف في واحد من نصوصه بالقول:
"الأَوْرَاقَ تَتَسَاقَطُ/ بِلَا انْقِطَاع/ لَكِنْ لِمَاذَا بِهَذِهِ السُّرْعَةِ؟".
فشعر الهايكو إذن يحاول فيه الشّاعر من خلال ألفاظ بسيطة التّعبير عن مشاعر جيّاشة وأحاسيس عميقة متفاعلة مع الطّقس الخارجي أو الفصول الأربعة.
وبالنّظر إلى إحدى قصائد الهايكو التّأسيسية، تتجلّى هذه السّمات بوضوح، يقول "باشو" شاعر الهايكو الياباني الأكبر:
"صَفْصَاف أخضر/ تتقاطر أغصانه على الطمي/ أثناء الجَزْر".
وفي هايكو آخر للشّاعر ذاته ملامح أكثر وضوحًا من التّفاعل مع الطبيعة، وتحقّق حركيّة النّص الخاطف صوتًا وصورة، بطفوليّة وتلقائيّة:
"تَشْدُو/ القُبَّرَةُ طوَالَ النَّهَارِ/ والنَّهّارُ لَيْسَ بِالطُّولِ الكَافِي".
فشعر الهايكو إذن -وبحسب الشّاعر والناقد محمود الرّجبي- هو شعر وصف في الأساس، يعتمد على قدرة عينيك على إرسال الإشارة إلى عقلك أو قلبك، بحسب حالتك النّفسية وثقافتك المتراكمة، وبحسب زاوية الرُّؤية الدّاخلية والخارجية التي تقف عندها وتنظر من خلالها إلى ما يحدث لحظة رؤيتك لمشهد ما أو حتّى تخيّله، فيقوم العقل أو القلب -دون تدخّل منك- بإعادة النّظر مرّة أخرى وتحليل الرّموز والإشارات التي وردت من البصر في حالة الرؤية المباشرة، أو من البصيرة في حالة التّخيل، وبطريقة سريعة ومعقّدة يتمّ ميلاد (رؤيا) خاصّة بك، قد تقتلها لغتك فورًا، أو قد تحييها إلى الأبد، لذلك أرى أنّ الهايكو فنّ لغوي بامتياز، يسبح ويعوم ويغطس كما يشاء في بحر اللّغة، فإذا كانت اللّغة هي جسد الهايكو، فإنّ الوصف عيناه ويداه.
ويكاد يجمع نقّاد الهايكو أنّه يتّسم بسهولة اشتراطاته البنيوية التي تتلخّص في كون شروط كتابته لا تتّسم بالعسر والتّعقيد، بل تتكوّن بنيته من جملة شعرية تتوزّع على ثلاثة أسطر ذات تشكيل موجز باقتصاده اللّغوي وتحرّره من ملحقات التّزيين، لكنّها ذات طاقة مكثّفة قادرة على إطلاق دلالات عدّة يتيحها تعدّد القراءات وتباينها، وقد تقوم لغته على المقابلة والتّوازي والمفارقات لدى مقاربتها نقديًّا، وعلى اكتنازها لحظة جمالية يشتبك فيها السّاكن بالمتحرك وهما يلامسان فاعليّة المادّة وحيويّتها من خلال ملامسة الوعي الإنساني لها، وقدرتها على البثّ الدّلالي حال تشكيل العلامة، فالعلامة تتكوّن من عنصرين، مادّي مقروء أو منطوق مسموع، ومكوّن ذهني يعمل بتنبيه من الدّال على تشكيل العلامة، فالهايكو مشهد يبدو ساكنًا، لكنّه يختزن طاقة حركيّة تكمن شعريّتها في هذا اللّبس الكامن بين الصّمت الظّاهر والحركيّة المضمرة، بين التّعبير المقتصد لغويّا والدّلالة المطلقة ذهنيًّا.
إنّ الهايكو كما ذكَرَت الشّاعرة بشرى البستاني في كتابها "الهايكو العربي بين البنية والرُّؤى" هو لحظة جماليّة لا زمنيّة في قصيدة مصغّرة موجزة ومكثّفة، تحفّز المخيّلة على البحث عن دلالاتها، وتعبِّر عن المألوف بشكل غير مألوف، عبر التقاط مشهد حسّي طبيعي أو إنساني ينطلق عن حدس ورؤيا مفتوحة تتّسع لمخاطبة الإنسان في كلّ مكان، من خلال ومضة تأمليّة صوفيّة هاربة من عالم مادّي ثقيل محدود ضاق بأهله، بسبب هيمنة حضارة مادّية استغلت الإنسان وداست على كرامة روحه وحرمته الأمن والسّلام، ممّا جذب انتباه الشّباب الواعي ولفت المبدعين إلى أهميّة البحث عن السّلام الدّاخلي المفقود، من خلال الاقتراب من الرّوح وغوص عوالمها بحثًا عن صفاء فضاءاتها وسموّ هدوئها وتجلّياتها، بعيدًا عن توحُّش العصر وتغوُّل احتكاراته وجشعه اللامتناهي في التّعامل مع رغبات النّفس وشهوات الجسد.
