أحمد الطراونة روائي وإعلامي أردني ahmadrai2005@gmail.com أُسْدِلَت الستارة على فعاليات مهرجان الأردن المسرحي في دورته السادسة والعشرين، والتي حملت هذا العام عناوين مهمّة، وقدَّمت من خلال عروضها رؤى إخراجيّة واعية ومتقدِّمة، في إشارة إلى أنَّ المشهد المسرحي الأردني والعربي يعيشان حالة من التجديد والمراكمة لجهة الاشتغال على تطوير أدواتهما المسرحيّة، أو لجهة تطوير أدوات تناولهما الفكري للعديد من القضايا المهمّة. أقامت وزارة الثقافة الدورة 26 من مهرجان الأردن المسرحي خلال الفترة من (8- 14/ 11/ 2019) على مسارح المركز الثقافي الملكي بمشاركة الإمارات ومصر والكويت والبحرين وتونس والسودان إلى جانب الأردن، عُرضت خلالها مجموعة من العروض المسرحية، وهي: "راشومون" التونسية، و"الساعة الرابعة" الإماراتية، و"درس" الكويتية، و"سكان الطابق الأرضي" البحرينية، و"مؤامرات شكسبيرية" السودانية، و"الحادثة" المصرية، إضافة إلى العروض المسرحية الأردنية: "الآخر"، و"الكفالة"، و"الكراسي"، و"ملحمة السراب". في العرض التونسي "راشومون"، الذي استهلَّ عروض المهرجان، اتَّكأ المخرج التونسي لطفي العكرمي على النص الياباني الكلاسيكي "راشومون" ليقدِّمه بالعنوان نفسه؛ حيث بدأ العمل بالإيحاء باليابانيَّة من خلال أزياء شخوص العمل اليابانية والماكياج، وكأنَّ العكرمي يحاول إعادة النسخة اليابانية مسيطرًا على التفاصيل الدقيقة من خلال المواد الفيلميّة والتي صوّرت المَشاهد الخارجية في الغابة في محاولةٍ منه لمجاراة التكنولوجيا وتقديم رؤية جديدة لمسرحية قُدِّمت كثيرًا على خشبات المسرح. قدَّم المخرج رؤيته في إيصال الروايات الثلاث لقصة القتل، التي بقيت مختفية على الخشبة، من خلال الحوار الفني بين الصورة الفيلميّة والمسرح والراوي الذي يتدخَّل أحيانًا لتوضيح فكرة معيَّنة، وعلى الرغم من أنَّ المخرج لم يكن موفَّقًا في اختيار الموسيقى، ولم يقدِّم العمل رؤية فنية للواقع التونسي، ولم يلتزم بحَرفيّة النص، إلّا أنه قدَّم العديد من الرسائل الفلسفية الجميلة، من ملحمة البحث عن الحقيقة التي ضاعت بين شهوة الإنسان وتسلُّطه، لتغيب هذه الحقيقة وتبقى معلّقة. في الليلة الثانية من المهرجان عُرضت مسرحية "الساعة الرابعة" للمخرج الإماراتي إبراهيم سالم، ومن خلال مقولة عمله التي جاءت في آخر لحظات العمل ندرك أنَّ المريض يتلذَّذ بمرضه ويصبح صديقًا له ويرفض أن يتعافى منه، وهو نفسه المريض الذي يحاول البحث عن العلاج، لكنه عندما يجده لا يتجرَّعه؛ في إسقاط واضح على أمراض المجتمع. فيقدِّم جملة من القراءات البعيدة للعديد من الشخصيات المأزومة والمريضة من خلال عيادة الطبيب الذي شاركهم المرض ليفجِّر فيهم حالة البحث عن الشفاء، لتختلط الأمراض في بؤرة صغيرة تمثل مجتمع، ليبدو هذا المجتمع مسطّحًا ومكشوفًا أمام هذا الطبيب الذي اختفى ليقرأ ويحلل، ويختم بأنَّ هذه الأمراض غير مستعصية إذا ما كان هنالك إرادة للشفاء، هذه الإرادة التي تغيب. في العيادة النفسية التي ظهرت وكأنها غرفة للتحقيق في خفايا النفوس البشرية وطبائعها وأسباب أمراضها ودوافعها، وبأسلوب كوميدي يقدِّم المخرج رؤية إخراجية بسيطة لكنها نفذت إلى جميع جوانب المسرح وشغلت كل مكونات السينوغرافيا