د.محمد عبيد الله
ناقد وأكاديمي أردني
طَرَأَتْ تغيُّرات كثيرة في أحوال الثقافة والمثقفين في العقود الأخيرة؛ صعدت الثقافة المعولمة بصورتها "الشعبيّة" المصطنعة، وتراجَعَت ثقافة النّخبة عن التأثير. وتغيَّر معيار الحكم والتقييم من الناقد إلى المتلقّي والمشاهد، فلم يعُد السؤال عن المادة في ذاتها، وإنَّما في عدد مَن يتلقّونها... وهكذا تحوّل النقاد إلى "زبائن"، وتراجع النقد الأدبي والفني والفلسفي بصيغته النخبويّة المتميّزة ومدارسه واتّجاهاته المتشعِّبة، وحلّت مكانه ضروب مشتَّتة يمكن ملاحظتها في الشبكة العنكبوتيّة أو الصحافة الإلكترونيّة أو مواقع التَّواصل... ولا تتيح هذه الأدوات للقراء العاديّين التعبير عن آرائهم حسب، بل تدفعهم إلى إحداث ضروب من التأثيرات والتوجيهات تتصدّى لكثير ممّا كان النقد النخبوي يقوم به.
في الحقبة نفسها، اختفت المجلات والصحف التقليديّة، وتراجعت أدوارها لصالح بوّابات جديدة، تجد ضالّتها في إمكانات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وأثناء ذلك أصاب الثقافة واللغة ما أصابها من ألوان الهُجْنة، ومن طحْن المحلّي والقومي الذي يحمل وشم الهُويّة ومعالمها لصالح أخلاط تفتقر إلى الملامح الفارقة، وإن كانت تدّعي الانتماء إلى الكونيّة والعالميّة.
وفي مستوى الأنواع الأدبيّة شهدت هذه الحقبة صعود الرِّواية وتراجع الشعر بأنواعه المختلفة، واختفت الصحف التي كانت تناصر الشعر وتثير المعارك بين قديمه وجديده... صعدت فنون التَّصميم بأنواعها المختلفة بديلًا عن الفنون البصريّة والأدائيّة التقليديّة، وتراجعت قيمة الفن والجمال لصالح الاستعمال والمنفعة... انتشر "الإنترنت" وتراجع التلفزيون والسينما والمسرح... برز الاهتمام بالمظهر أكثر من الجوهر، وتجاوب هذا مع ما يمكن ملاحظته من اتِّساع ثقافة "الاستعراض" ذات الطابع البصري الذي تقوم فيه الآلة بدور البطولة، أكثر ممّا يصنعه الإنسان.
الشفاهيّة الثانويّة بمصطلح "أولتر أونج" لم تعُد "ثانويّة"، وانفجار الحديث أو الكلام الذي شجّعته وسائل التواصل يؤذن بمزيد من التحوّلات، ممّا يدفع إلى التساؤل إن كان بمقدور الثقافة الراشدة أن تسهم في الحدّ من الأضرار المحتملة لكل ذلك. لم يعُد الأمر بيد نخبة الكتاب أو اللغويين أو المفكرين، وإنَّما تحت سيطرة الشركات الاتصاليّة والتكنولوجيّة العابرة للقارات... أي أنَّنا أمام صورة أخرى من صور الوقوع في فخاخ السلطات الجديدة التي تريد تحقيق الربح والشهرة والسيادة، وتريد أن تفرض أنماطًا ثقافيّة تفضّلها، ولو على حساب الأخلاق وإنسانيّة الإنسان، بالمفهوم الثقافي والفلسفي.
ويتساءل المرء في إطار ذلك: هل ما زال عامة الناس محتاجين إلى من يعبّر عنهم؟ ها هم يسبقونك على وسائل التواصل يتفاصحون بطريقتهم، ولا يتلجلجون أو يتردّدون، ولا يخشون العواقب... في صورة من صور اتِّساع رغبة "العامّة" في أن يكونوا من المشاهير، مع تخفيف شروط الشهرة، وتعديل قوائم المشاهير لتشمل أنماط الفنون الجديدة والرياضة والطبخ وعروض الأزياء وأنشطة المدوّنين و"اليوتيوبرز" الذين يشكّلون اليوم ظاهرة جديدة لا يمكن إغفالها. وقد لا يقع اللوم المباشر على هؤلاء، بل يقع على القوى التقنيّة والاتصاليّة والسياسيّة التي تستغل حاسة الشهرة لتحقق مزيدًا من الأهداف والأرباح، وتطحن معها أدوار المثقّفين والنقاد المحافظين الذين لا يفكّرون في الشهرة أو أعداد المتابعين.
إنها حقًّا حقبة جديدة، تقوم على اختطاف الوظائف والأدوار التي طوّرها التاريخ الثقافي، واختراع ألوان بديلة ولاعبين جدد لتلك الأدوار. ومع كل هذا فإننا نعوّل على ما تمتلكه الثقافة الأصيلة من طاقات المقاومة والبقاء، بحيث لا تسمح بمحو وجودها أمام السيل الجارف من ألوان الثقافة البديلة، ثقافة المحو والنسيان!!