د.عبد الفتاح شهيد
أستاذ النقد الأدبي في جامعة السلطان مولاي سليمان- المغرب
chahidabdelfattah@yahoo.fr
يَتَأَمَّلُ الكاتبان الفرنسيّان "جون كلود فيلو" و"جون كلود كارلوني"، في كتاب "النقد الأدبي" المساحات الممتدة بين الموضوعيّة والتحيُّز، بين العلميّة والانطباعيّة، بين التصوُّر والإنجاز. وينتصران للنقد المتموضع على تخوم الفلسفة، يتأمَّلان بعمق وتجرُّد المؤلّفات النقديّة وامتدادها في تجارب أصحابها وإنجازاتهم، في تناقضاتها الخفيّة وفي خفاياها المتناقضة.
يراهن"فيلو" و"كارلوني" على دراسة النقد باعتباره نوعًا أدبيًّا له قوانينه الذاتية، من خلال دراسة المؤلفات النقديّة الأساسية، وقصْدُهما العلمي الكشف عن نتائج ذات أهميّة بخصوص أسئلة المنهج وتطبيقاته، بناء على مخططات منطقيّة لا تاريخيّة.
• بوادر تصنع البدايات
لم يأتِ القرن السادس عشر بشيء أساسي في مجال النقد الأدبي. وفي القرن السابع عشر هيمنت مشكلة القواعد، واتَّخذ النقد شكل الهجاء، بينما تغذى في النصف الثاني منه على نشأة الصحافة الأدبيّة وانفجار الخصومة بين القدماء والمحدثين. أمّا في القرن الثامن عشر فبعيدا عن العادات العقائديّة المتمكّنة، وبروز الأحكام النقديّة التي لا علاقة لها بالأدب، يمثل فولتير النقد الحقيقي بوصفه مهنة حدَّد لها أبعادًا ثلاثة: الاكتشاف والنشر، ثم الصيانة، فالدَّعم. غير أنَّ نقدَه ظلَّ "نقدَ معلّم يشير إلى الأخطاء على الهامش بالقلم الأحمر". بينما في القرن التاسع عشر كان كتاب "مدام دوستال" حدثًا مهمًّا جدًّا، بالإضافة إلى أحداث ثقافيّة أخرى خلقت أوضاعًا ملائمة لنشأة النَّقد الحقيقي باعتباره فنًّا خاصًّا، بل مهنة مستقلّة.
وباعتبار النقد إبداءً للرّأي في قيمة المؤلفات، وتمييزًا للأدب باعتباره مجالًا قيّمًا، كانت بداية "النقد المنطلق" مع "نيزار" (1806-1888) و"سان مارك جيراردان" (1801-1873)، حيث يمكن اعتبار الأول مبشِّرًا بالحقيقة، يمتاز بصلابة نقده وأحكام بلا استئناف، يشكل عنده وحدة مع الفكر الغربي. بينما كان الثاني منشدًا للفضيلة، يحسب النقد واجبًا أخلاقيًّا بقدر ما هو واجب أدبي؛ يستهدف استخلاص تعاليم أخلاقيّة من الآداب مع التحذير من أوهامها والتباساتها.
• في بحث النقد عن موضوعيّة علميّة
النقد كحكم موضوعي ينبني على العلم، يعود إلى "مدام دوستال"، وإلى "برونتيير"، لكنه لم يصبح نظاميًّا إلا مع "فيلمان" (1790-1867) الممهد المباشر لـِ"تين" و"بوجيه"، يحكم "فيلمان" بالطبع لكنه يقدِّس الموضوعيّة ويبتعد عن التحيُّز، وهو واحد من روّاد تاريخ الأدب والأدب المقارن، على الرغم من أنه على مستوى الإنجاز اصطُبغ منهجُه بدقة نسبيّة.
غير أنَّ ما قصَّر عنه منهج "فيلمان" نجح فيه "هيبوليت تين" (1828-1893)، حين حدَّد مبادئ النقد العلمي، وأهمها الادعاءات الفلسفية؛ التي تستخلص العلاقات لإدراك العالم الإنساني من خلال الأدب. ثم البعد النفسي؛ حيث اكتشاف الملكة الرئيسة للكاتب، مع الاعتماد على الحدس. ثم البعد الاجتماعي؛ والربط بين العاملين الاجتماعي والتاريخي والعامل السيكولوجي. ثم البعد الجمالي، برسم مبادئ علم جمال حديث وتاريخي غير عقائدي. غير أنه ينتهي إلى صياغة أحكام مطلقة ومجرّدة تبعده عن الموضوعيّة، ومع ذلك فقد كان يعبِّر عن اتجاه متقدِّم في النقد.
