محمد سلام جميعان
شاعر وناقد أردني
mjomian@gmail.com
ثقافة عربيّة
حياة متوسطيّة وعندما تكون في بلاد ماركيز/ أمجد ناصر
يَأْخُذُنا أمجد ناصر في هذا الكتاب نحو أقاليم جغرافيا البلدان والنفس، حيث يترنَّخ الإنسان بالرطوبة والظلال الثقيلة وبالشموس الساطعة، ويلتقي مشاهد الطبيعة وألوان الحضارات التي تفتح في الوعي مغاليق الزمن والرُّؤى. فأدب الرِّحلة الذي يمثِّله هذا الكتاب، يصدح في الأزمنة والأمكنة والشخوص، ويسترجع مواقف وذكريات تمسح عنها الكلماتُ ألوانَها المتضاربة، الممزوجة بالفتنة وخفقات القلوب المشغولة بإضاءة الصوت والذاكرة.
يدٌ خضراء تسرد التفاصيل، فتصنع منها مجسّمات منمنمة، توحي بأنَّ صورة الأشخاص والأمكنة التقطت للتَّوّ، فالكلمات في هذه النصوص الارتحاليّة متحرِّرة من الاستطرادات عديمة الجدوى. فكل عبارة سرديّة تضيف إلى الوعي معمارًا معرفيًّا جديدًا تتدلّى منه عناقيد أنضجتها تجربة الكتابة، فتحوَّلت إلى كتابة حِرّيفة تتسامق فيها الأحاديث كأنَّ أمامك كائنات تتحرَّك على المسرح... يتدفَّق أمجد ناصر كما تتدفَّق الحمم البركانيّة؛ حارّة وملتهبة، فيكتب معتصمًا بطبغرافيا الشعر، الذي يحضر شعراؤه في رحلته إلى "أمالفيا" في إيطاليا، فيبدو حديثه مع الشعراء مثل موجة زرقاء لامعة تحت الشمس الحزيرانيّة.
في سرديّة أمجد ناصر التالية مغزىً عميق للأدباء الدون كيشوتيين عندنا، يرويها أمجد في معرض حديثه عن رحلته إلى كولمبيا، يحكي أمجد: "لم يعمل ماركيز، حسب ظنّي، على رفع قامته فوق قامات الآخرين، ولم يغمغم أو يتلعثم عندما تُذكر أسماؤهم أمامه"، كما يفعل بعض الشعراء والكتاب العرب عن مجايليهم، بل تجده طليقًا، فائضًا في مديحهم، و"مَن يقرأ حواره الشهير في "رائحة الجوافة" يدرك ذلك تمامًا. فقد توقّف، مليًّا، أمام الأسماء التي رافقت انطلاقته الأولى، مثلما توقّف أمام أسماء لاتينيّة وعالميّة ساهمت في إثراء موهبته الأدبيّة. وقد فعل ذلك، بكل حبَّ وإعجاب".
حكايات المقهى العتيق/ مجموعة مؤلِّفين
عبارة ابن خلدون: "إنَّ التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق"، التي صدَّر بها كاتبو الرواية روايتهم، تُحيل على الرغبة في إسقاط الحدث التاريخي على ما يُماثله في الراهن. يبدو هذا واضحًا منذ الفصل المُعنون بـِ"مؤاب"، وفيه تعمل الشخصية المركزية على استعادة الأصوات، وهي تحدِّق في جسر "بروكلين". وفي هذا الفصل تسويغ للمذهب الأدبي الذي تستند إليه هذه الرواية المحتفلة بمدينة مادبا تخصيصًا، فهي بطلة الرواية.
يتداخل التاريخ بالرواية متواشجًا مع حداثة التكنولوجيا، وليس التاريخ هنا سوى البحث عن الجذور، وبمعنىً آخر اصطناع هوية مفقودة أو مُغيَّبة، وهو عمل مشروع في ظلّ تغييب التاريخ ومداهمة الإثنيات والأعراق للذات الإنسانية الجريحة بالغربة والاغتراب. فإعادة اكتشاف دلالة الاسم "مؤاب"، واسترجاع الجغرافيا على نحو سياحي، في مقدمة الرواية، إحدى المقاصد التأويليّة الروائيّة للعبارة الخلدونيّة: " في باطنه نظر وتحقيق".
تسع حكايات يرويها تسعة رواة، أوّلها على لسان ميشع بن كموشيت الديبوني. وكل حكاية تكشف جانبًا من جوانب التأريخ المأدبي الغارق في المجهول، أو المعلوم المبني للمجهول، فتغييب الماضي تضليل للحاضر، وبالتالي إلغاء للذات الحضاريّة الممتدّة في عروقها في سحيق الزمن.
"آسبيناز" إحدى الشخصيات المحورية، صراعها قاتل ومؤلم، يندمج القارئ مع مشاعرها وهي تتأرجح بين الحرية والعبودية، لكنها تتكامل مع شخصية ميشع.