وبالنّظر إلى الهايكو العربي -بحسب ما ذكره الشّاعر والناقد شريف الشافعي- يمكن تعيين مسارات عدّة سلكتها المحاولات العربية للتّفاعل مع هذا الفنّ -الذي وصل إلى العالم العربي من خلال اللغات الأوروبية أولًا، قبل أن يصل من خلال ترجمات مباشرة عن اللغة اليابانيّة- وروّجت لها وسائل الإعلام على نطاق واسع، في صفحات يتابعها الآلاف، على الرغم من أنّ ذلك المنتج يبقى خارج حركة الشّعر العربي المتنامية، فضلًا عن بعده عن جوهر الهايكو "الأصلي" وفلسفته الإنسانيّة العميقة. ويتمثّل المسار الأوّل بقصائد الهايكو المطبوعة ورقيًّا في دواوين أو مجلات، مثل ديوان "جنازات الدّمى: قصائد هايكو"، للشّاعر اللبناني ربيع الأتات. ولعلّ هذا المسار هو الأكثر جدّية في تمثّله لمعطيات وعلامات الهايكو الوافد:
"أمرُّ بالنّهرِ الذي جفّ/ فأتعثّرُ/ بأحجارِ طفولتي".
على أنّ طزاجة النصّ تبدو عادة مغلّفة بيد الذّكاء الشّعري أو ما يمكن ردّه إلى الاصطناع بالمعنى الجمالي:
"أقفلُ النَّافذة/ أغلقُ عينيّ/ كلّ الرّياح لا تزال في رأسي".
القصيدة في مثل هذا النّسق تبقى أحيانًا رهن التّفكير، حيث إنّ صورة الهايكو ذاتها مرسومة نظريًّا لدى الشّاعر أكثر منها معيشة:
"عند برج إيفل/ بائع أسمر لقبعات/ كتب عليها أحبّ نيويورك".
أمّا المسار الثّاني، الأكثر انتشارًا، فهو الهايكو الإلكتروني عبر صفحات السّوشيال ميديا ومن خلال كتب ومجلات وإصدارات رقميّة، يتابعها عشرات الآلاف عبر الإنترنت، ويتفاعلون معها كتابة وقراءة، وفي هذا الإطار صفحة "هايكو وشعر" للسّوري الدكتور رامز طويلة، الذي تستضيف صفحته بشكل يومي عشرات النّصوص لشعراء من سائر الأقطار، فضلًا عن نصوصه هو نفسه، التي يحاكي فيها الهايكو الوافد بمعرفة ووعي يبدوان أحيانًا كافيين لتصنيع منتج عربي مماثل:
"هَـبَّةُ ريح/ تتدافـعُ الأوراقُ السَّاقِطة/ إلى جذعٍ مائل".
وقد اشتهر في هذا اللون الشّعري من أبناء جلدتنا كذلك عدد من المبدعين من أمثال: أسعد الجبوري، بشرى البستاني، جمال مصطفى، سعيد بوكرامي، سعد جاسم، خليل صويلح، لينا شدود، عدنان بغجاتي، جمال محمود هنداوي...، إلا أنّ أوّل مرجعيّة عربيّة للمعنيين بهذا الفنّ الشّعري كانت على يدي الشّاعر والناقد محمّد عظيمة والذي تميَّزَت أعماله عن باقي أقرانه العرب بالنّقل والتّرجمة المباشرة من اللغة اليابانيّة الأمّ، فكانت نتيجة ذلك سلسلة من الإبداعات التي صدّرها للسّاحة العربيّة في ما يخصّ الثّقافة اليابانّية عمومًا والهايكو خصوصًا، منها: "غابة المرايا اليابانيّة"، "الهايكو مع كوتا كاريا"، "تاكو بوكو"، "كوجيكي: الكتاب الياباني المقدّس"، "محاضرات في التّقاليد الشّعرية اليابانيّة أوكا- ماكوتو"، "حوارات في أنطولوجيا الشّعر الياباني الحديث".
هذا ويُعدُّ الشّاعر والكاتب محمّد الأسعد من كبار مَن ورد هذه السّاحة أيضًا، وذلك بعمل ترجمة مهمّة لـِ"كينيث ياسودا" (Kenneth Yasuda) الذي تناول جماليات الهايكو الياباني في كتابه "واحدة بعد أخرى تتفتّح أزهار البرقوق"، بالإضافة لآراء نقدية وتنظيرية في الهايكو وعن الهايكو في مقالات ودراسات عديدة ولعلّ أهمّها "ماتسو باشو وشرّاحه في الوضوح النّادر والبساطة الجميلة"، وفي هذا المقام أيضًا لا بدّ أن نستحضر دراسات وقصائد الكاتب والمترجم المغربي سعيد بوكرّامي، وأهمّها عمله في أنطولوجيا الهايكو الياباني وهو ترجمته لكتاب "تاريخ الهايكو" للشّاعر الياباني "ريو توسويا" بمقدّمة للمترجم ميسّرة ومختزلة.
لقد بدأ شعر الهايكو في الانتشار والتّوسع في المشهد الثّقافي العربي بفعل بساطته التي ألهمت جيلًا جديدًا من الشّعراء، وبذلك يكون هذا اللّون الشّعري قد تجاوز حدوده اليابانيّة لتأخذه ريّاح التّجديد إلى الوجدان العربي، فبات يشكّل ظاهرة لا يستهان بها، بدلالة ذلك الانتشار المتسارع لمجلات شعر الهايكو، ناهيك عن تأسيس نوادٍ حملت اسم الهايكو عبر صفحات مواقع التّواصل الاجتماعي والتي اجتهدت بنشر الأجْوَد من هذا الشّعر، حيث يقوم على هذه النوادي شعراء حاولوا ترسيخ هذه الظاهرة محليًّا، وذلك باستخدام المفردات والدّلالات الإنسانية، مع خروج طفيف أحيانًا عن الشّروط التّقليدية للهايكو من باب الخصوصيّة وترك بصمة عربيّة في هذا الفنّ.