ولا يمكن في هذا السياق تجاوز مجهودات "برونتيير" (1849-1907) في تركيزه على الجوهر الأدبي للأثر، وسعيه إلى "علم نقد" على أسس موضوعيّة بعيدًا عن النقد الانطباعي والذوق الفردي. فغاية النقد عنده الحكم على الأعمال الأدبيّة وتصنيفها وشرحها، وتظل الظروف الاجتماعيّة والجغرافيّة ثانويّة، مع أنه قد سُجّل عليه توجهٌ غامض نحو نظرية "تطوُّر الأنواع". لكن مع "هانكان" (1858-1888) بدأ مفهوم النقد العلمي يأخذ مضمونًا جديًّا، على الرغم من الارتباك الذي رافق الإنجاز؛ وذلك بطرحه مشكلة الموضوع والوظيفة، وإشكاليّة المنهج. فقد اقترح تحليلًا اجتماعيًّا يأخذ بعين الاعتبار القرّاء المعجبين بالأثر، لتنوُّع الطبقات الاجتماعيّة وتطوُّر علاقاتها بمناطق نجاح الأثر. وينظر إلى الأثر في تعبيره عن صاحبه، ويعتبر النقد وسيلة لتحليل حالات النفس لدى فرد أو في بنية. غير أنَّ هناك تحفُّظات كثيرة على علم النفس الاجتماعي الذي ورثه "هانكان" عن "تين". ويقترب "بول بورجيه" (1852-1935) من "هانكان" أكثر من اقترابه من "تين"، في اهتمامه بالقيمة الاجتماعيّة للأثر، حيث يؤدي التحليل الأدبي إلى التحليل الاجتماعي، الذي بدوره يؤدي إلى التحليل السياسي في نوع من "النقد الملتزم".
• شغف الإبداع وسعة العلم
تعني "الانطباعيّة" اللقاء الساذج بين النص والقارئ، احتُفي بالمفهوم بين 1885 و1914، واتفق الانطباعيون على الاحتفاظ بذكريات قراءاتهم والدفاع عن لذة القراءة. وفي هذا المضمار يرى "جون لوميتر" (1853-1914) و"أناتول فرانس" (1844-1924) أنَّ الناقد الجيد هو الذي يروي مغامرات النفس وسط روائع المؤلفات، والنقد هو حديث لطيف بين مثقفين مقياسه الوحيد هو اللذة التي يبعثها الأثر. وعلى الرغم من أنَّ مهمّة النقد في نظرية "ريمي دوغورمون" (1858-1915) هي الهدم والحرق، ففي إنجازه ظلَّ يمثِّل أصدق تمثيل المدرسة الانطباعيّة. كما مارس "أندريه جيد" (1869-1951) النقد الانطباعي وعارض النظام والمنهج ودعا إلى النظر في المؤلفات بعيدًا عن المعارف السابقة. إنَّ كل النقاد حتى أشدّهم منهجيّة هم انطباعيّون بتصوُّر ما، سواء في الاتِّجاه الصحافي الذي يعتمد نوعًا من الوصف الشعري المرهف للكتب الحديثة، أو اتِّجاه كتاب المقالات الذي يعطي لذاتيّة الناقد أهميّتها. فلا يمكن التغاضي عن أنَّ الانطباعيّة قد حفظت للنقد فتنة ولذة، حين كان النقد ملزمًا بالخروج من عنف النقّاد الجادّ.
وعلى الرغم من موقف الانطباعيّة من "النقد العلمي" فالجهد الذي بذله روّادها جدير بالثناء، ومن ممثلي النقد الجامعي المنضوي ضمن هذا التوجُّه، "إميل فاغيه" (1847-1916)، وهو مثقف وقارئ كبير يدّعي النزاهة، ويحاول تقديم صورة واضحة عن كبار الكتاب الفرنسيين، ويدافع عن حق النقد، وحتى الجامعي، في أن يبقى فنًّا لا علمًا. أمّا "غوستاف لانسون" (1857-1934) فقد تأثر كثيرا بـِ"تين" و"برونتيير"، فأخذ عن الأوّل فكرة البيئة، وعن الثاني فكرة التاريخ. وعنده أنَّ المعرفة الجيدة والأبحاث العميقة تتيح تذوُّق الكتب والاستفادة من قيمتها، والحكم بلا تحيُّز وبلا رأي مسبق. وفي المحصّلة فقد كان "لانسون" مفكرًا إنسانيًّا يتميَّز بنزاهة فكريّة فريدة.