تناوب السرد والحوار فشكّل قوام الرواية/ البحر، الذي تغذّى من تسع مصبّات، استطاعت شقّ طبغرافية المكان بمنعرجاته السياسية والحضارية والوجدانية، فتخلّقت مادبا من جديدة في رواية مكان عزفت على التاريخ سمفونية عذبة، تستدعي الكتابة التفصيلية عنها في زمنٍ لا يعتذر عن ضيق المساحة، وهنيئًا للتسعة رهط بمنجزهم المأدبيّ.
الصُّورة الفنِّية عند المرأة في العصر الجاهلي/ سالم الغويين
ينطلق هذا الكتاب من كون الشعر الجاهلي ناقلًا لبعض جوانب الحياة الجاهلية، وأنَّ الصورة تُكسب الأثر الأدبي انتباه المتلقّي ويقظته، فتشدُّه للمعنى، وتثبِّت الفكرة والإحساس بها. ويستقيم موضوع الكتاب في أربعة فصول وخاتمة، يسبقها تمهيد، عرض فيه المؤلِّف مفهوم الصورة الفنية عند النقاد القدامى والمحدثين.
وخصَّص الفصل الأول لدراسة موضوع الصُّورة الفنيَّة عند الشاعرة الجاهلية: باكيةً، ومحاربةً وأُمًّا. ودرس في الفصل الثاني أهم الموضوعات التي تطرّقت إليها الشواعر الجاهليات كالرثاء والهجاء والفخر المحارب والقبيلة والحكمة. ودرس في الفصل الثالث مصادر الصُّورة الفنيَّة عند الشواعر الجاهليات وحصرها في المصدر الطبيعي والإنساني والثقافي والحيواني. وخصَّ الفصل الرابع بأنماط الصُّورة الفنيَّة البصرية اللمسية والسمعية. واتَّبع المؤلف المنهج الوصفي التحليلي.
لكن ما يفاجئ القارئ هو رغبته في إعادة النظر في مدى قناعته بالنقد الأكاديمي الصرف، كونه يُثلّج النصوص المشتعلة بالمعاني الخصبة والحارّة، إذ يغدو التحليل في مفهوم هذا النقد شروحات للأبيات الشعرية وملء فراغات حواشي المعنى بدلالة المفردات اللغوية.
لا يخلو الكتاب من التماعات متفرقة، وفَّرت للباحثين مادة معرفيّة في صعيد واحد يمكن استثمارها في ما بعد لتكوين نسيج مختلف، يُنصف المرأة الجاهلية في أدوارها الحياتية والحربية. فما يكاد يأتي الحديث عن النساء الشواعر في الجاهلية حتى تتصدَّر الخنساء المشهد الشعري في كل موقف، فتغدو المرأة في هذا العصر مُستلَبة في الشعر والحياة. إنّما الكمال لله وحده الذي علّم بالقلم.
ثقافة عالميّة
"الأثر المقدس"/ إيسا دي كيروش
حياة مزدوجة يعيشها بطل الرواية، فيُظهِر أمام خالته المتديّنة، النُّسك والتديُّن والورع ولا تفوته صلاة واحدة في الكنيسة، ومن ورائها يرد النساء ويعاقر الخمر ولا يكفّ عن التمتع بكل ملذات الحياة. يروي له أحد أصدقائه أحاديث عن الحرية غير المقيّدة في باريس، فيطلب من خالته أن تسمح له بالسفر لباريس، لكنها ترفض وتطلب منه السفر إلى القدس لأداء الحج وليحضر لها أثرًا مقدّسًا من هناك. وفي رحلته إلى القدس يقدِّم لنا وصفًا دقيقًا لمدينة القدس وأهلها وعاداتهم في الربع الأخير من القرن التاسع عشر.
يطرح الراوي أفكاره وتأمُّلاته الثائرة على التديُّن المزيَّف من خلال منامه خوفًا من ملامة رجال الدين له. ومن مقدمة الرواية يكتب مؤلِّفها: ( بلد الإنجيل، الذي يُذهِلُ كلَّ مَن كان له قلب، بدا لي أقل إثارةً للاهتمام ببلد أجدادي "ألينتيجو" بسبب جفافه، ولا يبدو لي أنَّ الأرض، التي شَرُفـَت بوجود المسيح عليها، يمكن أن تتفوّق على بلادي في جمالها وروعتها... صحيح أنني لم أحظَ بجولة في الأماكن المقدسة في بلاد الهند حيث عاش بوذا، وبساتين ميجادايا، أو تلال فيلوفانا، أو وادي راجاجراها العذب، حيث كان المعلم الكبير يعطي أتباعه دروسًا فيها. كما أنني لم أزُرْ غار حراء، ولا رأيتُ الأماكن المقدسة بين مكة والمدينة، التي تردَّد عليها كثيرًا ذلك النبي العظيم مُحَمَّدٌ، على ظهر ناقته متأملًا في هدوء... ولكنّي أعرف جيدًا الأماكن الممتدة بين أشجار التين في بيسان حتى برك المياه المحيطة بمدينة الجليل، وأعرف جيدًا الأماكن التي عاش فيها ذلك الرسول المبعوث من الله، الذي ملأ قلبه الحب، والأحلام، ذلك الذي نسميه الربّ يسوع، ولم أجد فيها سوى القسوة، والجفاف، والخراب، والشعور بالوحدة، والأطلال).