د. نعمات الطراونة
كاتبة وباحثة أردنية
ne_awad@yahoo.com
يُشَكّل التراث الشعبي ثروة من الآداب والقيم والعادات والتقاليد، وما يرتبط بها من مأثورات، هنا تأخذنا د.نعمات الطراونة في رحلة تكشف عن عادات وتقاليد أردنيّة ترتبط بـِ"خضيض" الحليب، تقول الطراونة: "تخضّ جدَّتي على القُرقَعة، وكان دائمًا يتبادر لذهني ذاك الحدث الذي يرتبط في الخضيض وهو أنَّ الرّايب قد يتحوَّل كُلّه إلى زبدة، فهي بَرَكَة قد تكون على يد إحدى النسوة، فيتيبَّس السقا، وما إن ترى ذلك حتى تسارع إلى جَدْع(12) ذبيحة لوجه الله تعالى على هذه البَركة ولا تُخبر النّاس عنها، وكنتُ أتمنّى أنْ يحدثَ ذلك مع جدّتي وأنْ أشهَدَ هذا الحدث".
قَبْلَ أن تغادر الطيور وكُونِها، تنهي جدّتي وأمّي حلب الغنم التي نظمها الراعي في الرِّبق(1)، وقد يمسك الراعي رأس إحداهنّ قرِّي حَلَب(2)؛ لأنها قد ترفس دلو الحليب فينسكب في الأرض فتبدأ المسبّات عليها: "ولّ عليك نعجة صَايدة(3)"، تُدخل أمي الحليب فتقوم بتوزيع بعضه على الجيران فهو حليب سِمَاط(4) أوَّل حلْبة للغنم بعد بيع البَهم(5)، وتضع الجزء المتبقي منه في السِّقا/ المِفْرَغَة(6)، وتتركه حتى المساء ليروب.
عند الغروب يعود الراعي بالغنم، تأخذ كل واحدة مكانها عندما تسمع صوته قائلاً: "حَلَب"، يسهل عليه ربطها في الرِّبق، ويتم ربط الفُطْمان(7) في رِبْق خاص، "يا عويلي اربطوا الفُطمان في الرِّبق لا يقطِّعن الرُّفّة"، وكنّا نشارك الراعي أحيانًا في ربطها، وقد نتجرَّأ فنقوم بحلب الغنم، " اقعدي يا بنت لا تكبِّي الحليب".
تنتهي عمليّة الحليب، وتدخله أمي فتُزلِّه(8) على الِمَزلّة، بينما تُعِدُّ جدّتي إبريقًا من شاي الحليب، تجتمع حوله العائلة والراعي، وبعد الانتهاء منه يخلد الجميع إلى الراحة، فقد أعدّت جدتي مكانًا خاصًّا للنوم، حيث جمَعَتْ كمية كبيرة من الشّيح والقيصوم وفرَشَتْها رَصَفٍ من الأرض ليعلو عليها الفراش عن الهَوام، وتتَّجه جدّتي وأمّي إلى تفريغ الرّايب في المِفرَغَة، وتضعه في البَاهِرَة(9)، أو باب البيت ليبرد طوال الليل.