التي أثَّثت فضاء العمل، ورسَمَ طريق الحركة بوضوح لممثليه الذين اجتهدوا في رسم ملامح الشخصيات باتزان، ليظهر العمل أكثر تماسكًا من خلال الحوارات والحركات والإضاءة التي تواكبت مع الفعل النفسي المضطرب والمتلوِّن. مجموعة من الممثلين "محمد جمعة، وعبدالله محمد صالح، ونيفين ماضي، وآلاء شاكر، ونور الصباح، وفيصل علي" قدموا أداءً مهمًّا وزاخرًا ونافذًا إلى العديد من الإسقاطات الفكرية التي قُدِّمت بوعي ومن خلال الأجواء المشحونة بالتوتر والتشويق ممّا جعل العمل نابضًا إلى آخر لحظاته. الفضاء الساخر الذي خلقه المخرج لعمله أسهم في تثوير العديد من المفارقات التي بدت تلقائية وعفوية لدى هؤلاء المرضى، ليكتشف الطبيب من خلال هذه الشخصيات المركبة والمرتبكة والمريضة والمتناغمة في الإيقاع أوجاع مجتمع بكامله، وتخلق هذه التناقضات ما يريده المخرج من شحن وتوتُّر أخذ العمل إلى أهدافه. وقدَّمت "فرقة الريف" من دولة البحرين مسرحية "سكان الطابق الأرضي" من إعداد وسينوغرافيا وإخراج هاشم العلوي، وإضاءة ماجد نورالدين، وأداء إبراهيم البيراوي، ونوف سبت، وأحمد سعيد وريم ونوس؛ وإضاءة ماجد نورالدين. العمل الذي قدم فيه العلوي رسالة واضحة ضد التهميش والنسيان لعب فيه على أهميَّة الصراع الغائر في الوجدان الإنساني، الصراع القائم على الطبقية وعدم الاعتراف بالآخر الأقل حظًّا أو الطبقات المهمّشة التي تعاني الظلم والإجحاف وضياع الحقوق وهي تعيش دون مستويات الحياة الطبيعية للإنسان، ساعية في طوابقها السفلية إلى البحث عن الحياة بأقل الأثمان. وفي ثالث أيام المهرجان قدَّم المسرح الكويتي نموذجًا مهمًّا للمسرح، حيث عُرضت مسرحية "درس" الكويتية من تأليف لؤي عيادة، وإعداد وإخراج إبراهيم الشيخلي، لتؤكد من جديد على أنَّ الفساد مؤسسة لها أنظمتها وتعليماتها وقواعدها الخاصة بعيدًا عن كل ما يمكن أن يُقال بفرديّة أو شخصيّة مَن يقوم بهذه الأعمال. جاء العرض مشتعلًا بالتوتُّر من خلال قصة تسلُّل أحد الانتهازيين في أحد المصانع ليصبح رئيسًا، وهو الأمر الذي يمكن أن ترى من خلاله العالم، فالمصنع هو مصنع ورق الحمامات، ومن خلال ديكور بدا ثقيلًا للوهلة الأولى إلا أنه كان بخفة مَن يستخدمه ويصعد عليه ليجسِّد حالة من التلاقي بين الإبداع التمثيلي والإبداع في خلق الفضاء المناسب للفكرة والسيطرة عليها لتكون أكثر قربًا للمتلقي. صراع قوي وواضح بين فكرة الانتهازية وغيرها من الأفكار المضادة، لتؤكد المسرحية أنَّ انهزام جميع الأفكار المحترمة أمام هذا الانتهازي هو سياق عام يقبله العالم الآن ويُسقط عليه عناوين أخرى من أهمها النجاح. قدَّم المخرج رؤية جيدة في محاولة تطويع جميع الكتل الموجودة على المسرح من سلالم ومكاتب وكراسٍ لتعبِّر عن الصراع في تقاطعاتها وتحالفاتها، ولعلَّ المبارزة بالكراسي تؤكد لنا أهميّة مَن يمتلك الكرسي الأقوى ليفوز، حيث قدَّم الممثلون صراعًا ناضجًا في سياقات العمل، ليلتحم ذلك مع الإضاءة التي خلقت التوتر اللازم وأسهمت في تأجيج الصراع في لحظات كثيرة. في رابع أيام المهرجان والذي جاء أردنيًّا بامتياز قُدِّم عرض "الكفالة"، للمخرج الأردني د.