د. خلدون امنيعم
شاعر وناقد أردني
rakeen7@hotmail.com
"منذُ مديحِه لمقهى آخر، كانَ الفتى يصعدُ جَلعاد؛ لِيَرْعى العُزْلةَ ويُربّيها، مُتيقّنًا من وُصولِ الغُرباءِ، وَلـمـّا سُرَّ إذْ رَأى، تَقطّعتْ بهِ الأَنفاسُ في الـمُرْتقى الصَّعب، وكلَّما رَأى علامةً، صاغَها حياةً كَسردٍ متقطّع."
رَحَلَ أمجد ناصر إذنْ، رحيلًا لا يُشابهُ الغيابَ الأبديّ، بلْ يماثلُه في الشّكل لا المصيرِ، فالشّكلُ مشهديَّةُ الكائنِ وهوَ ينطفئُ على مراحلَ، أو بغتةً، كأنْ تسكبَ بحرًا على شمعةٍ في حجرةٍ صغيرةٍ، تلكَ هي ثنائيّةُ الرّوح والجَسد، دونَ طرحِ إشكالِ منْ يسكنُ الآخرَ ويستعملُهُ؛ وفي الـمصيرِ –رحيلًا- يشبهُ ذاتَ أمجد المعذّبةَ في مسرّتِها وخفوتِها، كعَوْدٍ أبديّ، إنّه رحيلُ النّهرِ إلى الـمَصبّ، وجُموحُ الخيلِ في أَعالي الجِبال؛ لعلَّ رحيلَه فِطنةُ الكائنِ لـمَّا يَنفطِر، أو يَقظةُ النّائمِ لـمَّا يَنتبِه.
أمجد ناصر، هَبْ أنَّا نجلسُ في مقهًى آخرَ، والْتَقى صاعدُ جلعادَ راعيَ العزلةِ، ستكونُ أنتَ –حتمًا- ثانيَ اثْنينِ، ذاكَ هوَ النّسقُ السّرديُّ الـمتقطّعُ لتلكَ الحياةِ التي كتبتَها مرّةً، وعشتَها مرّاتٍ، لعلّكَ ستسألُ حينَها: ما اسْمُ الْحزنِ؟ ولَنْ نُجيبَكَ؛ ليسَ لأنّا لا نملكُ وقتَها جرأةَ الجهلِ بالإفصاحِ وشراهةَ الكذبِ الـمُباحِ، بلْ لِفداحةِ السّؤالِ، وما يلمُّهُ من حُطامِ الخساراتِ والشّحيحِ من حظٍّ مُتاح، لنْ يُجيبَكَ سوى تلكَ الفتاةِ في مقهى "كوستا"... وأنتَ خبيرُ بزوغِها وانخطافِها الـمُباغتَيْنِ؛ مرّةً أُخرى، تُرى: لو فتقْنا للسّؤالِ جرحَهُ، ماذا يتبقّى منهُ، أو منكَ، أو منّا؟ أجبْنا عن المسافةِ بينَنا، ما شكلُها؟ ما صوتُها؟ ما طعمُها؟ ما لونُها؟
لعلّها ذاكَ السّرابُ الكفيفُ في صحراواتِ الـمفرق، أو الضّبابُ الكثيفُ في سماواتِ لندن، لعلّها أنتَ: قطراتُ الـماءِ محمولًا على كفِّ الهواءِ، لكنّك العَطشُ الصّحراويُّ الحافي، والنّبعُ الشّعريُّ الصّافي، فكيفَ تَرتوي؟
ها أنتَ، ترحلُ عن عالمٍ صغيرٍ بحجمِ راحةِ يدِك، صُغْتَهُ وَصاغَكَ، مُثمرًا فيه إرثًا أدبيًّا شاسعًا، لا يكفُّ عن التّنادي في دواخلِنا، كانَ على التّوالي: "مديحٌ لمقهًى آخرَ" بيروت (1979)، "منذُ جلعادَ كانَ يصعدُ الجبلَ"، بيروت (1981)، "رُعاةُ العُزْلةِ"، عمّان (1986)، "وُصولُ الغُرباءِ"، لندن (1990)، "سُرَّ مَنْ رَآك"، لندن (1994)، "مُرْتقى الأَنفاسِ"، بيروت (1997)، " أَثرُ العابرِ"- مختارات شعرية، القاهرة (1995)، "خَبْط الأَجنحةِ"- رحلات، لندن، بيروت (1996)، "حَياةٌ كَسردٍ مُتقطّع"- شعر (2004)، "وحيدًا كذئبِ الفَرزدقِ"- مختارات شعرية انْتقاها صبحي حديدي، دمشق (2008)، "فرصةٌ ثانيةٌ"- رحلات، عمّان (2008)، "حيثُ لا تسقطُ الأمطارُ"- رواية، (2010)، "بيروت بحجمِ راحةِ اليدِ: يومياتُ حصارِ بيروت"، (2012)، "الخروجُ من ليوا يليه في ديار الشحوح"، بيروت (2010)، "رحلاتٌ في بلاد ماركيز"- رحلات (2012)، "هُنا الوردةُ"، بيروت (2016).