وفي "مناهج سعة العلم" يُعتَبَر البحث عن التفاصيل أهم مظاهرها، ودراسة المصادر هي إحدى الوسائل للنفاذ إلى مختبر الكاتب، والتي تساعد على فهم كيفيّة العمل؛ فدراسة التأثيرات مفيدة للتاريخ الأدبي. ثم إن تاريخ الأدب يجب أن يسمح لنا بفهم المؤلفات العظيمة بطريقة أفضل مما يجعله مساعدا للنقد. وهو ما أسهم فيه النقاد الجامعيون بدراسات وافية عن المؤلفين من خلال السير الأدبية وأطروحات الدكتوراه، والأعمال التأليفية البسيطة، ومراجع الشرح الأدبي. أما اليوم فالنقد صار يهتم أكثر فأكثر، بفحص تقنية الكتاب الكبار وكيفية بناء أعمالهم الأدبية.
• حين يلبس النقد قناع الإبداع
أضاع الناس منذ "سانت بوف" الكثير من روح المغامرة النقديّة، لكن أمكن للكثيرين منهم أن يجتمعوا حول مفهوم "الإبداع"، وهو توجُّه يعود إلى "بودلير" الذي خلق ما أخفق فيه "بوف"، حيث انتقد أيّ مساهمة فنيّة تهرب من كل الأنظمة، كما أصبح معه النقد خَلقًا جديدًا. واتَّجه "ألبير تيبوديه" (1874-1936) نحو نوع من التركيب لمناهج مختلفة، مع عدم الفصل بين المعرفة الحدسيّة والمعرفة الشاملة، والاهتمام بأدوار الفلسفة في النقد خاصة فلسفة "برغسون"، وقد وصف نفسه بأنه "مواطن بورجوازي متسكع في جمهورية الآداب"، فعند جمع الحدس والتعاطف إلى الذكاء النقدي، نجح في الحفاظ على الحدود بين النقد والإبداع. بينما اعتمد "بول فاليري" (1871-1945) في منهجه على إعادة نفس عمل المبدع وبناء ذكائه؛ إنَّ المؤلف ليس هو سبب الأثر عنده، وإنَّما الأثر هو الذي يخلق المؤلف. أمّا النقد فيعني الحكم، وبالحكم النقدي يخلق الفكر نفسه شاعرًا بذاته. فجوهر نقد "فاليري" هو الوصول إلى نظرية عامة للفكر تتيح وعي الإنسان لنفسه. وقريبًا من هذا التوجُّه يفكِّك "إدمون جالو" (1878-1949) العمل الأدبي كما يفكك كتابة موسيقيّة، يشغله التفاعل الكامل مع الموضوع كمغامرة شخصيّة، يغور في حياة النفوس الداخليّة، للبحث عن لغزها الإنساني. كما استفاد "جان جيرودو" (1882-1944) من خياله الروائي المبدع، فظهر نقده كرواية سحريّة للأدب الفرنسي، تسعى إلى استعادة القوانين المحايثة بدقة عظيمة تجيب عن الأسئلة الحقيقيّة لمشاكل علم الجمال.
• نقد وضعي على تخوم الفلسفة
يدين النقد للتحليل النفسي ومفاهيمه الأساسيّة بالكثير، ممّا يتسنّى معه تحليل "فعل الكتابة" باعتباره حصيلة سبب سيكولوجي يحتوي على "مضمون ظاهر" و"مضمون مستتر" ودوافع لاواعية... إنَّ الهدف الأساس للتحليل النفسي استعمال الأثر الأدبي للتنقيب في أعماق المؤلف السيكولوجية. ولمّا كان نقدهم هو تحليل نفسي، وليس مجرَّد نقد أدبي حرص "شارل بودوان" و"شارل مورون" و"غاستون باشلار" على العودة إلى الأثر. ممّا جعل التحليل النفسي يسمح بجمع عناصر قد تبدو متناثرة، من خلال باطنيّة جوهريّة. وهكذا سعى "باشلار" إلى تجديد النقد الأدبي من خلال نقد سيكولوجي يُحيي من جديد الطابع الفعلي للمخيّلة لقياس القوى الشعريّة الفعّالة في المؤلفات الأدبيّة، حيث إنَّ النقد هنا يعلِّم الكاتب أن "يحلم جيدًا" كي يتوصَّل القارئ إلى أفراح أدبيّة.