مخلد الزيودي عن نص للكاتب عبدالكريم السوداني وإعداد وتصميم السينوغرافيا والموسيقى الفنان نصر الزعبي، وأداء: بكر الزعبي وراتب عبيدات، يقدِّم الزيودي لحظة زمنيّة دامية بعد أنْ فقأ دمامل الخوف والتردُّد في طرح الواقع كما هو بعيدًا عن التجميل أو الانزواء وراء السراب، ويفتق شبك العنكبوت الضعيف للدخول إلى ما يريد إيصاله كل من الزيودي والزعبي في توظيفٍ بديعٍ يرسم على الخشبة المتخيَّلة واقعيّة جارحة تستند إلى نزف بطيء وشفاف للقيم والأخلاق والموروث على مساحة الوطن العربي بمجمله، نرى ذلك من خلال سجن "سعيد" الذي يقرر سجّانه إخلاء سبيله بعد أن يصدر حكم براءته، ليبدأ الصراع مع القيم الجديدة والتحديات الأخلاقية والسلطوية التي فرضها غيابه عن الواقع، الواقع الذي أباح لسجّانه أن يدخله القفص من غير ذنب. يصرخ الزيودي بكامل وعيه على لسان "سعيد" حينما يقول: "حتى الملابس تغيرت، فهل يمكن أن يتمدد القماش كما تتمدد القضايا في المحاكم؟" في نقد صريح لسجنه من غير ذنب، فيبدأ بلبس بنطلونه فيجده قد توسع كثيرًا في إحالة واضحة لتغيُّر كل شيء حتى الملابس، لتنثال ذاكرته ويعيد تدوير قصته قبل وأثناء وبعد السجن، من خلال الحوارات العميقة التي أعدّت لتحيلنا على لحظة معاشة مع السجّان الراوي. ويقدم الزعبي من خلال منولوجاته قصائد الشاعر الأردني حبيب الزيود، "دار الكرام اللي تعطي بلا منّة"، هي الدار التي تخفّى فيها الأخ عن أخيه حتى لا يكفله، وهي الدار التي سرق فيها المثقف الكتب وأصبح بعد ذلك برجوازيًّا، وهي الدار التي غدر فيها الصديق صديقه، وهي الدار التي خانت فيها الحبيبة حبيبها، كل هذا خلال وجوده هناك، في السجن، مغيّبًا عن ذاته وهي تتشظّى لتكون حطامًا يحاول إعادة ترتيبها لكنه يفشل. العمل الذي قدم على شكل لوحات تداخل فيها الزمن وتعددت فيها الشخوص، ربط فيها الزيودي بين الأحداث ليسهم في تطوير مساراتها لتصل إلى نهاية مرسومة وهدف واضح أمسك به الزيودي منذ اللحظة الأولى، ساعده في ذلك قدرات الممثلين وحضورهم البارع وانتقالهم من لوحة إلى أخرى ببساطة وقدرة على تجسيد الفعل نفسيًّا وبدنيًّا. قدَّم الزعبي جهدًا واضحًا إنْ لجهة السينوغرافيا أو لجهة دوْر الراوي أو ضمير المجتمع المحرك للقصة، ومن خلال موسيقى هي الأخرى ترسم بدلالاتها وكلمات الأغاني المرافقة لها رقعة أخرى ومكانًا آخر للسجن غير هذا الذي يتكرّس في ذهن السجين. كذلك، قُدِّمت في رابع أيام المهرجان مسرحية "الآخر" من تأليف الإسباني "ميجيل دي أونا مونو"، وإخراج حسين نافع، وفيها يبدأ المتلقي بالاستماع إلى حوار متصاعد يدور داخل وجدان شخصية ذكورية، ولكن مع اندفاع الفعل إلى الأمام نكتشف أنَّ هذا الحوار بينها وبين (آخر) مرتبط معها في أحيان، فيتَّفقان تارةً وأخرى يتخاصمان (جلاد وضحية)، فتتعاقب المشاهد واللوحات والأحداث، لسبر غور النفس البشرية، للإطلال على ما يدور في دواخلها، والتي ظهر في جلّها شخوص وأفكار مرعبة تارةً وتائهة تارةً ثانية، كما يرى الناقد المسرحي جمال عياد. ويضيف عياد أنه وبغض النظر عن اختيار هذا التكنيك الدرامي في السرد، إلا أن الأهم هنا الشكل الجمالي الذي طرحته الرؤية الإخراجية، ضمن فضاء قاتم، لطرح الغرائز البشرية بشهوانيتها وتعاليها، ومن جهة أخرى بضغائنها وغرائزها الحيوانية، وبضعفها وانهياراتها ولهاثها وهي في النزع الأخير، وعلى