من هنا، تفردُ مجلةُ "أفكار" -كما دأبتْ- ملفًا خاصًّا يتناولُ تجربةَ الشّاعر العربيّ أمجد ناصر الإبداعيّة والمهنيّة، وهو الـملفُّ الثّاني بعدَ النّدوة التّكريميّة في "ملتقى الأردن للشّعر" في دورته الثّانية عام ألفين وثمانية عشر (2018)، حيثُ جُمعتِ الأوراقُ النّقديّة في ملفّ خاصّ -العدد 354- تموز، كانت أوراقُه على التّوالي: "تأمّلاتٌ في شعريّةِ أمجد ناصر"/ علي جعفر العلاق (العراق)؛ و"سيمياءُ الماءِ: قراءةٌ في تجربةِ أمجد ناصر الشعريّة"/ خلدون امْنيعم (الأردن)، و"القصيدةُ وتحوُّلاتُ الشّكلِ عندَ أمجد ناصر"/ نسرين شرادقة (الأردن).
أمّا ملفُّ هذا العدد (371)، فيتوزّعُ على وَجهينِ: أوَّلهما، يرتحلُ إلى عوالمِ أمجد ناصر النّصيَّةِ قراءةً نقديةً، وثانيهما، ينفتحُ على عوالمِ أمجد ناصر الحياتيّةِ قراءةً جماليّةً؛ هنا، يطرحُ النّاقدُ فخري صالح رؤيةً منْ سماتِها التّتبعُ الدّقيقُ لمراحلِ تجربة أمجد ناصر الشّعريّةِ وتطوّرِها، عنونَها بــِ"قصيدةُ النّثرِ إذْ تَتغذَّى من شِعريَّاتٍ عربيّةٍ وعالـميّةٍ عديدةٍ"، ويُجري النّاقدُ والفنّانُ التّشكيليُّ حسين نشوان تَطوافًا نقديًّا حرًّا في أدبياتِ المكان والرّحلة عند أمجد ناصر، وقد عنونَها بــِ"الارْتحالُ في جغرافيا المكانِ والنّصّ"، ويضيءُ الكاتبُ والمحلّلُ السّياسيُّ عريب الرّنتاوي محطّاتٍ بارزةً في تجربةِ أمجد العمليّةِ صحفيًّا وسياسيًّا، وعنونَها بـِ"أمجد ناصر: حضورٌ يأبى الغياب"؛ وفي الوجهِ الآخرِ، يرمّمُ الشّاعر نوري الجراح ذاكرةَ الفقدِ، ويأتي بقبسٍ من بهوِ قصائدِ أمجد لِيضيءَ عتمةَ هذا العالمِ الكئيبِ، مقدّمًا شهادةً إبداعيّةً "جُدْرانُ الـمَنْفى"؛ ويوغلُ الشّاعرُ والفنّانُ التّشكيليُّ محمد العامري في بلاغةِ القشعريرةِ، فاتحًا للشّعرِ فهمًا جماليًّا جديدًا بما هو جرحٌ بالغٌ في البالِ، في شهادته الإبداعيّةِ "بدويٌّ يلثغُ بالشّموسِ".
هكذا، إذنْ، مُفْتتحُ الخِتام، إذْ نشهدُ أمجد ناصر يهيلُ التّرابَ على جسدِ يحيى النّعيمي، كَبُستانيٍّ حاذقٍ في زِراعةِ الوَرد؛ لِتبقى روحُكَ الجماليَّةُ والشّعريّةُ شاهدًا على منجزٍ شعريٍّ إنسانيٍّ عالٍ وباذخٍ، ومُفرطِ الحميميَّةِ في جُوّانيَّاتِهِ، لِتُكَوِّنَ في رحيلِكَ مُفارقةً شعريّةً جديدةً: نستقبلُكَ مبتهجينَ آنَ وداعِكَ مؤبّنينَ، ونودّعُكَ مؤبّنينَ آنَ اسْتِقْبالِكَ مُبتهجينَ، وبينَهما، وقبلَهما، وبعدَهما، عليكَ السّلامُ -أيُّها البَدويُّ- حَيًّا وَمَيْتًا.