نصحو على صوت الراعي مرَّة أخرى، وأصوات رعيان الجيران في العَرَب: "قِرِّي حَلَب"، هذه النغمات التي اعتدنا على سماعها صباحًا ومساءً، وأصوات ثغاء صغار الخرفان على أمهاتها. وبعد الانتهاء من حلْب الغنم، تخبز أمي العجينة على الصّاج، وكنّا نحيط بجورة النار لتناول طعام الإفطار، نتناول خبز الشِّراك من على شُجيرات الحطب التي جمعتها أمّي ووضعتها على شكل سياج في بَاهِرة البيت الأماميّة، ونغمس لقيمات الخبز في رايب وضعته لنا جدّتي في صحن الألمنيوم من السِّقا، ونشرب عليها الشّاي من ذاك الإبريق الزجاجي الأزرق بجانب الصاج، وجدّتي تُشَرِّع الرِّواق من الجهة الشماليّة الغربيّة وتضع المِرْشَحة(10) لتفرد قُرقَعَتها المصنوعة من جلد تيسين أو عنزين، وتُفرِّغ الرّايب فيها لتُعِمل فيها أنفاسها في النَّفخ، وكنتُ أعجبُ كيف لجدَّتي وهي الكبيرة في العمر أن تنفخ هذا الجسم الضخم، وكم جلسنا على الجهة الثانية لندفعها معها، وعندما تكون كميّة الرّايب قليلة كانت جدّتي تخضّها في السِّقا بأن تُعلِّقه لنا على الرِّﮔابة(11) لنخضّه عنها.
تخضّ جدَّتي على القُرقَعة، وكان دائمًا يتبادر لذهني ذاك الحدث الذي يرتبط في الخضيض وهو أن الرايب قد يتحول كُلّه إلى زبدة، فهي بَرَكَة قد تكون على يد إحدى النسوة، فيتيبَّس السقا، وما إن ترى ذلك حتى تسارع إلى جَدْع(12) ذبيحة لوجه الله تعالى على هذه البَركة ولا تُخبر النّاس عنها، وكنتُ أتمنّى أنْ يحدثَ ذلك مع جدّتي وأنْ أشهَدَ هذا الحدث.
تُنهي أمي أعمالها: "تعالي يَمّه خُضِّي عنّي خلّيني أعبِّي غليوني واشرب لي كاسة شاي"، تقوم جدتي وتُعدّ غليونها، وتأخذ أمي مكانها بسرعة حتى لا يبرد الدّرّ(13)، جدتّي: "يمّه افتحيها شوفي الزبدة التمَّت"، تفتح أمي القُرقَعة، "هاتِ لي يا بنت من القلن صبيب(14)"، تصبُّ أمي الماء فوق اللبن وتنفخ القُرقَعة مرَّة أخرى، تدخل جارتنا: "يَلّا نَرِد على الغدير"، تشدّ أمي القلنات وأحيانًا الرّوايا(15) على الحمار بعد وضع المِرشَحة والوِثْر(16) عليه، استعدادًا لرحلة الوَرِيد، وقد كنّا نتشاجر أنا وإخوتي مَن يركب على الحمار، وقد يعود بعضنا إلى البيت عقابًا له.
يقف الحمار بجانب غدير الماء، وتقتلع أمي شجرة من الشيح أو القيصوم فتضعها بجانب الماء لتزلل من فوقها الماء ممّا علق به من الأعواد أو البعر الذي جرفته مياه الأمطار، وتبدأ بتعبئة الماء بعد وضع المِحقَان الذي تلازمه المَزَلّة لتزلل الماء عليها.
نعود لبيت الشَّعر وقت الظهيرة لنجد جدّتي لم تبرح مكانها، فقد خلا لها الجوّ من ضجيج الأحفاد، فبدأت تستذكر رحيل الأحبّة، فتمعد بهم وتكفكف دموعها بطرف رِدْن مِشلَحها(17):
يا قاعدين الحَوْل طال مناكو... وانتوا تِجوا والا الزمان اغَداكوا
مَرّيت من طرف العَرَب مَدَّادي... يا جُرن اعتيق حِسّه ينادي
مَرّيت من طرف العَرَب مِتعَدِّي.... يا جُرن كديان حِسّه يُوَدِّي
يا امْدَلله لا تيمِّنِي للبين... والبين شَظى كلِّ خَدٍّ زَين.