الرغم من خلوّ المسرح من الأثاث والديكورات، إلا أنه جاء محتشدًا بعلامات دلالية مرئية، بفعل الصياغات الدرامية لتصميم الإضاءة البارعة لمحمد المراشدة، الذي استطاع وطيلة زمن العرض، أن يجعل المشاهد لا يشعر بأنَّ المسرح كان فارغًا إلا من كتلة المرآة أساسًا التي اشتغل عليها نافع لدلالات متعددة بوجود الزوجة والأخرى، وحضور أمكنة متعددة. ويرى عياد أنَّ فكرة اختيار الإخراج لتقديم شخوص الذكور: (الأخوان)، و(الآخر) بممثلة، كانت موفقة في إعطاء الإثارة لنظام التلقي للمسرحية، وبرعت الممثلة أريج دبابنة في ذلك، وقدّمت أنجي كود مستوى عال من الأداء في تجسيد شخصيتي (لاورا) و(داميانا) لتقف بنديّة أمام أداء الشخوص التي قدمتها دبابنة، حيث امتلك نافع قدرًا من المعرفة في التحليل النفسي لشخصياته، مما أسهم بقوة في تصميمها وبنائها، ومن ثم ظهرت مثيرة وغرائبية على الخشبة، نسبة للنمط التقليدي للشخوص في الخطاب المسرحي الثقافي الشائع، فجاء العمل متماسكًا ومهمًّا في آن واحد. وفي الخامس من أيام المهرجان الذي غابت عنه العراق بسبب الظروف الأمنيّة، عرضت مسرحية "مؤامرة شكسبيرية" للمخرج ربيع يوسف المأخوذة عن النص الشكسبيري "الملك لير"، ونص للكاتب العراقي الراحل "قاسم محمد" الذي هو الأخر يتكئ على النص الشكسبيري. يرى الناقد المسرحي رسمي محاسنة في تعقيب له على العمل: "إنّ العرض ليس بعيدًا عن الحالة السودانية، ويعاين قوة السلطة الممسكة بكل قواعد اللعبة، والتي أصابها الخرف، ولا تفكر بالتنازل أو مشاركتها السلطة، وليس لديها مشكلة إذا تم تقسيم البلاد وتمزيقها، وخلق الأجواء الملائمة لمزيد من الانقسام، وهذا يتجسد في العرض من خلال شخصية البهلول "ابوبكر مبروك"، هذه الشخصية المشاكسة، القريبة من الملك، لكنها تقول رأيها بوضوح وصراحة فيما يقوله ويفعله الملك "لير"، وهي بذلك تمثل "الحكمة" والضمير الجمعي الرافض لكل ما يدور، وهو على الرغم من بساطة شكله ومفرداته، إلا أنه يحمل فكرًا، ويمثل طريقًا آخر هو أقرب إلى الناس والحقيقة والمنطق الفطري للحياة". القصة التي حملت العرض، والسينوغرافيا التي تمثلت في القطع المتناثرة في جنبات المسرح، تؤكدان عبثية التناول السياسي للفضاء الإنساني، وتحمل في طياتها قراءة واضحة للفوضى وأسبابها في المجتمعات العربية، الفوضى التي يتجلّى المخرج في تصويرها من خلال ما قدّم من أدوات أقرب إلى الاكتمال على خشبة المسرح على رأسها قدرات الممثلين المهمة، والموسيقى التي خلقت الشحن العاطفي لتحمل رسالة العمل الفكرية ومحمولاته السياسية. مسرحية "ملحمة السراب" للمبدع سعدالله ونوس، وإخراج نبيل الخطيب، والتي عرضت خامس أيام المهرجان إلى جانب مسرحية "الحادثة"، استندت على جُمَل إبداعيّة من التراث الشعبي أسّست للحكاية وفضاءاتها، وقدّم فيها الممثلون أداء جماليًّا أسهم مع مؤثثات العرض المختلفة في تكوين الشكل النهائي للعرض. النص الذي حاول فيه ونوس أن يتخيّل بأسلوبه المبدع التحوُّل الاجتماعي في الأرياف والغزو العولمي لكل شيء، وما نتج عنه من صراعات قيمية وإنسانية جذرية في مجتمعاتنا امتدّ في الأسرة الواحدة، فرض على المخرج تشكيل رؤيته من خلال شخوص مركبة في الوعي، فقدّم الخطيب رؤيته المرتكزة على هذا الصراع لإيصال