وظلَّت محاولات النقد الاجتماعي المُجدية محاصرة بالمفاهيم الماركسيّة، ويحدِّد التحليل الماركسي مفهوم الأيديولوجيّة، في أنَّ الحياة الاجتماعيّة بنية تحتيّة أقامها إنتاج الحياة الماديّة، ويحدِّد الصراع الطبقي باعتباره محرِّكًا للتاريخ، ويربط نسبيًّا بين البنية الفوقيّة والبنية التحتيّة. وتتحدَّد دعائم النقد الماركسي في أنَّ الأثر الأدبي يجب أن يُدرس في علاقته الجدليّة بالبنية التحتية في إطار الصراع الطبقي، كما أنه يعبِّر عن رؤية العالم، والأثر يكون مجديًا حين يعمّق جذوره في وعي عصره، ويعبِّر عنه دون إلغاء العبقريّة الخاصة والطاقة الفعّالة المبدعة، فالعبقريّة هي دائمًا تقدميّة بحسب "غولدمان"، مع التوجُّه نحو "التطبيق العملي".
إنَّ تجاوز التحليل النفسي والتحليل الماركسي مكَّن من إدراك فلسفة حقيقيّة للعمل الأدبي لإدراك الإنسان في شموله كمظهر لوحدة الإنسان- العالم التي لا تتفكّك. وهو نقد فلسفي نجده عند "سارتر" "وبيغان" و"موريس بلانشو" و"جورج بوليه" و"جان بيير ريشار" حيث أصبح الفن على تخوم الفلسفة. ففي رأي "سارتر" أنَّ الأدب يكشف العالم وخاصّة الإنسان. كما يتفق "سارتر" ونقاد آخرون على ضرورة الكشف عن الميتافيزيقيّة والأخلاق المتضمَّنة في النتاج الأدبي، ويرى "كلود إدموند ماني" أنَّ الناقد هو قارئ يرى الأثر الأدبي علامة على الحياة الروحيّة التي تركها الكاتب ليكون الأثر قوّة أكثر إقناعًا. وكل نقد عند "موريس بلانشو" هو بحث عن الموقف الميتافيزيقي الذي تعبِّر عنه الشخصيّات تجاه العالم. فالنقد يكون فلسفيًّا حين يبحث عن دلالات موقف شامل لا عن اعترافات كبتٍ ما.
لكن، وحتى لا يُنسى العمل الأدبي في حدِّ ذاته، والذي ينكشف فيه قصد الوعي ومغامرة الإنسان، ظهر النقد المسمى "القصد الأدبي"، حيث يسعى "جورج بوليه" إلى الكشف عن نقطة الالتقاء بين الوعي والأشياء لدى الكتاب الفرنسيين العظام. وسيعيش "جان بيار ريشار" هذه المغامرة مع مجموعة من الكتاب "شاعرًا باللقاء، مقدِّرًا الكثافات، سابرًا الفراغات، ساعيًا إلى الموازنات، أو اختلال التوازن". فليس للأثر في البدء سوى أن يوجد، فإذا ما أدلى بشهادة، فإنَّ هذا يكون إضافة عليه، لأنه يصبح –بالضرورة- موضوعًا اجتماعيًّا، وأنَّ المجتمع سيستخدمه بالشكل الذي يحتاج فيه إليه.
وفي الختام، فمن خلال مجموعة من الأسئلة جاءت الإجابات لتعضد موقف الكاتبين في سائر صفحات الكتاب، فالناقد حكَم سواء أراد ذلك وقصد إليه أم لا. والإيضاح العلمي ضروري دون أن نعتبر الشرح نهاية في حد ذاتها مع التماس الموضوعيّة، وأن ننتقد معنى هذا أن نفهم مع تجنُّب خيانة الأثر وخيانة النقد. ولا بدّ لأيّ نقد من مقاييس، وفي العلاقة بالمعايير على النقد أن يتجاوز نفسه في مجال علم الجمال، ولكن لا يمكن التوصُّل إلى علم الجمال إلا انطلاقًا من النقد. إنَّ إتقان فن التساؤل، والتشبُّع بثقافة فلسفيّة، والاحتكاك بأعلام النقد الفرنسي بخلفيّاتهم المعرفيّة والأيديولوجيّة المتباينة، والذين كان لهم دورٌ كبيرٌ في تأسيس اتِّجاهات نقديّة لا يمكن تجاوزها؛ هو ما جعل هذا الكتاب يحتفظ براهنيّته من منتصف القرن العشرين إلى اليوم، وهو ما جعل قراءته تجربة علميّة مختلفة، ومغامرة منهجيّة جديرة بالاكتشاف. ذلك لأنَّ النقد الأدبي لا يمكن أن ينفصل عن "نصوصه الأولى" و"أسئلته الأولى" و"دهشته الأولى".