تمسح جدتي دموعها: "يَمّه تعالي هَدْهِدي(18) على القُرقَعة خليني أروح إلى الشّق أشرب قهوة، أرسلت لي أم عبدالكريم مع بنت عايشة"، تُهدهد أمي على القُرقعَة، وبعد هنيهة تُحضر القِدْر وتُفرغ به اللّبن، وتعزل الزبدة منه، وتبدأ بوضع الزبدة واللّبن لتوزيعها على الجيران فهذه أوَّل خضّة، لأعود أنا بعد رحلة توزيع اللَّبن بالكثير من العطايا عن الفَلاَس "صُرّة من السكر، أو العدس المجروش، أو الأرز، أو حبّات بطاطا أو بيض بلدي".
تُعِدُّ أمي النار لتُجَبجِب ما تبقّى من اللبن، وتضع ما تبقى من الزبدة في المِزْبَد(19)، حيث حفرت في رفّة البيت جُورة فرشتها بالشيح والقيصوم وبعض الشُجيرات، ووضعت على الزبدة القليل من الملح لحفظها من التعفن أو أن يبخَّ بها الدود، تنزل أمي قِدْر الجبجب عن النار (ليَمصُل)(20) وتضعه في المِخَلاة، وتتركه قليلًا ثم تربُصه على صخرة ملساء لليوم الثاني حيث يُعجن مع الملح ويُربص مرَّة أخرى حتى اليوم الثالث ليتم تعجينه وصنع زعاميط اللّبن منه(21).
وفي ما تبقّى من جمر النّار تخبز أمي قرصًا (عَربُود)، تفتّه في قليل من الجِبجِب، وتُقَفِّرَه ببعض السمن البلدي، فنجتمع حوله مع جدَّتي التي عادت توّها من ديوان القهوة. وتشدّ أمي العزم في رحلة جمْع الحطب مع جاراتها، وننطلق معها في البَرِّيّة الرَّحبة نجمع بعض البَقْل (الشَّحوم والقِعفير والسِّيخ والضُّبّح والحَيبَصُون)، ونعود في المساء قبل عودة الرّعيان.
• الهوامش:
1- الرِّبق: حبل فيه عُرى لربط الغنم عند الحليب.
2- قري حلب: كلمات يقولها الراعي للغنم لتتوقف للحليب.
3- صايدة: حركتها كثيرة.
4- حليب السماط: أوَّل مرَّة تُحلب فيها الغنم بعد بيع خرافها.
5- البهم: صغار الخراف.
6- السِّقا/ المفرغة: وعاء من الجلد المدبوغ يُوضع فيه الحليب بعد أن يروب.
7- الفُطْمَان: صغار الماعز.
8- فتُزلِّه: تنقّيه من الشوائب على طرف قطعة قماش.
9- الباهرة: الجزء الداخلي من البيت.
10- المِرشَحة: البرذعة، وهي قطعة مكوَّنة من مجموعة أقمشة مُخاطة على شكل مستطيل تُوضع على ظهر الحمار.
11- الرِّﮔابة: ثلاثة أعواد تربط من الأعلى وتُوضع على شكل ثلاثي يُعلَّق عليها السِّعن للخضّ.
12- جَدع: قطع أذن الشّاة على نيّة أنها ستُذبح في ما بعد.
13- الدَّر: الحليب الرّائب.
14- الصّبيب: الماء الذي يُضاف للرايب ويساعد على جمع الزبدة أثناء عملية الخضّ.
15- الرّوايا: مفردها رَاوية، وهو وعاء لجلب الماء.
16- الوِثر: أداة من الخشب تُوضع على ظهر الحمار لحمايته عند حمل الماء عليه.
17- ردن مشلحها: كُمّ مدرقتها.
18- هدهدي: خضّي عليه ببطء شديد حتى تجتمع الزبدة.
19- المِزبَد: مجموعة من الجلود تمَّت خياطتها ودبغها جيدًا، وتمتاز بأنَّ بابها واسع ليسهل وضع الزبدة فيه.
20- يَمصُل: ينفصل المُصل عن الجِبجِب.
21- الزعاميط: كرات الجميد.