رسائله، فتنوّعت الشخوص التي أبدع في تقديمها زيد خليل مصطفى مع ذكريات حمايدة، ومعتصم سميرات، وأليسار الزعبي، في إنجاز الرسائل المهمة للعرض، حيث تنوّعت الدلالات التي أسهمت فيها الإضاءة التي بناها ماهر جريان وباقي عناصر العرض في تعميق المعنى للفضاء المسرحي للقصة من خلال ما قدم الخطيب من رؤية إخراجيّة. العمل الذي يستند في بعض أفكاره على الصراع من أجل المال والثروة، يرسم فيه المخرج مدى انحدار هذا الصراع إلى مستويات هابطة شوّهت المجتمع، لكنها في الوقت ذاته كشفت عن وجه القبح الذي قتل أحلام البسطاء وجعلهم يركضون خلف سراب. وتحضر رواية "جامع الفراشات" للكاتب الإنجليزي "جون فاولز"، من خلال نص يستلّه منها الكاتب المصري لينين الرملي ويخرجه المخرج المصري عمرو حسان، بعنوان "الحادثة"، ومن بطولة ميدو عبدالقادر، وشيماء عبدالناصر، فتحي الجارحي، ونيجار محمد، حيث يقدم رؤية جديدة تناقش بوضوح مسألة الحرية والانعتاق، من خلال القصة نفسها التي يبدأ فيها الفتى بجمع الفراشات التي يعشقها، لتقع في نهاية المطاف الفتاة كواحدة من هذه الفراشات أسيرة في قبضته، وتبدأ محاولات التفلّت والانفكاك من سجنه على الرغم من إغراءات هذا السجن إلا أن الحرية أفضل بكثير. قدّم عمرو من خلال أدواته الإخراجية عرضًا مهمًّا ومتماسكًا بدءًا من الأداء التمثيلي وإسقاطات النص والديكور والإضاءة التي تسهم في تكوين الفضاء النفسي من خلال القصة التي يسردها النص. الأمر الذي دفع بالمتلقي أن يعيد قراءة العمل من خلال مجموعة من الإحالات والتي تصبّ في مجملها في السياق نفسه الداعي إلى الحرية، سواء حرية المرأة أو حرية السلطة، ثم يترك المخرج فضاء العمل الفكري مفتوحًا على العديد من التأويلات خاصة عندما تتحول الضحية إلى جلاد، وفي الحياة كثير من الشواهد التي تدل على التحول الرهيب في سلوك شخصيات سياسية عندما تسلّمت السلطة. ليفتح العمل آفاق الأسئلة على هذه العلاقات الشائكة ويعيد انتخاب إجابات مفتوحة على كل التأويلات. وفي آخر أيام الدورة 26 من أيام مهرجان الأردن المسرحي والذي قدمت فيه فرقة فرسان البادية عرضًا فنيًّا احتفاء بالضيوف، عرضت "الكراسي" التي أعاد المخرج علي الجراح من خلالها تثوير حالة الوعي تجاه بؤس الإنسانية وعبثية الوجود من خلال نص "أوجين يونسكو"، الذي كتبه قبل أكثر من 70 عامًا، وأعيد إنتاجه عشرات المرات، والذي ينتمي لمسرح اللامعقول، أو العبث، يسرد قصة عجوزين يسكنان بيت في إحدى الجزر المعزولة، (عمران العنوز، نهى سمارة) يستعدان لاستقبال ضيوفهما لتبليغهم رسالة، فيجمعان الكراسي استعدادًا لاستقبال الضيوف، وإحضار الخطيب المفوّه الذي سينقل الرسالة للحضور. العمل الذي بدأ فيه الحوار باردًا سخنت فيه الأحداث لتكشف عمّا يريد أن يقوله الجراح، ومن خلال أداء تمثيلي مهم قدّمه العنوز وسمارة، فتجسَّدت على الخشبة شخصيات طاغية الحضور والملامح، أسهم في ذلك الإضاءة ومجمل الفعل السينوغرافي الذي رسم ملامح البؤس الذي يتسيّد القصة، والسواد الذي يعيد إنتاج الإنسانية بوجهها القبيح كما يراها "أوجين" وكما قدّمها الجراح، ليظهر الواقع الإنساني البائس الذي صوّره "أوجين" هو نفسه الواقع الأشد مرارة في رؤية الجراح الإخراجيّة ليعمّ السّواد على المسرح.